أنطوان فرح -الجمهورية
سجّل سعر صرف الدولار في السوق الحرة تراجعاً سريعاً قبيل الاعلان عن ولادة الحكومة الميقاتية. واستقطب سعر الصرف الاهتمام الشعبي، الى حدٍ فاق الاهتمام بحدث ولادة الحكومة نفسها. وبات السؤال المطروح لدى الجميع، كم سيتراجع سعر الدولار، وما هو القعر الذي سيستقر عليه؟
في فترة تشكيل الحكومة التي بدأت قبل نحو خمسة اسابيع ونيف، احتل موضوع سعر الصرف صدارة الاهتمامات في احاديث المواطنين. وكانت الإشاعات والاستنتاجات تملأ صفحات وشاشات وسائل التواصل الاجتماعي، وكلها تدور حول نقطة وحيدة مفادها، انّ الدولار سيشهد هبوطاً دراماتيكياً إذا نجحت مساعي تشكيل الحكومة. وقد أعطى المنظّرون على الـ»سوشيل ميديا»، أرقاماً متفاوتة حول السعر الذي سيستقر عليه الدولار. المتشائمون قدّروا بأن يصبح سعر الدولار بين 12 و14 الف ليرة. المتفائلون جزموا بأنّه سيثبت على سعر ما دون الـ10 آلاف ليرة.
هذه الأجواء التي ملأت فضاء الثرثرة الإجتماعية، فعلت فعلها بالمواطن الذي بات خائفاً ان تخسر مدخّراته قيمتها مجدداً، بعدما كان قد خسر ما خسره عندما سحب أمواله بالليرة واشترى الدولار بسعر يفوق أضعاف سعره ما قبل الأزمة. او عندما سحب مدخّراته اللولارية على 3900 ليرة، وعاد واشترى بها العملة الخضراء لتخبئة الدولار الأبيض لليوم الأسود. أو حتى عندما تقاضى تعويض نهاية الخدمة بالليرة، واشترى الدولار لحماية ما تبقّى من هذا التعويض.
في المقابل، لوحظ انّ الصرافين كانوا يشترون الدولار ولا يبيعوه. كثيرون ظنّوا انّ الصرافين يخزّنون الدولارات لأنّهم يتوقعون ارتفاعها مجدداً، لكن الحقيقة انّ الصرافين مجرد وكلاء لمتمولين وجهات اعتبرت انّ الوقت مناسب للمّ الدولارات بسعر منخفض نسبياً.
في الانتقال الى سعر الصرف والتقديرات في شأن السعر الذي سيرسو عليه في المرحلة المقبلة، لا بدّ من تسجيل الملاحظات التالية، التي من شأنها التأثير على سعر الليرة:
اولاً- رفع الدعم عن المحروقات، واضطرار بعض التجار الى اللجوء الى السوق الحرة لشراء العملة الصعبة بهدف فتح اعتمادات الاستيراد.
ثانياً- البدء في تنفيذ التعميم 158، والذي ينصّ على السماح للمودع بسحب مبلغ شهري بالليرة قد يستخدمه لشراء الدولار. كذلك، وفي حال تمّ رفع سعر السحب، ستتوفر مبالغ اضافية بالليرة قد يُستخدم قسم منها لشراء الدولار.
ثالثاً- مصرف لبنان الذي كان يموّل حاجات الدولة والمجتمع من «دولاراته» الاحتياطية، لم يعد قادراً على ذلك، لكن هناك حاجات حيوية لا بدّ من تأمينها بالدولار، وبالتالي، سيلجأ بدوره الى السوق الحرة لتأمين قسم من هذه الدولارات.
رابعاً- الموسم السياحي الذي ساهم في دخول دولارات اضافية الى السوق، وأمّن نوعاً من الاستقرار النسبي في سعر الصرف طوال الشهرين الماضيين، انتهى منذ فترة، وبالتالي انتهت مفاعيله الإيجابية الظرفية، وعدنا الى المسار العادي في حركة دخول وخروج الدولارات من السوق الحرة.
خامساً- الإجراءات الطارئة التي قد تضطر الى اتخاذها الحكومة الميقاتية في مواجهة الأزمات الحياتية الظاغطة، قد تشمل اجراءات تحتّم التمويل، بما يستدعي شراء دولارات اضافية من السوق، او طباعة كمية اضافية من العملة الوطنية. وفي الحالتين سيرتفع الضغط على سعر الليرة.
سادساً- يتزامن تشكيل الحكومة ونيلها الثقة مع فتح الموسم الانتخابي. وخوض الانتخابات النيابية من قِبل القوى السياسية يحتّم رفع وتيرة التوتر، وتزخيم الخطاب الطائفي، والتسابق على التزمّت والتطرّف، بما يعني عملياً توتير الاجواء، وخلق مناخات غير مريحة ستأكل من رصيد المناخ الإيجابي الذي خلقه تشكيل الحكومة، الذي وضع حداً للفراغ في موقع السلطة التنفيذية.
انطلاقاً من هذه الملاحظات والوقائع، هل يمكن التكهّن بالسعر الذي سيبلغه سعر صرف الدولار في السوق الحرة قبل الوصول الى توحيد السعر لاحقاً، في اطار تنفيذ خطة اقتصادية شاملة بالتوافق وبرعاية صندوق النقد الدولي؟
يصعب الجزم من دون المجازفة بالدخول في لعبة تخمينات، لا يمكن ان تتمتّع بصدقية علمية أو واقعية. لكن يمكن الجزم، بأنّ سعر الدولار ليس مجرد سعر سياسي كما نسمع بين الحين والآخر، ولا هو سعرٌ يعكس الواقع المالي والاقتصادي على حقيقته، لكن الأكيد انّ الحاجة الى العملة الخضراء لا تزال كبيرة، وكبيرة جداً، والأموال لن تتدفق بسحر ساحر في غضون ايام، كما يظن البعض. وتكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة يبدو محتوماً، للتعاطي مع أزمات طارئة لم يعد متاحاً الخروج منها بإسلوب إنقاذي شامل، بل تتطلب الترقيع المؤقت بانتظار الحل. كل ذلك يعني انّ سعر صرف الليرة سيبقى متدنياً، والدولار لن «ينهار» في لبنان، وأفضل ما يمكن ان نأمله في الاشهر القليلة المقبلة، هو ان يستمر سعر الصرف بالمراوحة، بين قعرٍ وسقفٍ مقبولين قياساً بالسعر الذي ورثته حكومة ميقاتي، أي حوالى 18 الف ليرة. وبذلك، نكون قد نجونا من تجربة الانهيار السريع الذي كان متوقعاً فيما لو لم تنجح مساعي استيلاد الحكومة، بانتظار بدء تنفيذ خطة تعافٍ، ليس مرجّحاً أن يبدأ تنفيذها سوى بعد الانتخابات النيابية في أيار 2022.