رنى سعرتي – الجمهورية
شكّك معهد التمويل الدولي، في آخر تقرير له تحت عنوان لبنان: تفاؤل حَذِر مقابل تحديات رهيبة، في إمكانية التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لانتشال الاقتصاد من أزمته الحالية، مشيراً الى ان الحكومة الجديدة قد تفشل في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية الأساسية لأنّ أكثر من نصف الوزراء يُدينون بمواقفهم لانتماءاتهم السياسية التي قد تمنع تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
فيما من المتوقع أن تستأنف الحكومة الجديدة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي قريباً، وفي سبيل الخروج من الأزمة الحالية، هناك حاجة إلى برنامج إصلاحي شامل لمعالجة الاختلالات الاقتصادية الكلية والاختناقات الهيكلية. وقد تم إعداد مثل هذا البرنامج الاقتصادي من قبل الحكومة السابقة في نيسان 2020، وهي خطة التعافي المالي التي لاقت استحسانا من صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي. ومع ذلك، فإنّ إطار الاقتصاد الكلي الوارد في الخطة المذكورة وإعادة الهيكلة المقترحة للميزانيات العمومية للمصارف التجارية ومصرف لبنان، بما في ذلك توزيع الخسائر، بحاجة إلى إعادة النظر حيث يجب التوصل إلى اتفاق بشأن الأرقام بين القطاع المالي الممثّل من قبل مصرف لبنان وبين الحكومة الجديدة، قبل استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
ولفت معهد التمويل الدولي الى انّ التوقعات في خطة التعافي السابقة استندت إلى متوسط سعر صرف قدره 3400 ليرة لبنانية مقابل الدولار. وعلى افتراض أنّ أسعار الصرف المتعددة الحالية ستوحّد عند حوالى 12000 ليرة لبنانية في حلول نهاية العام 2021، فإن الدين الحكومي المتوقع سيرتفع إلى حوالى 300% من الناتج المحلي الإجمالي. بالاضافة الى ذلك، فإن تضخم مؤشر أسعار المستهلكين لعامي 2020 و2021 يتجاوز بكثير التوقعات الواردة في خطة الحكومة في 2020، ما من شأنه أن يغيّر الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي، ويدفع لمراجعة معظم مؤشرات الاقتصاد الكلي من حيث الناتج المحلي الإجمالي. والأهم من ذلك، من غير المرجّح أن تتم معالجة وضع الدين العام بالعملات الأجنبية من خلال إعادة الجدولة فقط، بل ستكون هناك حاجة إلى إعادة الهيكلة والإعفاء لوضع الدين عند مستويات أكثر استدامة.
ولفت التقرير الى ان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومانحين رسميين آخرين سبق وأحجموا عن تقديم الدعم المالي للبنان بسبب الفشل المتكرر للطبقة السياسية في تنفيذ إصلاحات حاسمة، تشمل ما يلي:
• إجراء تدقيق كامل لحسابات البنك المركزي والمؤسسات العامة لتحسين الشفافية والمساءلة.
• اعتماد تشريعات لإضفاء الطابع الرسمي على ضوابط رأس المال.
• ضمان استقلالية الهيئة القضائية للحد من الفساد وتحسين المساءلة.
• توحيد أسعار الصرف المتعددة.
• إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان والقضاء على الخسائر الناتجة عنها.
• تحقيق فائض مالي أولي كبير ابتداءً من عام 2022 لوضع الدين الحكومي على مسار هبوطي ثابت.
• إعادة هيكلة النظام المالي، والذي سيشمل إعادة الرسملة ودمج البنوك.
• إنشاء شبكة أمان اجتماعي موسّعة لحماية الأشخاص الأكثر ضعفاً.
وتخوّف كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي د. غربيس إيراديان من ان تكون جهود حكومة ميقاتي مقيّدة بسبب الطبقة السياسية الحالية، شارحاً لـ»الجمهورية» ان جذور الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد تعود إلى تاريخ طويل من الفشل في تنفيذ سياسة اقتصادية ذات مصداقية.
قال: عكست هذه الإخفاقات عوامل اقتصادية سياسية أساسية ونقاط ضعف مؤسسية. وبالتالي، قد يكون نجاح الحكومة الجديدة الحالية في إصلاح الاقتصاد واستعادة الثقة مقيداً بالنخبة السياسية الفاسدة في البرلمان، والتي وضعت مصالحها الخاصة في المقام الأول على حساب الشعب اللبناني. لافتاً الى انّ عددا كبيرا من المشرّعين في البرلمان قد يعرقل تنفيذ الإصلاحات الرئيسية، بما في ذلك المراجعة الكاملة لحسابات البنك المركزي وإصلاح قطاع الكهرباء.
لكن رغم السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الصعب، توقع معهد التمويل الدولي أن تبدأ الحكومة الجديدة قريباً في تنفيذ الإصلاحات، بما في ذلك خطوات جريئة لإزالة مجموعة واسعة من التشوهات في الاقتصاد، وفي الوقت نفسه إدارة الغضب والتوترات العامة الناتجة عن رفع الدعم بنهاية أيلول. ومن المفترض ان يتزامن رفع الدعم مع توزيع البطاقات التمويلية بالدولار الأميركي على أكثر من 600 ألف من الأسَر الأكثر ضعفاً في البلاد.
ورجّح التقرير أن تنجح الحكومة الجديدة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي والبدء في معالجة ملاءة المالية العامة وسلامة المصارف بنسبة 50%، الأمر الذي من شأنه تسهيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإطلاق العنان للدعم المالي الكافي من المجتمع الدولي. وبما أن التفاوض مع صندوق النقد الدولي قد يكون عملية صعبة وطويلة، فإن الحكومة الجديدة ستكون قادرة على الاستفادة من حوالى 560 مليون دولار من قروض البنك الدولي (235 مليون دولار مخصصة لشبكة أمان اجتماعي طارئة للفقراء، و325 مليون دولار كمساعدات إنسانية) المتّفق عليها في مؤتمر المانحين في 4 آب في باريس.
الانهيار الاقتصادي والمالي
توقّع معهد التمويل الدولي أن ينكمش الاقتصاد بنحو 8% في عام 2021 مقارنة مع انكماش بنسبة 26% في عام 2020. وقد أدى هذا الانكماش، إلى جانب انخفاض سعر الصرف بنسبة 90% في السوق الموازية إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بأكثر من النصف بالدولار الأميركي، بناءً على متوسط سعر الصرف المرجّح من قبل المعهد. وانخفضت الأجور بشكل حاد حيث تسبب انخفاض سعر الصرف الموازي في تسارع التضخم إلى 123% في تموز، ومن المتوقع إلى 229% على أساس سنوي بحلول نهاية عام 2021. كما انخفضت الواردات بأكثر من 60% بالدولار الأميركي خلال الـ18 شهراً الماضية.
ومع رفع الدعم المتوقع عن المحروقات، وإذا فشلت الحكومة الجديدة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والاتفاق على برنامج لصندوق النقد الدولي قبل نهاية هذا العام، فقد يستأنف سعر صرف الليرة انخفاضه إلى ما يزيد عن 25 ألف ليرة لبنانية أي 16 ضعفاً السعر الرسمي، ما سيؤدي إلى تضخم أعلى بكثير في العام 2022.
ما هي توقعات معهد التمويل؟
نظراً للتوقعات غير المؤكدة، أعدّ معهد التمويل الدولي سيناريوهين مقبولين:
1 – يفترض السيناريو المتفائل (واحتمال حصوله بنسبة 50%) أن يُسمح للحكومة الجديدة بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية العاجلة التي سيقرّها البرلمان بالكامل، والتي ستؤدي إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية هذا العام. ومن شأن مثل هذا السيناريو أن يسهّل الوصول إلى المساعدات الإضافية التي تمسّ الحاجة إليها من مصادر أخرى متعددة الأطراف. في هذه الحالة ، يمكن أن يبدأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في التعافي إلى حوالى 4% في عام 2022 (وإن كان ذلك من قاعدة منخفضة للغاية). ويمكن ان يقابل الضغط التضخمي الناتج عن التخفيضات في دعم السلع الأساسية، ارتفاع كبير في سعر الصرف الموازي. نتوقع أن ينخفض متوسط معدل التضخم من 165% في عام 2021 إلى 131% في عام 2022. ومن المتوقع أن ينخفض عجز الحساب الجاري الذي تقلص إلى ما يقدر بنحو 11.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 مدعوماً بانخفاض الواردات بنسبة 40%، إلى 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 و6.4% بحلول عام 2025. كما سيتحسّن الرصيد المالي الأولي، حيث يتحول من عجز قدره 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021 إلى فائض بنسبة 0.7% في عام 2022، والذي سيستمر في التحسن إلى فائض بنسبة 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025.
يبقى السؤال: هل يستطيع لبنان تحقيق القدرة على تحمّل الديون؟ يمكن لبرنامج صندوق النقد الدولي أيضاً وضع الدين العام المرتفع للغاية في لبنان على مسار هبوطي ثابت من خلال تنفيذ تدابير مالية على النحو المبيّن في خطة السلطات.
وبما أن لبنان تخلّفَ عن سداد ديونه الخارجية، فمن المرجّح أن يُصاحب تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي مزيج من إعادة الجدولة وإعادة الهيكلة. وفي ظل سيناريوهات معينة لإعادة هيكلة الديون، جنباً إلى جنب مع الإصلاحات المالية، يمكن تخفيض نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 302% في عام 2021 إلى 119% في عام 2022 و83% بحلول عام 2025. وسيحدث معظم الانخفاض في عام 2022 بعد إعادة الهيكلة وشطب جزء من الدين الحكومي المقوّم بالعملة الأجنبية (سندات اليورو). وستكون استعادة عافية النظام المصرفي عملية طويلة حيث ان الثقة في النظام المصرفي تأثرت بشدة وتحتاج وقتاً للتعافي. ومع ذلك، ستحتاج العديد من البنوك إلى التصفية، وسيتبع ذلك عملية دمج لعدد قليل من البنوك التي تملك محفظة كبيرة من الديون غير السائلة.
2 – أما السيناريو المتشائم (فرصة حدوثه بنسبة 50%) فيفترض إجراء إصلاحات جزئية أو استقالة الحكومة، وعدم وجود اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ونقص في التمويل الخارجي الكافي. في ظل هذا السيناريو، سينكمش الاقتصاد اللبناني مرة أخرى، وسينخفض سعر الصرف الموازي أكثر، ربما إلى أكثر من 28000 ليرة لبنانية بحلول نهاية عام 2022، وسيظل التضخم أعلى بكثير من 170% لعدة سنوات، وستستنفد الاحتياطيات الرسمية المتاحة، وستبقى نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي أعلى بكثير من 300%.