عودة 16 سنة إلى الخلف. إلى آب 2005، عندما قرّر محقق دولي إخضاع السلطات الأمنية والقضائية اللبنانية، وقرّر اعتقال الضباط الأربعة وآخرين بتهمة المشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لندع الإجراء التنفيذي جانباً، لا لعدم أهميته، بل لأجل الاستعارة في مقاربة ما يجري اليوم. ومن لم يكن في كامل وعيه أو رشده في ذلك الزمان، ليس عليه سوى استعادة الأرشيف الإعلامي عما حصل يومها.
”أوركسترا” كان البارز فيها ما جرى في الشارع، وما رافقه من تسريبات إعلامية وشهود زور وتلفيقات، مع تركيز على حصر الضغط على النظام السوري بغية إنهاء وجوده العسكري والأمني، ومن ثم ضرب صلاته السياسية في لبنان. وجرى دفع القوى الرئيسية في فريق 14 آذار، لا سيما تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وحتى القوات اللبنانية وكل شخصيات هذا التجمع، إلى التفاهم مع حزب الله لمنع المواجهة الشاملة معه. لكن قائد “الأوركسترا” لم يتأخر طويلاً قبل أن ينتقل إلى المرحلة الثانية، التي انطلقت مع الإعلان عن تحقيقات تقود إلى وجود شبكة لبنانية لا سورية، والتمهيد داخلياً لمناخ تعبوي رافق العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان عام 2006. وفيما كان الجميع ينتظر أن تنجز إسرائيل المهمة ويأتي التحقيق الدولي بضربة الختام، جاءت نتائج الحرب مخالفة للتوقعات والتمنيات، فتقرر تسريع التصعيد السياسي الذي انطلقت معه عملياً مرحلة اتهام حزب الله باغتيال الحريري، لكن الأمر لم يكن ليقتصر على ذلك، لولا القدرة الهائلة للطبقة السياسية إياها، ومن خلفها العواصم الخارجية، على التحكم بالقضاء وأجهزة الأمن اللبنانية التي أبقت على توقيف الضباط الأربعة حتى تشكيل المحكمة الدولية ولفلفة قضية شهود الزور.
هذا التذكير هدفه، أيضاً، الإشارة إلى أن الأرشيف الإعلامي يعيد تظهير ما كانت تقوم به القوى السياسية الخادمة على الأرض. هل تذكرون الصور التي كانت ترفع في الساحات والتي تبين لاحقاً أنها شملت كل من كان يراد اعتقالهم وليس الضباط الأربعة فقط؟ ألم يقر المتورطون أنهم كانوا يريدون اعتقال سياسيين ووزراء وحتى قضاة وإداريين؟ هل تتذكرون التشهير والتهديد والترهيب بالشارع، وفي وسائل الإعلام، وفي بيانات مكثفة لمجلس الأمن ووزارات الخارجية في أميركا ودول أوروبا، وتهديدات سفراء أميركا وبريطانيا وفرنسا ومعهم السعودية وآخرون بغية إخضاع الجميع لما تتطلبه الصيغة الأميركية لضرب المقاومة وسوريا ومن كان معهم من حلفاء في لبنان؟
لنعد إلى أيامنا هذه.
الخارج الذي لا يتعلم من دروس التاريخ كما تدلنا تجارب العقدين الماضيين قرر تكرار المشهد نفسه اليوم. الفريق نفسه ينشط من جديد، وبكلّ عدّته الداخلية القديمة أو المستجدة، ومعه الفريق الخارجي من أميركا وبريطانيا وفرنسا (وألمانيا المنضمّة بتورط خبيث وخطير أيضاً)، وكذلك السعودية والإمارات العربية المتحدة وآخرون. انطلق هؤلاء في رحلتهم الجديدة بالمطالبة أيضاً بتحقيق دولي في جريمة انفجار المرفأ. لكنهم واجهوا صعوبة بفعل موازين القوى. ولأنهم هذه المرة لم يملكوا الوقت الكافي لبرمجة الأهداف بطريقة مختلفة، وكانوا في عجلة من أمرهم بغية تحويل النتائج الشعبية لحراك تشرين 2019 ومن ثم تفجير المرفأ إلى وقائع للإمساك بكامل مفاصل الدولة، أضافوا إلى جدول أعمالهم بند الإنهاك الجماعي للبنانيين، من خلال حفنة من التجار واللصوص والمرتهنين الذين لا يزالون في مواقعهم الرئيسية في قطاعات الأمن والمال وحتى القضاء.
لا هدف لكل هؤلاء سوى ضرب المقاومة وحزب الله. وهدفهم لا يتعلق بدور الحزب الداخلي، وهو دور شديد التسامح ومحل انتقاد غالبية حلفائه من المؤمنين بقضية المقاومة، بل يتصل بالدور المركزي الذي لعبته وتلعبه المقاومة ليس في المنطقة ككل. وجلّ ما يفكر به هؤلاء هو كيفية تحميل حزب الله المسؤولية عن كل خراب أصاب ويصيب لبنان. وها نحن نقترب من جولة سرقة كبيرة لمقدرات لبنان المنظورة أو تلك المخزنة في باطن الأرض والبحر من أجل ضمان تبعية كاملة لهذه البلاد للمنظومة الأميركية – الأوروبية – السعودية.
في اليد حيلة
ما يحصل منذ تولي طارق البيطار ملف التحقيق في جريمة المرفأ يشير إلى أمور كثيرة، البارز فيها أن هذه المنظومة وجدت في يدها حيلة اسمها المحقق العدلي، وهو قبل بهذا الدور، إما توهّماً منه لدور كبير يقوده إلى مصاف ”المنقذين”، أو تورطاً في ما هو أكبر. وهو اتهام صار مشروعاً إزاء ما يقوم به ويصرّ عليه منذ أسابيع، وحتى قبل ظهر أمس. والبيطار – الحيلة لديه عناصر العمل من خارج مكتبه. هكذا عدنا مجدداً إلى لعبة الترهيب والضغط:
- موجة إعلامية من إعلام طحنون بن زايد وتركي آل الشيخ ودوروثي شيا تنشط، من دون توقف، لتطويب البيطار قديساً ينتظره اللبنانيون منذ ما قبل قيام هذا البلد، وأن الخلاص سيكون كاملاً وشاملاً على يديه، وأنه الوحيد الذي يتمتع بالحصانة بخلاف الجميع، مسؤولين ومواطنين، ويحق له اعتقالهم واستمرار توقيفهم واستدعاؤهم والادعاء عليهم… ولا درب لهم للسؤال أو الاستفسار أو حتى الشك.
- موجة من “صيصان السفارات” المنضوين في مجموعات وجمعيات عادت إلى أرشيف العام 2005 وصارت تتحرك كل يوم لرفع صور من يجب على البيطار توقيفه أو إخضاعه للتحقيق، وصولاً إلى ترهيب القضاة الذين يمكن أن يكفّوا يده أو يقبلوا ارتياب المدعى عليهم به، حتى صار القضاة في حالة خوف دفعت بكثيرين منهم إلى القول صراحة إنهم يخشون الإمساك بهذا الملف، وباتوا يعملون بسرعة فائقة لم يعملوا بمثلها يوماً في معالجة ملفات آلاف الموقوفين في السجون من دون محاكمة، أو في مواجهة حيتان المال الذين سرقوا أموال الناس والمودعين.
- موجة من البيانات والمواقف الصادرة عن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي الداعمة لما يقوم به البيطار، وتوجيه تحذيرات علنية وغير علنية إلى كل من يحاول الاعتراض شاهرين سيف العقوبات الشخصية بتهمة الفساد، وهم الذين يحتضنون اليوم كبار الفاسدين والسارقين في فنادقهم ومقار شركاتهم.
الدفع نحو الصدام
عملياً، يفترض بالقاضي البيطار أن يجيب عن أسئلة الناس حول ما يقوم به. وليس صحيحاً أنه متحفظ، وأنا، شخصياً، أشهد أمام أي قاض عن كمية التواصل الإعلامي معه، والتواصل مع محامين وقضاة وشخصيات مدنية، إلى جانب أهالي الموقوفين في سياق ما يعتبره “توسيع الخيمة الشعبية الحاضنة لما يقوم به”. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فهلا يجيبنا القاضي البيطار عما إذا كان استقبل في منزله السفيرة الأميركية دوروثي شيا أم لا؟ وهل التقى دبلوماسيين أوروبيين أم لا؟ وهل اجتمع بشخصيات يعرف هو أنها ليست سوى صلة الوصل بسفراء عرب أم لا؟
عملياً، يقول البيطار إنه لا يخضع للضغوط السياسية. وهو كان، حتى الأمس، يعتبر أن ما وُصف بتهديد المسؤول في حزب الله وفيق صفا له، زلّة لسان من مسؤول حزبي عرضة لضغط المدعى عليهم. لكنه، بعد سماعه مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، تيقن أن الأمر يتعلق بموقف الحزب كله. مع ذلك، وبخلاف ما يدعيه بأنه لا يخضع لتأثيرات المواقف السياسية، عمد البيطار، أمس، إلى الرد على كلام نصرالله بإصدار مذكرة توقيف بحق الوزير علي حسن خليل، متجاوزاً أبسط الشكليات القانونية، بما في ذلك رفض تبلغ قرار كف يده إلى حين الانتهاء من إصدار المذكرة والمسارعة إلى تسريبها إلى وسائل الإعلام.
ثمة أمور كثيرة يعرف القاضي البيطار أنها لم تعد أسراراً بما خص من وعده بالمن والسلوى في لبنان أو خارجه، وثمة أمور كثيرة يعرف أنها لم تعد أسراراً عما يجري من تشاور مع قضاة كبار في البلاد لتحديد هوية القضاة المفترض أن تحال إليهم طلبات الرد أو الارتياب، وهو يتصرف على أساس أنه يخضع لـ”حماية خارجية شاملة” تتيح له القيام بكل ما يلزم، من دون الوقوف عند أي اعتبار.
لكن، وإن جرى تجاوز الاعتبارات المتعلقة بشخصه الكريم، وبعقليته، وبطريقة مقاربته للحياة عموماً وليس لملفات عمله، هل فكّر البيطار في أن ما يقوم به ليس سوى نسخة رديئة عما جرب الخارج القيام به عام 2005؟ ألا يوجد من حوله من يقول له إن “زمن الأول تحول”، وإن المقاومة المستهدفة أولاً وأخيراً، لن تقبل بتكرار سيناريو الاعتقال التعسفي أو التوجه صوب فتنة وطنية، ولا أخذ البلاد مجدداً إلى أتون فتنة تمهد لعدوان إسرائيلي لم يعد أمراً يسيراً كما في السابق، وأنها لم تقبل الحصار النفطي فقررت مواجهة الحصار الأميركي – الإسرائيلي – السعودي من خلال الإتيان بالمشتقات النفطية الإيرانية إلى لبنان، وهي مستعدة لفعل كل ما يلزم لمنع تكرار الأمر؟
طارق البيطار ليس عميلاً أجنبياً كما يعتقد بعض خصومه، لكنه شخص يحتاج إلى من يوقظه من سباته، وأن يشرح له أن البلاد ليست متروكة لـ”صيصان السفارات”، ولا لـ”الديكة” الذين يصيحون فوق مزابل التاريخ… لذلك، سيكون الشعار هو ذاته: طارق البيطار، اتق الله وارحل!
الأخبار