غسان ريفي – سفير الشمال
في الوقت الذي كان من المفترض فيه أن تنصرف الحكومة الى معالجة الأزمات المالية والاجتماعية والمعيشية، لا سيما مواجهة جنون الدولار ومتابعة ملف الكهرباء بتأمين الفيول الى معامل الانتاج والاسراع في إستجرار الغاز المصري، فضلا عن البدء بالمحادثات مع صندوق النقد الدولي الذي يعتبر المدخل الأساسي وربما الوحيد لاستدراج المساعدات، فضلا عن إستكمال الاستعدادات للانتخابات النيابية، أطلت قضية المحقق العدلي القاضي طارق البيطار لتعيد خلط الأوراق وتقدم أبشع صورة عن الانقسام السياسي اللبناني الذي يبدو أنه لن ينفع معه إنقاذ أو حتى وقف إنهيار.
كما هي العادة في لبنان، مسألة خلافية واحدة تقلب المشهد رأسا على عقب، وتبدل الأولويات، وتوتر الأجواء وتنشر التحريض وتحرك الغرائز وتهدد بالشارع والشارع المقابل، وتحوّل الحكومة التي تشكلت على أسس إنقاذية الى جبهة توتر تُرفع فيها المتاريس قبل أن تشهد قصفا كلاميا من العيار الثقيل كان له تداعيات كارثية على صورتها وعلى الأسواق المالية وعلى الرأي العام اللبناني والدولي.
لا شك في أن الخضة التي تعرضت لها الحكومة أمس الأول والتي تسارعت الاتصالات الى إحتوائها وإستيعاب صدمتها بما في ذلك تأجيل جلسة الأمس بإنتظار تسوية سياسية ـ قضائية تحترم فصل السلطات، وتحفظ صورة الحكومة وتحمي القضاء، قد كشفت المستور وبعضا من الأوراق، أبرزها:
أولا: التوتر المتمادي بين رئيس الجمهورية ميشال عون والتيار الوطني الحر من جهة وبين حزب الله من جهة ثانية، والذي تحول الى مواجهة حامية في مجلس الوزراء تُرجمت برفض عون وفريقه سلوك وزراء الثنائي الشيعي وتهديداتهم ومطالبتهم بإقالة القاضي بيطار، الأمر الذي قد يكون له تداعيات سلبية على تفاهم مار مخايل عشية الانتخابات النيابية.
ثانيا: تحويل القاضي بيطار الى رافعة إنتخابية يستفيد كل طرف منها في شارعه وأمام جمهوره، سواء بمعارضته والتهجم عليه والمطالبة بإقالته، أو بالدفاع عنه والتضامن معه والتشديد على إطلاق يده في معاقبة المتورطين، وفي كلا الحالتين ثمة شعبوية في غير مكانها، تضرب الجهود الحكومية، وتسيء في الوقت نفسه الى شهداء المرفأ الذين من حق عائلاتهم أن يعرفوا الحقيقة وأن يتوفر لهم تحقيقا بعيدا عن الاستنسابية والتشفي السياسي والارتياب المشروع.
ثالثا: بدا واضحا أن مصالح التيارات والأطراف السياسية تتقدم في كل الظروف على المصلحة الوطنية العليا، حيث لم يأبه أي فريق لخطورة التسبب بتفجير الحكومة التي على عاتقها وحدها اليوم تقع مسؤولية وقف الانهيار.
رابعا: تذكير الثنائي الشيعي بقوته الشعبية التي يمكن أن يستخدمها في الشارع لرفض القرارات الاستنسابية للقاضي بيطار، ومسارعة الخصوم الى صب الزيت على النار شحنا وتحريضا وإستفزازا، ما جعل البلاد برمتها على كف عفريت.
خامسا: وضع الانتخابات النيابية المقبلة في مهب الريح.
سادسا: تعرّض حكومة “معا للانقاذ” لانتكاسة مبكرة من شأنها أن تضرب كل الجهود التي بذلتها لاحداث صدمة إيجابية لبنانيا، ولاستعادة ثقة المجتمع الدولي.
في غضون ذلك، يبذل الرئيس نجيب ميقاتي جهودا كبيرة من أجل إحتواء الاشكال الحكومي تحت سقف القانون والدستور والحفاظ على هيبة القضاء، وهو بالرغم من الملاحظات التي سبق وأعلنها مع رؤساء الحكومات السابقين على آداء القاضي بيطار، إلا أنه يفتش عن تسوية ومخرج قانوني يرضي الجميع ويمنع تفجير حكومته من الداخل، خصوصا أن هذه الحكومة تشكل الفرصة الأخيرة للانقاذ، وبالتالي وبحسب مطلعين، فإن “ليس من مصلحة أحد ممارسة المزيد من الضغط على الرئيس ميقاتي أو تهديد حكومته عند كل مفترق، لأن ذلك سيضطره الى إتخاذ مواقف قد تضع الجميع في “خانة اليك”.