في العالم المعاصر يُعدّ الإستقرار السياسي شرطًا ضروريًا لتنمية الدولة والمجتمع، وهو ما يجعل منه واحد من أكثر الملفات حضورًا في الحياة السياسية في كل بلدان العالم، حيث تعمل القوى السياسية فيها على حل مشكلة الاستقرار الاجتماعي والسياسي من خلال المؤسسات الدستورية. وتنصّ النظرية الإقتصادية على أنه للحصول على مستوى مقبول من التنمية، يحتاج المرء إلى الاستقرار في جميع مجالات الحياة الاجتماعية بحكم أن التغييرات الإيجابية غير ممكنة في حالة زعزعة الاستقرار والتدهور.
ينص مفهوم الإستقرار على أنه مفهوم يعني الحزم والثبات، وقدرة النظام على العمل، كما وعدم تأثر هيكلة هذا النظام بالمتغيّرات الأخرى مع الحفاظ على توازنه. وتتعاطى العلوم السياسية مع الإستقرار على أن أنه غياب التهديد الحقيقي بالعنف غير المشروع أو وجود إمكانيات الدولة للقضاء عليه. ويقاس هذا الثبات – بحسب البعض – بعدة مؤشرات منها عمر الحكومات وهو ما يفرض وجود قدرات فنية تسمح لها بالتكيف الناجح مع الحقائق المتغيرة بحكم أن التغيرات الهيكلية في الأنظمة السياسية هي مصدر لعدم الثبات السياسي. ويُقاس الثبات أيضًا من خلال وجود نظام دستوري والذي يُعتبر عاملًا حاسمًا للاستقرار (في الدول الديمقراطية) من ناحية أنه يؤمن مشروعية للسلطة القائمة وبالتالي الإستقرار السياسي.
ويرى علم الإجتماع الإستقرار على أنه سلوك أو سمة اجتماعية يمكن استيعابها في الوضع الاجتماعي حيث يقيد أعضاء المجتمع أنفسهم بالمعايير الاجتماعية (أو ما يعرف بالقوانين) إذ أن أي انحراف عن هذه المعايير، يؤدي إلى زعزعة الاستقرار.
ما هو أساسي في الاستقرار السياسي هو ضمان الإنتظام العام والذي يتجلى في الشرعية والدقة وكفاءة نشاط المؤسسات في ظل ثبات معايير وقيم الثقافة السياسية وأنواع السلوك المعتادة واستقرار العلاقات السياسية. فالسلطة تُمارس من خلال المؤسسات الدستورية بما في ذلك تشكيل الحكومات ومراقبتها واستبدالها إذا لزم الأمر، وقدرة الحكومة على صياغة وتنفيذ سياسات سليمة بشكل فعال، واحترام المواطنين والدولة للمؤسسات التي تحكم التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية فيما بينهم. وأثبتت التحاليل الميدانية أن النجاحات طالت المجتمعات التي يعلو فيها تطبيق القوانين (أي المعايير)، والعكس صحيح أي أن عدم إحترام القوانين يؤدّي إلى كلفة إقتصادية وإجتماعية باهظة على المجتمع. وبالتالي تأتي الحكومات لكي تقوم بعملية تنسيق والقيام بتعديل المعايير بحسب الحاجة بشكل مدروس، بالإضافة إلى برنامج واقعي قادر على الجمع بين الغايات والوسائل وهو ما يؤدّي حكمًا إلى التنمية.
عمليًا تتأثر درجة إحترام القوانين بديناميكية المصالح الاجتماعية لمكونات المجتمع والقدرة على ضمان تعاونهم في ظل خصوصيات في بعض الحالات (حالة لبنان)، بالإضافة إلى قواعد السلوك المشتركة التي قبلتها القوى السياسية في العملية السياسية كقاعدة. وهو ما يعني أن تشكيل النظام السياسي على أساس وجود المصالح المشتركة بين القوى السياسية المختلفة وبشرط ضرورة التعاون لغرض حمايتها.
وفي حال كانت هذه المصالح متناقضة ومتعارضة أو وصلت إلى نقطة لم يعد من الممكن الوصول إلى نقاط مُشتركة، يُصبح النظام في حال عدم ثبات أو إستقرار وبالتالي هناك إحتمالين:
الأول – الدكتاتورية: إستخدام العنف كقوة وحيدة للتكامل السياسي بهدف الحصول على النظام وهذا يعني فرض رأي مجموعة على المجتمع؛
الثاني – الديمقراطية: تعديل العقد التعاقدي بين مكونات المجتمع والإعتراف بوجود مصالح اجتماعية مختلفة وضرورة تنسيقها وفقًا لمشاكل التنمية الهامة.
ويُخبرنا التاريخ أن الحلول من النوع الأول هي حلول قصيرة العمر ولها طابع وهمي من خلال بث أيدولوجيات وأحلام لا تتوافق وتطلعات المجموعات التي تُكون المجتمع. في حين أن الحل الثاني هو من الحلول ذات الأمد البعيد وصلبة أكثر من ناحية إشراك الجميع في تحديد المعايير التي تُدير المجتمع.
لا يوجد تعريف واحد لمفهوم الحوكمة أو الجودة المؤسسية حيث أن البعض يراها في «القواعد وآليات التنفيذ والهيكليات» (تقرير البنك الدولي 2002) في حين يركز البعض الآخر بشكل أضيق على قضايا إدارة القطاع العام أي «الطريقة التي تمارس بها السلطة في إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية لبلد ما من أجل التنمية» (تقرير البنك الدولي 1992).
مؤشرات الحوكمة العالمية (Worldwide Governance Indicators) هي عبارة عن مشروع بحثي يهدف إلى تحسين الحوكمة في العالم من خلال إيجاد مؤشرات فعّالة وضمان قياسها بشكل منتظم وهو ما يسمح للمعنيين بتحسين أدائهم. ويقترح هذا المشروع عددا من المؤشرات لقياس هذه الحوكمة مقسومة إلى ستة مؤشرات مُركّبة تطال كل أبعاد الحوكمة:
الصوت والمساءلة: ويهدف هذا المؤشر إلى قياس مدى قدرة المواطن على المشاركة في إختيار حكومته، وكذلك حرية التعبير، وحرية تكوين الجمعيات، ووسائل الإعلام الحرة.
الإستقرار السياسي وغياب العنف / الإرهاب: يهدف هذا المؤشر إلى التقاط إشارات عن إحتمال زعزعة إستقرار الحكومة أو الإطاحة بها بوسائل غير دستورية أو عنيفة، بما في ذلك العنف والإرهاب بدوافع سياسية.
فعالية الحكومة: يهدف هذا المؤشر إلى قياس جودة الخدمة العامة ودرجة استقلاليتها عن الضغوط السياسية، وجودة صياغة السياسات وتنفيذها، ومصداقية التزام الحكومة بهذه السياسات.
الجودة التنظيمية: يهدف هذا المؤشر إلى قياس قدرة الحكومة على صياغة وتنفيذ سياسات وأنظمة سليمة تسمح بتنمية القطاع الخاص وتعزيزه.
سيادة القانون: يهدف هذا المؤشر إلى قياس مدى ثقة اللاعبين (شركات وأسر) في قواعد المجتمع والالتزام بها، ولا سيما جودة إنفاذ العقود وحقوق الملكية والشرطة والمحاكم، فضلاً عن احتمال ارتكاب الجريمة والعنف.
السيطرة على الفساد: وهو مؤشر يهدف إلى قياس مدى ممارسة السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة بما في ذلك الأشكال الصغيرة والكبيرة للفساد، وكذلك «الإستيلاء» على الدولة من قبل النخب والمصالح الخاصة.
هذه المؤشرات تُعطي صورة واضحة عن حال البلدان وبالتالي يُمكن تصنيفها بحسب ثباتها السياسي وهو ما له تأثير على الإستثمارات في الإقتصاد الذي يُصنّف على أنه عنصر أساسي من عناصر التنمية.
في لبنان هذه المؤشرات كلها في المنطقة الحمراء، وتدل البيانات التاريخية على أن لبنان بلد غير ثابت على كل المستويات حيث أنه يتواجد في المراتب الأخيرة بين أكثر من 180 دولة. والأصعب في هذه الأرقام هو التردي الحاصل في أربع مؤشرات أساسية هي الثبات السياسي، فعالية الحكومة، سيادة القانون، ومحاربة الفساد (أنظر إلى الرسم – المصدر البنك الدولي).
وبالتالي يُمكن القول أن التداعيات على الإقتصاد وعلى التنمية هي تداعيات سلبية حتمية. وهو ما نراه في المؤشرات المالية والنقدية والإقتصادية والمعيشية مع تضخّم فاق الـ 60% في شهر أيلول الماضي! وهذا إن دل على شيء يدل على أن لبنان ذاهب في إتجاه معاكس للتنمية مع ديناميكية فقر خطيرة ناتجة عن عدم الثبات الحكومي والذي كانت أخر مظاهره في أحداث الطيونة الأخيرة والتي بحسب التحاليل تُشير إلى إعتماد البعض على العنف لحل التناقض في المصالح.
في 30 حزيران 2019 حدث إطلاق نار خلال مرور موكب لأحد الوزراء في منطقة قبرشمون وهو ما أدّى إلى توتر أمني كانت من أهم تداعياته تعطيل حكومة الرئيس الحريري لأكثر من 40 يومًا في وقت أعطى الدستور حصرية القرار الإقتصادي للحكومات! خلال هذه الفترة بدأت التقارير المالية الدولية الصادرة عن وكالات التصنيف الإئتماني والمؤسسات المالية الدولية بالتدفق مُنذرة بإنهيار مالي كبير إذا لم يتمّ إتخاذ إجراءات سريعة. إلا أن الأحداث التي تتابعت أظهرت عجز الحكومة عن القيام بالإجراءات التصحيحية اللازمة وهو ما أوصل إلى كارثة لاحقًا مع سلسلة أخطاء تمّ إرتكابها.
وكأن اللبنانيين لم يتعلموا من أخطائهم، عادت لغة العنف إلى الشارع مع أحداث الطيونة والتي ذهب ضحيتها 7 قتلى أدخلت لبنان في شلل كامل شمل أيضًا الحكومة اللبنانية التي أصبحت عاجزة عن الإجتماع في وقت يجتاح فيه التضخمّ الإقتصاد اللبناني مع أرقام أكثر من صادمة إذ تُشير المعلومات إلى أن مؤشر الأسعار على الإستهلاك سجّل 61% في شهر أيلول الماضي وهو ما يُشير إلى أننا دخلنا مرحلة التضخمّ المفرط والذي من المُستبعد جدًا على الحكومة اللبنانية السيطرة عليه حتى لو قامت بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي. السبب يعود إلى الطبيعة التغلغلية للتضخم والتي أصبح المواطن يلمسها في إرتفاع أسعار كل السلع والبضائع حتى في ظل دولار سوق سوداء ثابت، وهو ما يدل على أن الدولة فقدت السيطرة على اللعبة الإقتصادية التي لم تعد تحت سيطرة القوانين مع إحتكار وتهريب بمستويات تتخطّى قدرة الإقتصاد على الصمود.
بالطبع هذا الأمر سيكون له تداعياته على العملة الوطنية التي أصبحت تتواجد بشكل نقدي (كاش) كبير في الماكينة الإقتصادية وبالتالي يُطرح السؤال عن الآلية التي ستعتمدها الحكومة والمصرف المركزي لسحب هذه الكميات من العملة في ظل فقدان كامل لسيادة القانون المالية!
المرحلة المقبلة هي مرحلة خطرة إذ سيكون الهروب إلى الأمام سيد الموقف مع إحتمال إعتماد الحكومة سياسة حذف الأصفار من العملة الوطنية وهو ما يُشكّل خطرا كبيرا في حال لم يتمّ الإلتزام بالإصلاحات المطلوبة. الجدير ذكره أن عدم تنفيذ الإصلاحات والتفلت من تطبيق القوانين تُعطي مفعولا سلبيا لعملية حذف الأصفار وهو ما نراه في العديد من البلدان على مثال البرازيل التي حذفت حتى الساعة أكثر من 18 صفر من عملتها من دون أي نتيجة إيجابية ملموسة على الأمد البعيد!
في الختام لا يسعنا القول إلا أن الثبات السياسي هو مفتاح للتنمية والرخاء الإقتصادي، وبالتالي وفي ظل الأوضاع السياسية الحالية لا يُمكن ضمان الخروج من الأزمة التي تعصف بلبنان والتي صنفها البنك الدولي على أنها من أقسى ثلاث أزمات إقتصادية عالمية على مر أكثر من 150 عامًا!
الديار