حصلت «الأخبار» على وثائق إماراتية مسرّبة، بينها واحدة تتضمّن تقييماً سرّياً لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بمناسبة مرور عامين على استلامه ولاية العهد (2017 – 2019). تشتمل الوثيقة، التي تبدأ بعبارة «سرّي للغاية» ثمّ بتاريخ الصدور 9 آب/ أغسطس 2019، على «تقرير بشأن حصاد عامين من عهد الأمير محمد بن سلمان في المملكة العربية السعودية»، شاركت في إعداده وحدة في وزارة الخارجية تحمل اسم «وحدة الدراسات الخليجية». الوثيقة بالأصل مُوجّهة من محمد محمود آل خاجة، مدير مكتب وزير الخارجية، إلى مكتب وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، إلا أنه في الرسالة التي تُقدّم التقرير يَرِد أن وزير الخارجية (عبد الله بن زايد) وَجّه بإحالة الموضوع على قرقاش، وبأن يرسل الأخير التقرير إلى ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد. يَجمع التقرير بين التحليل ورصد الأخبار، العامة منها الخاصة. تشي الأخبار الخاصة بحجم الترصّد الكبير والمعمّق للقيادة السعودية الحليفة والتحوّلات لديها، وقدرة الأجهزة الإماراتية على جمع معلومات من داخل المملكة عن ابن سلمان والدائرة المحيطة به والسياسات غير المعلنة، عبر جملة طرق بينها تسخير مصادر سعودية. يُظهر التقرير أن الدبلوماسية الإماراتية وأجهزة الإمارات عموماً تعمل بما يرقى إلى مستوى التجسّس على ابن سلمان، وتبدو أحياناً منزعجة من أدائه المتهوّر والمُضعِف للسياسة السعودية الخارجية. من أسرار العلاقة مع إسرائيل واللوبي الإنجيلي في أميركا والرئيس دونالد ترامب وتأثير مقتل جمال خاشقجي، إلى الموقف من «الإخوان» وحال الأمير الوليد بن طلال… يتوسّع التقرير في رصد وقائع واستنتاجات، أهمّها: «ملامح عقيدة ابن سلمان السياسية» وأزمة شرعية الحكم، تقدير الهزيمة في اليمن واستحالة احتلال صنعاء، انتكاسة في مقاطعة قطر، انقسام واستقطاب في المجتمع السعودي وأجنحة العائلة المالكة، 8 تغيّرات داخلية و6 في السياسية الخارجية الآخذة بالضعف… لا تحول جميعها دون الإقرار بقوة نسبية لوضع ابن سلمان داخلياً. في ما يلي النص الكامل للتقرير:
أوّلاً: أبرز التغييرات على مستوى مؤسسة الحكم السعودية والسياسات الداخلية
التغيّر الأوّل: الانفراد الحصري والفعلي بالسلطة بتفويض من الملك سلمان: عبر تحييد الأمراء المنافسين وتحديداً محمد بن نايف (ولي العهد المعزول) ومتعب بن عبد الله وخالد بن سلطان ومحمد بن فهد والوليد بن طلال، فقد عمل على استراتيجية تولية مزيد من شباب الأسرة المالكة المناصب الكبرى وإمارات المناطق على الشكل التالي:
1- الإبقاء على ما يفيد من عرف الأسرة المالكة في المشاركة السياسية، ولكن بما يخدم شرعية ولي العهد، باختيار أمير شاب من كل جناح ليتولى المسؤولية بدل الأمراء المخضرمين الذين تم إعفاؤهم، فقد تم اختيار أكبر أحفاد الأمير نايف، وهو الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف لوزارة الداخلية، وتعيين الأمير تركي بن طلال أميراً لمنطقة عسير، كأوّل أمير من آل طلال يتسلم منصباً رسمياً في الدولة.
2- ضمان ولاء المزيد من الأمراء الشباب الذين تقلدوا مناصب جديدة، ومعظمهم عمل معه من قبل في إمارة الرياض أو في الديوان الملكي (مثل الأمير عبد الله بن بندر، رئيساً للحرس الوطني، وابن خالته الأمير تركي بن هذلول بن عبد العزيز، نائباً لأمير منطقة نجران، وصديقه الأمير عبد الله بن فرحان، وزيراً للثقافة).
3- نقل ولاء ضباط وأفراد الأجهزة الحكومية الأمنية المهمة، كوزارة الداخلية والحرس الوطني ورئاسة أمن الدولة، إلى الملك وولي العهد، بدل بقاء الولاء للأمراء المخضرمين في هذه الأجهزة، والذين تم إعفاؤهم منها. ويرى بعض المنتقدين لمركزية السلطة والاستفراد بالقرار أن مركزية القرار لها سلبيات قد تكون كارثية على الدولة، ومن هذه السلبيات عدم اطلاع ولي العهد على الآراء المختلفة، وبخاصة أن الأخطاء إذا وقعت تكون مكلفة وقد لا يمكن التراجع عنها… وقد تنامت دعوات خجولة من الحرس القديم بالعودة إلى تعدد مشارب المستشارين، وتوسيع قاعدتهم، والاطلاع على آرائهم كلها، والانصياع لما هو صواب ولو كان مخالفاً لرأي صاحب القرار.
التغيّر الثاني: بدء التمهيد لتحول النظام السعودي إلى نظام ملكي تقليدي (من الأب إلى الابن). هناك قناعة عامة لدى آل عبد العزيز بأهمية انتقال الحكم إلى أحد الأحفاد، وهذا ما يعتبره الملك سلمان ضرورة لمستقبل سعودي أكثر استقراراً، ويرى كثير من النخب في السعودية أن وصول الأمير محمد بن سلمان إلى منصب الملك مستقبلاً سيمثل أكبر تحول تاريخي في نظام الحكم السعودي منذ وفاة المؤسس عام 1953، وسيجدد آلية جديدة لانتقال الحكم في النظام الملكي السعودي، وسيكون بداية النهاية لأسرة آل سعود كأسرة «حاكمة»، وحصر الحكم في «آل سلمان».
أمّا مواقف أبناء الأسرة المالكة من بدء تحوّل شكل النظام الملكي السعودي فهي تنقسم لثلاث فرق:
الفريق الأوّل: معارض، وهم قلة من الأمراء في الخارج، وهؤلاء يظهرون معارضتهم لتولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، كما يعترضون على كثير من قراراته، ومنهم الأمير عبد العزيز بن عبد الله، الذي يقيم كلاجئ سياسي في فرنسا، ويصنَّف ضمن المعارضة السعودية في الخارج.
الفريق الثاني: مؤيد، وهم عدد من الأمراء الشباب يرون في ولي العهد منقذاً للبلاد، ويرون أنه يقف ضد الأخطار التي تحيط بالدولة في الداخل والخارج.
الفريق الثالث: الصامت، وهم أكثر أفراد الأسرة، وكثير منهم يؤثرون السلامة. وهذا الفريق في النهاية لا بد من أن ينحاز إلى أحد الفريقين الأولين، فإن نجح ولي العهد في رؤيته ومشروعاته وبقي ممسكاً بالسلطة فلا شك في أن مؤيديه سيكثرون ولو كرهاً.
لجأت الحكومة السعودية إلى شركات إسرائيلية للمساعدة في تعقّب معارضين بارزين
التغيّر الثالث: تطبيق القبضة الأمنية تجاه المعترضين على التوجهات الجديدة. الجديد في المملكة منذ عامين هو وضوح الحزم في تطبيق التوجهات والقرارات المثيرة للجدل، دون الرجوع إلى المؤسسة الدينية، ودون إخضاعها لخيارات الشعب؛ ومثال ذلك السماح بقيادة المرأة للسيارة، وتحجيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرض الاختلاط في كثير من الوظائف الحكومية والقطاع الخاص، وإسناد وظائف قيادية إلى النساء، وتكثيف فعاليات الترفيه بمختلف أشكالها.
كما ارتبط هذا الأمر بمعاقبة المعترضين باستخدام الأدوات الأمنية، كالقمع أو الاعتقال. إلا أنه بعد حادثة مقتل خاشقجي هدأت قليلاً، وصارت تتسامح مع بعض النقد لفعاليات هيئة الترفيه مثلاً.
وهذه المقاربة تجعل صنّاع القرار بين أمرين محيّرين:
الأوّل: استمرار وتيرة الحزم والقمع، من شأن ذلك التوسع في اعتقال الناس، وتقوية موقف المعارضة في الخارج. إسقاط المؤسسة الدينية ورموزها، وإيجاد فجوة كبيرة بين الدولة والشعب لأن الممانعة الداخلية لا تزال قوية وإن كانت كامنة وليست محسوبة على تيار معيّن يمكن إسكاته.
الثاني: السماح بهامش من الحرية في الشأن الاجتماعي خاصة، من شأن ذلك أن يبطئ الانفتاح الليبرالي، كما أنه يعطي جرأة للناس على الممانعة الداخلية، والاعتراض على ما يرونه مصادماً لدينهم وقيمهم وعاداتهم.
التغيّر الرابع: الحملة على الفساد المالي بأثر رجعي واسترجاع مليارات من كبار الأمراء والتجار، تحظى بدعم غير محدود من غالبية النخب، وتُعد من الانجازات المهمة لولي العهد.
التغيّر الخامس: بث الحيوية في عمل الدوائر الحكومية وتشديد الرقابة والمحاسبة، وهي من مظاهر التطور الإداري الإيجابية.
التغيّر السادس: تحديث وتطوير البيئة القانونية وتسريع الإجراءات العدلية، باستثناء ملف حقوق الإنسان (حرية التعبير والإعلام)، الذي تم التعامل معه من قبل ولي العهد على أنه ملف أمني وليس حقوقياً، فقد حققت المملكة خلال عامين تحديثاً تاريخياً للبيئة القانونية والعدلية.
التغيّر السابع: بدء الحرب العلنية على جماعات الإسلام السياسي. طوال عامين استمر ولي العهد في تطبيق سياسة جديدة جدية أكثر حدة في مواجهة تيارات الإسلام السياسي داخل وخارج السعودية. عبر إصدار المملكة في مارس 2014 قراراً باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وتنقيح المناهج المدرسية والجامعية من أدبيات الإخوان المسلمين، وإبعاد كل من يتعاطف معهم أو مع فكرهم ورموزهم من أي منصب إشرافي في المؤسسات التعليمية أو من التدريس، وبروز دور أكبر لمراكز مكافحة الإرهاب الجديدة (ومنها المركز الدولي لاستهداف تمويل الإرهاب، والمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف «اعتدال»)، وأخيراً اعتقال أبرز القيادات الإخوانية والسرورية المعروفة، وترحيل القيادات غير السعودية منهم، وحجب المواقع الإخوانية أو القريبة منها.
التغيّر الثامن: تغيير الخطاب الديني ليكون موالياً بشكل مطلق للدولة الجديدة، وذلك بإحداث تغيير في الخطاب الموجه في المساجد، من خلال قيام الوزير الجديد للشؤون الإسلامية، د. عبد اللطيف آل الشيخ، بفصل عدد كبير من الأئمة والخطباء والمؤذنين، وتحويل عدد من الدعاة إلى وظائف إدارية. إلا أن كثيراً من المراقبين يحذّرون من خطورة تعزيز التيار الجامي السلفي على التوجه الوهابي نفسه؛ مما يعمّق الشرخ بين المؤسسة الوهابية والعهد الجديد.
ثانياً: أبرز التغيّرات والمستجدات في السياسة الخارجية السعودية خلال عامين
ظهرت ملامح شخصية الأمير محمد بن سلمان الشابة والعنيفة على السلوك السياسي السعودي الخارجي قبل وصوله إلى ولاية العهد، لكن ظل وجود الأمير محمد بن نايف كولي للعهد وقوة الحرس القديم، بأطيافه الدبلوماسية والعسكرية والدينية داخل الدولة، عامل ضبط، حتى تقلد الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد فأصبحت السياسة الخارجية السعودية أكثر حيوية واندفاعاً وتهوراً في الآن نفسه»، وكانت ملامح التغيير كالتالي:
التغيّر الأوّل: التقارب مع البيت الأبيض وتحسن العلاقات السعودية – الأميركية بعد عقد من التوتر الكامن، مثّلت زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض قبل توليه ولاية العهد بأشهر قليلة بدء مأسسة التحالف بين صهر الرئيس ترامب، جاريد كوشنر، ومحمد بن سلمان، والتي مثلت بداية مباركة الرئيس ترامب لوصول الأمير إلى ولاية العهد. ولم يمض 100 يوم على الزيارة حتى حصل المتوقع، وقبل ذلك بأسابيع قليلة كان قرار الرئيس ترامب اختيار السعودية كأول محطة له في زيارته الخارجية الرسمية الأولى.
ورغم هذه القراءة الرسمية المتفائلة لهذا التقارب، يحذّر مراقبون سعوديون من أن التغيّر في المزاج الأميركي تجاه إيران في عهد الرئيس ترامب هو تغيّر تكتيكي يهدف إلى محاولة ابتزاز السعودية بطلب المزيد من الأموال مقابل الحماية. ويرد فريق ولي العهد بأنه مهما حصل فإن الرئيس ترامب قدّم خدمات كبيرة إلى ولي العهد، أهمّها استئناف مبيعات القنابل الموجهة بدقة، وتملّصه من إدانة السعودية في حربها على اليمن، بالإضافة إلى الموافقة المبدئية بنقل التقنية النووية واستخدام حق النقض ضد سحب القوات الأميركية من دعم التحالف بقيادة السعودية، وموقف ترامب القوي والراسخ بشأن مقتل خاشقجي.
التغيّر الثاني: التورط في حرب اليمن وتنامي الخسائر السياسية والعسكرية جراء استمرار الحرب. لقد كان تقدير الموقف السعودي العسكري المتعجل وهو سرعة الحسم في هزيمة الحوثيين، لكن الذي حصل العكس، فطالت الحرب، وتحوّلت إلى عامل استنزاف للمملكة، كما أنها سببت حرجاً دولياً للمملكة وأضرت بسمعة ولي العهد بشكل خاص. ويبرر ولي العهد استمرار الحرب، أن السيناريو الآخر سيكون أسوأ.
التغيّر الثالث: استمرار مقاطعة قطر وتحمّل المزيد من الآثار السياسية والإعلامية، باتفاق خبراء السياسة السعوديين لم يرقَ الأداء السياسي والدبلوماسي السعودي إلى تحقيق هدف إثناء الدوحة عن سلوكها السياسي بشكل قد أدى إلى تحول موقف المملكة والدول المقاطعة من الهجوم إلى الدفاع في الأسابيع الأولى للأزمة، مع ذلك فإن التقدير السعودي لا يزال قائماً على أن الرياض ستستمر في مقاطعة طويلة الأمد لقطر والاستمرار في ضرب جميع المشاريع القطرية في الإقليم، وإضعاف حلفاء قطر وخاصة الإخوان المسلمين.
التغيّر الرابع: تفعيل وتنامي التعاون المؤسسي مع الإمارات، وهذا ما تجلى في الانسجام الشخصي بين ولي العهد السعودي وولي عهد أبو ظبي، حيث تم مأسسة هذا التعاون بتدشين مجلس التنسيق السعودي – الإماراتي في حزيران 2018، واعتماد البلدين استراتيجية مشتركة للتكامل اقتصادياً وتنموياً وعسكرياً عبر مشاريع «استراتيجية العزم».
إلا أن هناك بعض المؤشرات على وجود تباينات في حسابات البلدين الاستراتيجية بشأن دور كل منهما في الأزمة اليمنية، وخاصة تجاه تقاسم النفوذ والعلاقة مع الشركاء المحليين هناك، ومن فترة إلى أخرى تحدث بعض التجاذبات، وآخرها خطوة دولة الإمارات بإعادة تموضع قواتها في اليمن، ما قد يؤدي إلى إضعاف دور التحالف، على نحو قد تترتب عليه آثار سلبية قد تنسحب على شكل العلاقة بين البلدين في الفترة المقبلة.
التغيّر الخامس: توثيق العلاقات مع الأصوليين الإنجيليين البروتستانت وتبدل الموقف من إسرائيل. بعد تسلّم ولي العهد منصبه، كان من الواضح أن تعريف العدو لم يعد ينطبق على إسرائيل كما كان قبل سنوات، إنما أصبح النظام الإيراني، وحصل تقارب ملحوظ في الرؤى بين الرياض وتل أبيب في ما يخص تعريف التهديد المشترك المتأتي من إيران، وهذا دفع إلى اتخاذ خطوات علنية وتدريجية على طريق إقامة علاقة استراتيجية بإسرائيل. وبحسب تقييم سعودي غير معلن فقد ظهرت فائدة العلاقة مع قوى الأصوليين الإنجيليين البروتستانت بعد حادثة مقتل خاشقجي، فبعد ضغط الكونغرس الأميركي على الرئيس ترامب بالتخلي عن ولي العهد السعودي تحركت قوى الأصولية الإنجيلية عبر أذرعها القوية ونفوذها وتأثيرها في القرار والإعلام الأميركيين. وتحذر المدرسة التقليدية في السياسة السعودية من خطر مثل هذا التقارب على صورة المملكة ومكانتها ورصيدها في العالمين العربي والإسلامي.
ظهرت فائدة العلاقة مع قوى الأصوليين الإنجيليين بعد حادثة مقتل خاشقجي
التغيّر السادس: تغيّر الخطاب الديني السعودي الخارجي وإقفال المراكز الإسلامية السعودية في الخارج،
تدير وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد 26 مكتباً للدعوة في الخارج، منها مكاتب في دول خليجية (في دولة الإمارات: دبي والفجيرة وأم القيوين)، وأخرى في قارة آسيا، وثالثة في أوروبا، بالإضافة إلى مراكز إسلامية في الأرجنتين، والكاميرون، وجيبوتي، وأوغندا، والسنغال، والبوسنة والهرسك، وقد فضّلت «السعودية الجديدة» ترك العمل الدعوي في الخارج للسلطات المحلية في كل دولة، وكان آخر هذه القرارات التخلي عن إدارة أكبر مساجد بلجيكا في العاصمة بروكسل، والذي كانت تديره وزارة الشؤون الإسلامية السعودية منذ 1969.
ثالثاً: في الاستنتجات
أوّلاً، مدى شرعية ولي العهد:
لقد عمل ولي العهد على تعزيز شرعية الأداء مقابل الشرعية الدينية وخلق مصادر شرعية جديدة اختص بها ولي العهد، فالمجال الديني هو الشق الأضعف بين مصادر الشرعية والإنجاز لولي العهد، وهو المجال اللصيق بباقي المجالات في المملكة؛ وبسبب تقييد عمل هيئة الأمر بالمعروف والضعف الذاتي في الوصول إلى الشارع من غير الهيئة، بالتالي فإن المسافة بين الدولة والمواطن في المجال الديني باتت مفتوحة لأي لاعب إقليمي أو لاعب محلي قد يكون معادياً لمؤسسة الحكم، أو إرهابي متطرف يثير القلائل على سياسات ولي العهد ويطعن في الشرعية الدينية لمؤسسة الحكم. وفي هذا المجال يجب أن يشار إلى الأهمية والخصوصية التي يوليها تنظيم داعش إزاء سياسات ولي العهد، والتي ينتظر بفارغ الصبر فشلها وانقلاب المحافظين اجتماعياً ودينياً عليها لكي يعيد نشاطاته في المملكة. وما زالت علاقة ولي العهد مع المؤسسة الدينية تتسم بالشد والجذب، ويظهر أنه يتحكم في العلاقة بالشد أكثر من الجذب. ولتعويض النقص الحاصل في الشرعية الدينية لجأ إلى التالي:
– تعزيز شرعية تصعيد الشباب الأمراء داخل الأسرة مقابل ضعف شرعية كبار السن من الأسرة الحاكمة
– تعزيز شرعية منح الحقوق الشخصية والمدنية في مواجهة شرعية التيار المحافظ
– شرعية قائد الجهاز التنموي والإنتاجي الجديد للدولة مقابل شرعية القائد المانح سابقاً
ثانياً، مدى شعبية ولي العهد: نظراً لغياب فرص إجراء مسح علمي وشفاف، ولمحاولة استجلاء أطياف الشعب السعودي يمكن تقسيمه إلى أقسام رئيسية كما يلي:
– أمراء الأسرة المالكة، منهم الأمراء الذين كانوا ينافسونه، أو حوسبوا بسبب فساد مالي؛ ساخطون عليه. وفئة الشباب المؤيد، وقسم آخر من أفراد الأسرة المالكة ملتزمون الصمت، وهؤلاء لا يمكن استجلاء موقفهم بوضوح.
– العلماء وطلاب العلم والدعاة، وهم على ثلاثة أقسام:
أ – المنتمون للتيار السلفي الصحوي، وهم يمثلون نسبة متناقضة حيث أعلن بن سلمان الحرب عليهم وسجن مجموعة كبيرة من مشايخهم، ومنهم من هرب إلى الخارج وهم قلة، وأما الذين في الداخل فيكتمون صوتهم خوفاً. ب – العملاء والدعاة الرسميون والمستقلون (السلفية الرسمية والعلمية)، غالبهم موالون، لكنهم أيضاً غير راضين عن بعض سياسات التغريب للمملكة وتقريب الليبراليين وتمكينهم، وتغريب النساء والخضوع المتزايد للغرب. ويرى بعضهم أن ولي العهد يضرب مصداقيتهم عند الناس، ولذا آثر كثير منهم العزلة عن الناس حرجاً من الأسئلة التي تلقى عليهم؛ خاصة عن برامج الترفيه.
ج – المشايخ الموالون علناً لولي العهد، وغالبهم تيار السلفية الجامية، الذي يقوده وزير الشؤون الإسلامية د. عبد اللطيف آل الشيخ.
– التجار ورجال الأعمال وأصحاب العقار، وهؤلاء تضرر بعضهم من التحول الاقتصادي المصاحب لرؤية 2030، وخاصة بعد فرض الرسوم على العمال، والضرائب على البضائع وغيرها. ما أدى إلى إفلاس عدد من الشركات، وإغلاق كثير من المحلات التجارية، وغالبهم ينتقدون برامج «رؤية 2030».
– موظفو الدولة القدامى من المدنيين والعسكريين؛ تضرر الموظفون القدامى بسبب تأخر الترقيات، وتقليص البدلات، وتقليل الانتدابات، وهذا أوجد عندهم امتعاضاً وانتقاداً للتوجه الجديد.
– فئة الشباب؛ راهن عليهم ولي العهد وحصلوا على مرادهم من الانفتاح، لكن غالبية الشباب السعودي بعضهم تضرر من بعض الإجراءات الاقتصادية، وهم لا يزالون يدعمون سياسات ولي العهد باعتبارها تفتح باب أملاً لهم تدريجياً، مع مطالبة بعضهم الاهتمام أكثر بهم، والتقليل من المساعدات والهبات السعودية للدول الأخرى.
– النساء والفتيات، الكبيرات والمتزوجات وربات الأسر أكثرهن غير راضيات عن كثير من الإجراءات، وأما الفتيات غير المتزوجات فهناك نسبة منهن يدعمن الإجراءات الانفتاحية؛ خاصة مع نشاط الحركات النسوية في الصحف والفضائيات وعبر الإنترنت في تشجيع الفتيات على التمرد والتنمر على أسرهن ومجتمعاتهن، وظهر أثره في الهاربات خارج البلاد، وقد أصبحن ورقة مساومة للدول الأخرى والمنظمات الحقوقية في مجال السياسة وحقوق الانسان.
في الخلاصة، حول نتائج شعبية ولي العهد خلال عامين وبناء على ما سبق فيمكن القول إن هناك استقطاباً وانقساماً في المجتمع السعودي (حتى داخل الأسرة الواحدة)، فهناك كتلة غالبها من الشباب من الجنسين والتيار النخبوي يدعمون ولي العهد بشكل علني، وقسم آخر غير راضٍ عن أدائه؛ بسبب التقشف الاقتصادي، وبرامج «رؤية 2030» النخبوية، وبعض القرارات التي يرونها تغريبية، بالتزامن مع فرض رسوم وضرائب جديدة.
ثالثاً، استلام العرش: السؤال هل أصبح ولي العهد أقرب أم أبعد من وراثة أبيه؟ فإن الجواب هو نعم. وهو خاضع لثلاثة اعتبارات تسير حتى اللحظة في صالحه، وهي:
1- النظام الملكي السعودي
2- الكتل الصلبة في المجتمع السعودي (المؤسسة العسكرية والقبلية والقوى الاجتماعية والدينية)
3- الشرعية الدولية، الدعم العلني من البيت الأبيض والرئيس الأميركي ترامب، الذي يواصل وقوفه مع ولي العهد، ولا يزال يدافع عنه وعن سياساته في محافل كثيرة، وعليه فإذا كان ولي العهد يستمد قوته الداخلية من والده الملك سلمان، فهو يستمد شرعيته وقته الخارجية من الرئيس الأميركي ترامب.
وبناء على هذه الاعتبارات الثلاثة، فولي العهد هو أقرب إلى وراثة عرش السعودية بعد والده، ما لم يحدث تغيير في الاعتبارين الأوّل والثالث؛ لأن الاعتبار الثاني لن يكون مؤثراً بشكل كبير.
عمل ولي العهد على تعزيز شرعية الأداء مقابل الشرعية الدينية
رابعاً، سياسات ولي العهد وقوة المملكة:
عوامل القوة الخارجية:
– إبعاد تهمة دعم الإرهاب والتطرف، وتحويلها ضد النظام القطري في دعمه الارهاب في سوريا وغزة والصومال.
– محاولة الاستفادة من حاجة الاقتصاد العالمي للسعودية، خاصة بعد أزمة خاشقجي وتحوله إلى الاستثمار في الشرق الآسيوي.
عوامل الضعف الخارجي:
– ضعف الشرعية الدولية للحرب في اليمن من أهم العوامل، إن بقاء العاصمة صنعاء في يد جماعة الحوثي أمر قد يكون مسلماً به في الدمدى المنظور. وفي ظل عدم وجود أي تجديد للخطاب السياسي السعودي تجاه اليمن، أو تركيز ملحوظ على مسألة الحدود وأمن الجنوب، فإن الوقت في غير صالح ولي العهد داخلياً وخارجياً، ويستنزف من صورته وصورة المملكة على حد سواء بالتوازي مع توجه المجتمع الدولي للتركيز على سيناريوهات ما بعد الحرب اليمنية (على غرار الشأن السوري منذ عام 2017).
– تهمة «سلطوية» ولي العهد عامل ضعف كبير جداً له وللمملكة، فحيث أصبح ولي العهد المتهم السعودي الأول في الغرب بتبني سياسات سلطوية، وهي تهمة كانت توجه إلى النظام الحاكم ككل وللأسرة الحاكمة بدون تمييز طوال عقود… وبالتالي فإن الغرب بدأ يرى أن موقف ولي العهد ضعيف، وأنه ملزم تقديم تنازلات حتى يغيروا رأيهم فيه (وهو أمر صعب الحصول عليه) بينما فقد الأمير الشاب القدرة على المناورة السياسية، والظهور في موقع المانح والمانع أمام الخارج، وفقاً لمتطلبات ورؤية مؤسسة الحكم.
– نتائج مقاطعة قطر المضرة بالمملكة، وتوتر العلاقات مع النظام التركي، وغموض الموقف الأميركي من إيران، وظهور بوادر اختلاف في السياسات مع الإمارات، جعل السياسة السعودية الخارجية أضعف خلال العامين الماضيين.
عطفاً على كل ما سلف يمكن وضع القراءة التحليلية التالية بحسب المعطيات الواردة:
حول التغيّرات الداخلية السعودية سياسياً واجتماعياً والتي تشهد تطورات أساسية ومتسارعة، ومتناقضة أحياناً، وقد تركز غالبها على فرض شرعية حكم ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، بالقوة والقبضة الأمنية، وتعزيز شرعية الأداء، عبر الإنجازات الاجتماعية خاصة، وإضافة مزيد من شرعية الحكم بالاستفادة من الشرعية التاريخية والشخصية للملك سلمان، والتسريع في إعادة هيكل السلطة السياسية، والتمهيد لانتقال الحكم سواء في الإطار الطبيعي بوفاة الملك أو تنازله عن العرش.
أبرز التغيّرات في سياسة الحكم لولي العهد محمد بن سلمان، وذلك عبر مجموعة مؤشرات وإجراءات هي:
1- الاستمرار في تمكين ولي العهد وتعزيز شرعيته استناداً إلى القبضة الأمنية:
بدعم مباشر من الملك سلمان، سعى ولي العهد لتعزيز شرعيته على مستوى الداخل السعودي، بتغليب التعسف وتغيير هيكل السلطة السياسية، عبر الترغيب والترهيب، والتفرد في السطلة والمبالغة في قمع وتخوين أي معارض محتمل أو صاحب رأي، ساعياً لإظهار «شرعية الأداء والإنجاز» كنهج جديد، وعلى المستوى الإقليمي والدولي سعى ولي العهد لتعزيز شرعيته بتقديم نفسه كزعيم تاريخي استثنائي (مصلح ومجدد) سوف ينقذ السعودية من التطرف الديني، ويجتث جذور الإرهاب، لكم حادثة مقتل خاشقجي أضرت كثيراً هذه المساعي والطموحات، وهو ما يسعى ولي العهد لترميم تداعياته.
2- ظهور مؤسسات الدولة الأمنية الموازية للعلن:
في العام الثالث من حكم الملك سلمان تم هيكلة المؤسسة الأمنية السعودية، وحدوث أهم تحول في خارطة المؤسسة الأمنية؛ عبر تفكيك وزارة الداخلية وإنشاء جهاز «رئاسة أمن الدولة»، وتخويله جميع الصلاخيات الأمنية السيادية، وإنشاء مركز الأمن الوطني، الذي يتبع مباشرة للديوان الملكي، مع ربط كل ما يتعلق بأمن الدولة الداخلي بولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وفي بداية العام الرابع جرت خطوة استعراضية وتصعيدية بعد أن قامت فرقة أمنية\عسكرية حديثة، تمّت تسميتها قبل الحدث بساعات «كتيبة السيف الأجرب» والتابعة للمستشار (السابق) سعود القحطاني، بالقبض العلني على 11 أميراً ونقلهم لسجن الحائر السياسي. وكان هذا الحدث هو الأول منذ تأسيس المملكة؛ بألا تتولى الجهة الأمنية المختصة (جهاز أمن الدولة) القبض على المتهمين، ومنهم الأمير د. تركي بن محمد الكبير (وكيل وزارة الخارجية السعودية السابق)، والذي اتهم بالخيانة العظمى؛ بسبب التواصل مع سفراء وصحف أجنبية وحديثه عن قراءته لمستقبل الحكم بعد الملك سلمان.
3- بروز عقيدة أمنية جديدة لاختراق المعارضين إلكترونياً وتخوينهم علنياً:
تم الإلغاء المؤقت لأجهزة الدولة الأمنية والعدلية الرسمية، واستبدالها بتغول عناصر الدولة الموازية، مع تجاوز جميع القوانين والضوابط التقليدية؛ حيث تم توجيه جزء من الجهود الأمنية لمراقبة الأمراء في فروع الأسرة المالكة، وكذلك المعارضين في الداخل والخارج، ولجوء الحكومة السعودية إلى شركات إسرائيلية للمساعدة في تعقّب معارضين بارزين على مواقع التواصل الاجتماعي، واختراق أجهزتهم الإلكترونية، بالإضافة لتفشي ظاهرة المواطن المُخبر أو المحرض، مع تنامي دور «الهيئة الوطنية للأمن السيبراني»؛ وتحجيم دور جهاز أمن الدولة على تنفيذ أوامر القبض.
4- تفرد ولي العهد بالسلطة دون منافس والتصرف كملك:
فخلال منتصف العام الرابع بدأ ولي لعهد يتصرف وكأنه ملك، وهذا انعكس على المراسم والبروتوكولات الاستثنائية بدءاً باستقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي له، ثم مرافقته للمطار وتوديعه. وتناول الغداء مع ملكة بريطانيا في قصر باكنغهام، ثم استقباله في البيت الأبيض وللمرة الثانية استقبالاً رسمياً، وإجراء مباحثات موسعة وعشاء خاص مع نائب الرئيس الأميركي، كما حظي بترحيب خاص من الرئيس الأميركي ترامب، الذي أكد في كلمة علنية بأن الملك سلمان اتخذ قراراً حكيماً جداً باختيار محمد بن سلمان كولي عهد. وغني عن القول إن هذه الحماسة خفتت بوضوح بعد حادثة مقتل خاشقجي في أكتوبر 2018.
5- ظهور ملامح عقيدة محمد بن سلمان السياسية:
ظهرت ملامح عقيدة محمد بن سلمان السياسية، والقائمة على تعزيز الهوية الوطنية السعودية، وبدء «التحوّل – التغيير» الديني والاجتماعي، عبر دعم مبادرة «الإسلام المعتدل» و»تهذيب الوهابية»؛ بهدف تصحيح واقع وصورة السعودية، التي كان يُقرن اسمها بالمنظمات المتطرفة والإرهاب. وكان من السلبيات المغالاة في الشعور الوطني، وصولاً إلى نمو أطروحات سعودية متطرفة تدعو لابتعاد المملكة عن القضايا العربية والإسلامية، وذلك بالتزامن مع تبني سياسة خارجية أكثر هجومية، مع اتخاذ إيران كعدو ومُهدد أول، وتحول تركيا من صديق لعدو مفترض، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
6- اتضاح الموقف السعودي من «الإخوان» واعتبارهم مصدراً للإرهاب:
بشكل علني واضح، قطع ولي العهد السعودي الشك بالبقين تجاه جماعة «الإخوان»، واتهمهم صراحة باختراق التعليم والإعلام السعوديين، ووعد بالقضاء تماماً عليهم، وتحدث بوضوح عن «مثلث الشر»؛ «العثمانيين وإيران والجماعات الإرهابية»، وبأن «الإخوان» هم حاضنو الإرهابيين. وتعتبر «رئاسة أمن الدولة» السعودية بأن الإرهاب المعاصر هو نتاج أيديولوجيات أهمّها «الفكر الإخواني».
7- تقديم الولاء المطلق والارتياح الشخصي على أي معايير أخرى:
مثّل تعيين عبد الله بن بندر وزيراً للحرس الوطني استكمالاً للسيطرة على أهم مؤسسة عسكرية مسؤولة عن الأمن الداخلي بمعناه الصلب والاستراتيجي، وخاصة أن الحرس الوطني يضم الأفواج التي تمثل أكبر قبائل المملكة. وكان من المهم نهاية العام الرابع تأمين مركز الثقل في توازنات النفوذ القبلي، وإلغاء أي تكتل محتمل لمعارضة حكم ولي العهد (الملك السعودي المنتظر). وكانت السيطرة على هذا الجهاز تقتضي إزاحة آخر الشخصيات التي كانت تدين بالولاء التاريخي والشخصي لمؤسس الحرس الوطني وزعيمه التاريخي والروحي، الملك عبد الله بن عبد العزيز. وتأكيداً على تقديم الولاء الشخصي على أي معيار آخر، اختار ولي العهد أقرب أصدقائه وشركائه التجاريين وأشد الموالين له، ليكون وزيراً للحرس الوطني، في تأكيد لتغليب معيار الثقة والمعرفة الشخصية على معيار الكفاءة والاستحقاق، يمكن القول إن ولي العهد أتم العام الرابع من عهد والده بالسيطرة على مركز القرار السياسي ومن دون منازع، وضمن أنه صاحب القرار الأول، سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وذلك بتفويض من الملك.
8- وفاة آخر الأمراء المعارضين لولي العهد من أبناء المؤسس:
شهدت نهاية العام الرابع وفاة الأمير طلال بن عبد العزيز، وهو ما مثّل طي مرحلة من الخلاف السياسي والشخصي بين ولي العهد وأهم أعمامه، والتي أضعفت آمال ابنه الملياردير الوليد بن طلال، الذي يضمر طموحات سياسية وشخصية، ورغم أنه سيظل مصدر شك لدى ولي العهد فإن براغماتية الوليد وخشيته من فقدان ما تبقى من ثروته جعلته مطيعاً ظاهرياً واضطرارياً لولي العهد، خاصة وأن منعه من السفر يشل قدرته تماماً على أي مناورة سياسية في الخارج.