يجد الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري نفسه في موقف لا يُحسد عليه. فالقيود والشروط الموضوعة عليه اليوم أكبر من تلك التي واجهته سابقًا وأكبر من تلك التي واجهت مصطفى أديب. هذه الضغوط التي تنقسم بين الداخل والخارج، تجعل هامش تحرّكه صغيرًا جدًا حتى لا نقول معدومًا في ظلّ عوامل لا يُمكن له أن يتجاهلها تحت طائلة الإنتحار السياسي.
داخليًا، الحريري أعطى وعودا للعديد من القوى السياسية وهذا الأمر جعل الوطني الحرّ ينتفض ويرفض العروض الحريرية والتي، على عكس ما يُقال، طالت الأسماء.
هذا الرفض البرتقالي مدعوم بموقف حزب الله غير المُتحمّس لتشكيل الحكومة في ظلّ عدم وضوح صورة نتائج الإنتخابات الأميركية. وهو ما لا يُمكن للحريري تخطّيه نظرًا إلى الحاجة لتوقيع رئيس الجمهورية من جهة والحضور الأصفر القوي من جهة أخرى.
خارجيًا تلقّى الحريري صفعة قوية من قبل الدول الخليجية التي سحبت سفرائها في إشارة واضحة إلى رفض المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المُتحدة لمناورات الحريري التي ستنتهي، بإعتقادها، بتعويم حزب الله. وكأن هذه الرسالة لا تكفي، جاء تصريح السفيرة الأميركية البارحة ليزيد الضغوط على الحريري للتراجع عن خطّوة كان سيُقدم عليها بحسب المصادر وذلك من خلال تهديد الولايات المُتحدة الأميركية بالإنسحاب من لبنان ولكن أيضًا وضع سعد الحريري نفسه على لائحة العقوبات.
الحريري يرى في الانسحاب من التكليف نهاية لمسيرته السياسية نظرًا إلى أن أي حكومة ستُبصر النور ستبقى حتى نهاية العهد. وبالتالي، فهو يُصرّ على أن يكون رجل هذه المرحلة من خلال تعلّقه بالتكليف حتى نفاد كل الخيارات.
من جهته، أصبح رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل أكثر تشدّدًا في موقفه متسلّحًا بدعم رئيس الجمهورية ولكن أيضًا دعم حزب الله الذي يرى أن باسيل عُوقب أميركيًا بسبب علاقته معه. وبالتالي يُشدّد باسيل على معايير التكليف مُستهدفًا بذلك رئيس مجلس النواب نبيه برّي ولكن أيضًا رئيس الحزب الإشتراكي وليد جنبلاط. باسيل يرى في تخصيص وزارة المال لحركة أمل ومنع وزارة الطاقة عن التيار الوطني الحرّ، إستنسابية في المعايير وبالتالي يرفض أي مداورة إذا لم تكن شاملة. كما أن تسمية الوزراء المسيحيين هي أمر إستراتيجي لباسيل نظرًا للقرارات المصيرية التي ستأخذها هذه الحكومة إذا أبصرت النور.
باسيل الخاضع للعقوبات الأميركية، بدأ معركة تصفية الخصوم علنًا. وإذا كانت قدرته على تصفية هؤلاء تختلف بحسب كل خصم، فإن البداية مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وقائد الجيش جوزيف عون اللذين لا يملكان أي أرضية شعبية تُدافع عنهما. فالضربة الأولى طالت سلامة مع تشدّد التيار بتنفيذ التدقيق الجنائي لحشر سلامة وتحميله مسؤولية كل ما حصل على الصعيد المالي والنقدي. وإذا كان سلامة يستحصل على دعم خصوم باسيل السياسيين، وهو ما فرمل عملية التدقيق، إلا أن باسيل سيُحاول في الأسابيع المقبلة مُحاصرة سلامة من عدّة أبواب على رأسها الباب التشريعي ولكن أيضًا من خلال الشارع.
الضربة الثانية طالت قائد الجيش من خلال رفض التمديد لمدير المخابرات وتفضيل مُقرّب من باسيل وبالتالي لجم قدرة قائد الجيش المرشّح الطبيعي لرئاسة الجمهورية.
الفارق الأساسي في إستراتيجية باسيل الهجومية على كل من سلامة وعون تتمثّل في أن الهجوم على عون هو من داخل المؤسسة العسكرية وهو ما لا يستطيع فعله مع سلامة نظرًا للصلاحيات المُعطاة لسلامة قانونًا.
أيضًا، يرى الوزير باسيل أن الفرصة سانحة للجم نفوذ الرئيس برّي في الحكومة حيث أنه يرفض بشكل قاطع إعطاء وزارة المال لوزير يُسمّيه برّي. أمّا من جهة الوزير جنبلاط، فيرى باسيل أن أفضل طريقة للجم نفوذه هو من خلال توزير شخص محسوب على أرسلان. إذًا الوزير باسيل، القابع تحت العقوبات، أعلنها حربا شاملة على الخصوم برضى مُبطّن من قبل حزب الله وعجز كامل من قبل الرئيس الحريري وفريق 14 أذار سابقًا.
من جهتها، تُغرّد القوات اللبنانية خارج السرّب مع رفضها المُشاركة في الحكومة وذلك عملا بإستراتيجية جعجع الذي يُعوّل على الإنتخابات النيابية المُبكّرة لحصد عدد أكبر من النواب مُستفيدًا من تراجع التأييد الشعبي للتيار الوطني الحرّ. وحتى في ظلّ تشكيل حكومة جديدة، يراهن جعجع على فشل هذه الحكومة في القيام بإصلاحات مما سيزيد من حظوظ مراهنته.
من جهتها تزيد الإدارة الأميركية الحالية الضغوط على لبنان بهدف الإنصياع والدخول في عملية التطبيع وذلك من خلال العقوبات التي ستزيد وتيرتها مع الأيام والأسابيع المقبلة. فهذه الإدارة التي تحتاج لحكومة لإقرار الترسيم الحدودي، لا تُريد أي مُمثل مباشر أو غير مباشر لحزب الله في هذه الحكومة. وهذا ما يجّعلها تستخدم الفرنسيين المُتعطشين لدور في المنطقة، في لعبة العصى والجزرة.
إذًا من كل ما تقدّم، نرى أن هناك شبه إستحالة لتشكيل حكومة في ظلّ الظروف الحالية ومن دون أي تغيير في المعطيات الإقليمية وهو ما سيزيد من المعاناة الداخلية.
الوضع الإقتصادي
الفراغ الحكومي الحالي يزيد من تدهور الوضع الإقتصادي مع تركّ المسؤولية بالكامل على مصرف لبنان الذي يستنزف إحتياطاته في ظّل إستمرار المضاربة على الليرة والغش الذي يُمارسه التجار والمهرّبين. عمليًا، إحتياطات مصرف لبنان شارفت على النهاية والتوقّعات ألا تدوم أكثر من أواخر العام الحالي. وهذا الأمر يعني تحرير سعر صرف الليرة في ظل ركود إقتصادي قاتل مما سيؤدّي حكمًا إلى عدم قدرة اللبناني الحصول على قوته. على كلٍ، الأوضاع المعيشية الصعبة أصبحت تطال شريحة كبيرة من اللبنانيين وإزدادت معها علميات السرقة والخطف وأخرها كان البارحة مع خطف رجل أعمال على طريق القرعون.
الجشع الذي يُمارسه التجّار والصرافون سيكون موضع إستهداف الجائعين في المرحلة المُقبلة التي أصبحت معالمها واضحة أي إرتفاع الأسعار بشكل جنوني وإستحالة تأمين القوت اليومي لشريحة كبيرة من اللبنانيين. هذا المشهد دفع بعض السياسيين إلى طرح فكرة تسييل الذهب الموجود في لبنان، إلا أن هذا الطرح يواجه عقبات كثيرة على رأسها قطوع المجلس النيابي ولكن أيضًا الرغبة الأميركية التي ستمّنع تسييله. كما أن هناك طروحات أخرى مثل إستخدام الإحتياطي الإلزامي (17 مليار دولار) والذي هو عبارة عن ودائع الناس وهو ما سيواجه معارضة المصرف المركزي نظرًا لطابعه المُخالف للدستور.
في ظلّ هذه المعطيات، توجّه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى باريس أول من أمس في زيارة تقييمية للأوضاع النقدية للمصرف المركزي على خلفية الاجتماع الموسّع الذي ضمّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفريق عمله إلى وزير الخارجية الأميركية بامبيو والذي رشح عنه تصعيد في الموقف الغربي تجاه لبنان. وتُشير المعلومات إلى أن المجتمعين أرادوا الإستطلاع من حاكم المصرف المركزي سلامة على واقع الوضع المصرفي والنقدي وبالتحديد نقطتين أساسيتين: الأولى الإحتياط المركزي وقدرة مصرف لبنان على تأمين المستلزمات من مواد أولية وغذائية، والثانية وضع القطاع المصرفي في ظل العقوبات الأميركية. وعلمت الديار أن هناك توجّها من قبل المجتمعين لتأمين الحدّ الأدنى من حاجات الشعب اللبناني في ظلّ خطّة تصعيدية للضغط على السلطة السياسية لتشكيل حكومة والقيام بإصلاحات.
أربعة قطاعات تحت المجهر
من جهتهم يتخوّف الفرنسيون من أن إضمحلال قدرة المركزي على تأمين دولارات الإستيراد للمواد الأولية والغذائية ستؤدّي إلى مجاعة حقيقية شبيهة بمجاعات لم نرى مثلها إلا في كتب التاريخ. وبالتحديد، فإن أي تصعيد ستقوم به الولايات المُتحدة الأميركية، سيؤدّي حكمًا إلى ضربة كارثية على المواطن اللبناني من باب الكهرباء والمحروقات والأدوية والقمح والأدوية خصوصًا إذا ما توقّف مصرف لبنان عن تأمين دولاراتها. على هذا الصعيد، عبّرت بعض الدول عن إستعدادها تأمين هذه المواد شرط ضبط توزيعها وهو ما تستطيع العمّلة الرقمية القيام به من خلال حصرها بفئات مُعيّنة.
واقع لبنان يُمكن تشبيهه بالميّت الذي دخل المطهر وبالتالي يحتاج إلى صلوات لخروجه. فهل تكون صلوات اللبنانيين كافية لدخوله الجنّة أم أن فترة المطهر ستكون قاسية وطويلة.