السبت, نوفمبر 23
Banner

رياض سلامة على بُعد خطوات من خط النهاية

منير يونس – نداء الوطن

يفصل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن خط نهاية مغامراته خطوات قليلة. انه قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، بعدما انهار قبله البلد مالياً ومصرفياً واقتصادياً واجتماعياً.. وأخلاقياً.

المواصفات الأميركية والأوروبية… والدولية

ليس سراً القول أن مخاضات البحث عن خليفة للحاكم تطرح نفسها كل يوم. بيد ان الخلافات بين أركان المنظومة السياسية المتسلطة، تحول دون الاتفاق سريعاً على اسم بديل، ضمن حزمة مواصفاته مراعاة اشتراطات دولية ضمنية معينة، لا سيما أميركياً وأوروبياً ومن صندوق النقد الدولي فضلاً عن جهات تمويلية دولية أخرى يعول عليها لبنان.

أميركياً، ليس صحيحاً الاعتقاد «أن سلامة أو لا أحد»! انها اسطورة من نسج خبث حماة رياض السياسيين بتغذية منه، فضلاً عن السذج الرابطين أي تفصيل تافه في لبنان بعواصم القرار الدولية. بالنسبة للأميركيين، سواء كان سلامة أو غيره، يتعلق الأمر باستكمال مسار مكافحة تمويل «حزب الله»، والحوؤل دون خرقه للنظام المصرفي اللبناني. واللافت أنهم أضافوا مؤخراً هدف منع اختراق فساد السياسيين عموماً لهذا القطاع، كما جاء في اجتماع للخزانة الأميركية مع جمعية المصارف.

أوروبياً، هناك المسار القضائي ضد سلامة المتهم بالاختلاس وتبييض الأموال. مسار يتقدم ببطء لكن بثبات كما أكد مصدر قضائي فرنسي مطلع على الملف في تحقيق استقصائي نشرته «ميديا بارت» قبل أيام قليلة. عدة دول أوروبية وضعت رياض سلامة تحت مجهر التحقيقات والقضاء والادعاء عليه بشبهات خطيرة من الاختلاس واستغلال النفوذ مروراً بتبييض الأموال، وصولاً إلى الاثراء غير المشروع.

على صعيد صندوق النقد، اتضح أن رياض سلامة ليس المفاوض الذي يفضله الصندوق لا بل يفضل استبعاده اليوم قبل الغد. فبعدما كان ضلعاً أساسياً في افشال مفاوضات سابقة للصندوق مع حكومة حسان دياب، اضاع سلامة وقت الصندوق في مناورات وحلول غير واقعية، ان لم نقل غير مسؤولة، قدمها في المناقشات التي اجراها فريق حكومة نجيب ميقاتي مع الصندوق في الأسابيع الماضية، وأدت الى فشل المناقشات.

محلياً يريدونه مطواعاً خدوماً… فاسداً مثلهم

محلياً، هناك مصلحة لفريق سياسي في الإبقاء على رياض سلامة في موقعه، ولا يريد هذا الفريق تقديم أي هدية للرئيس ميشال عون في آخر أيام عهده. كما انه يعتقد أن سلامة الوحيد القادر على المساهمة في الخروج من الأزمة لمعرفته بما حصل في العقود الماضية. الا ان ذلك لا ينفي خوف حماة سلامة من فقدان السيطرة على ملفات معينة اذا خرج سلامة من الحاكمية، لا سيما علاقات سفاح القربى السياسية المصرفية التي سادت منذ التسعينيات الى اليوم. برأيهم، كل شيء قابل للتسييس وتصفية الحسابات في لبنان، فماذا لو تعلق الأمر بعشرات المليارات تبخرت أو أهدرت. لذا، فاذا كان لا بد من حاكم جديد، فليكن طيعاً مطواعاً، مهادناً متهاوناً، والا فليبق سلامة مكانه حتى آخر ولايته مهما كلف الأمر من خسائر اضافية. وللعلم، فان الخسائر عشية الأزمة كانت تقدر بين 30 و34 مليار دولار. وهي الآن أكثر من 73 ملياراً بفعل منع اقرار قانون لضبط السحوبات والتحويلات (كابيتال كونترول)، وترك الحبل على غاربه لحاكم مصرف لبنان بتعاميم، فشلت كلها فشلاً ذريعاً في تهدئة المخاوف واعادة الحقوق لاصحابها. أما فريق الرئيس عون، عملاً بقاعدة «عليي وعلى أعدائي يا رب» يعتقد أنه قادر على قلب الطاولة وتحقيق مكاسب في اللحظات الأخيرة من عهده الذي انفجرت فيه الأزمة المالية الأخطر في تاريخ لبنان، والتي صنفها البنك الدولي بين الأخطر في العالم منذ 150 سنة.

توازن الرعب يخدم سلامة كما يطوّق عنقه

في توازن قوى الرعب هذه، يحاول رياض سلامة الرهان على الأقوى في المعادلة التي أمنت له الحماية منذ ما قبل اندلاع الأزمة في 17 تشرين 2019. لكن قطار القضاء الأوروبي يقترب أكثر فأكثر من محطات حقائق ارتكابات تقضي على بعض الأمل في نفس سلامة بالخروج منها سالماً، خصوصاً بعد توقيف أخيه رجا سلامة في لبنان واعترافاته المثيرة. أجل، بدأت تظهر كل الخطوط العريضة لخرائط شبهات الأموال والثروات التي حققها سلامة طيلة العقود الماضية، ومنها ما هو متصل بعقد مشبوه لشركة (فوري) استفادت من عمولات تسويق أوراق دين عام وشهادات ايداع، تراكمت حتى زادت على 330 مليون دولار. بعيداً من لعبة الاشخاص ولمن ينتمون، من يعينهم أو يزكيهم، اين هي مصلحة المودعين والقطاع المصرفي والمسار المالي والاقتصادي العام، وماذا على الحاكم الجديد لمصرف لبنان ان يفعل حيث له دور يفعله؟

فتح الدفاتر فوراً وبشفافية كاملة

أولاً: فتح الدفاتر بشفافية كاملة، والقبول بتدقيق حسابات مصرف لبنان التي يفترض أنها الصندوق الأسود الذي تخمرت ثم تعفنت فيه كل تفاصيل كيفية تبخر عشرات مليارات الدولارات. فتح الدفاتر يتجاوز طلبه بالحاح من طرف لبناني دون آخر، الى صندوق النقد الدولي الذي من دونه سيبقى لبنان يجرجر أزماته المتفجرة اقتصاياً ومالياً واجتماعياً وسياسياً وربما أمنياً أيضاً. يفترض بالتدقيق، الذي تتولاه شركة الفاريز اند مارسال حالياً، ليس تحديد الخسائر التي يسميها رياض سلامة «فجوة» هروباً من مسؤوليته ومسؤولية شركائه السياسيين والمصرفيين في اسبابها، بل أيضاً هو ضرورة قصوى للمحاسبة ومنعاً لتكرار نفس الأخطاء والخطايا مستقبلاً. اذ كيف يمكن تخسير المودعين معظم حقوقهم من دون حد أدنى أو أقصى من محاسبة المسؤولين عن ضياع الحقوق، وتطمين الأجيال الحالية المقبلة إلى أن نموذجاً جديداً يجب بناؤه على قواعد أكثر صلابة واستدامة ؟ من الممكن جداً أن يقبل المودعون وعموم اللبنانيين التضحية اذا رأوا أن من أجرموا مالياً يحاسبون على أعمالهم. وأن لبناناً جديداً يمكن أن يقوم على انقاض منظومة قتلت الناس في المرفأ وسرقت أموالهم في البنوك. وعلى صعيد الشفافية أيضاً، على الحاكم الجديد تكريس نشر دوري لكل الأرقام والميزانيات التي يجب الوصول اليها بسهولة، ولتتراكم تاريخياً وتشكل مرجعاً دقيقاً على الدوام. بعكس واقع الحال مع سلامة الذي ارتكب موبقة التعمية في الأرقام وصلت به حد تسجيل الخسائر كموجودات وتضليل المتابعين شر تضليل نحو 20 سنة متواصلة!! ولا ننسى في سياق الشفافية المطلقة معرفة ما لدينا من ذهب وأين هو وماذا سنفعل به ؟

مسار جديد مختلف كلياً للتفاوض مع صندوق النقد

ثانياً، على الحاكم الجديد أن يقرر فوراً مساراً جديداً للتفاوض مع صندوق النقد، بعدما اتضح ان رياض سلامة الذي أفشل خطة حكومة حسان دياب، يحاول مع حكومة ميقاتي تقديم حلول غير واقعية تراهن على الوقت والتمييع وتضييع المسؤوليات من دون أدنى عبء بمكاشفة الناس بما حصل؟ ولماذا حصل؟ وما الدروس المستفادة للبناء عليها نموذجاً جديداً مختلفاً كلياً عن نموذج المخطط الاحتيالي الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وامين عام الأمم المتحدة انطونيو غوتيريش. وبين امثلة الحلول غير الواقعية، ليلرة الودائع الدولارية، اي دفعها بمئات تريليونات الليرة اللبنانية في مدى سنوات وسنوات من دون أي حساب علمي ومالي للآثار الجانبية على سعر الصرف والتضخم، وبالتالي التعاملات الاقتصادية والمالية برمتها.

وفي سياق التفاوض مع صندوق النقد ولاحقاً، على الحاكم الجديد تنسيق سياسة نقدية في موازاة سياسة مالية هدفهما تحقيق النمو الاقتصادي المستدام الذي على عاتقه وحده اخراج لبنان من ازمته في المديين المتوسط والطويل.

تقرير مصير ضخ دولارات في سوق القطع

ثالثاً: عليه أيضاً، ومنذ الأيام الأولى لوصوله، تقرير مصير سياسة ضخ دولارات في الأسواق في محاولة لمنع انزلاق صرف الليرة أكثر. ذلك الصرف يهدر مما تبقى من عملات أجنبية في مصرف لبنان أي من حقوق المودعين قبل غيرهم. لكل خيار ثمن، أما سلامة فيشتري الوقت يوماً بيوم تحت رعاية سياسية لا تعبأ بحقوق المودعين وتفضل عليها الانتخابات لتجديد شرعية طائفية وفئوية تمنح اصحابها صك براءة لاستكمال فساد منظومة كانت سبباً رئيسياً في انهيار لبنان. وفي العموم، يبقى السؤال: هل نكرر خطيئة تثبيت سعر الصرف التي كانت أساس كل الشرورالمالية والنقدية في مدى أكثر من ربع قرن؟؟

تحميل المصارف والمصرفيين مسؤوليات ركوب المخاطر

رابعاً: الشروع في اعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي بات نهباً للقضايا المرفوعة ضده بفعل تراخي سلامة في وضع الحلول المناسبة وفقاً لقانون النقد والتسليف. بهذا القانون وغيره من القوانين ذات الصلة والمرعية الاجراء ننتقل من وضع مصرفي عليل الى آخر أفضل حتماً. وتحديداً تحميل المصارف الجزء الذي يعود اليها من المسؤوليات برساميلها وأصولها، وثروات وأصول المصرفيين الذين غامروا ضاربين عرض الحائط أبسط معايير الحوكمة وتوزيع المخاطر، وشفطهم لأموال الناس ووضعها في مصرف لبنان الذي تصرف بها على هوى ما يراه مناسباً له وللمنظومة طيلة أكثر من عقدين من الزمن. بات مستحيلاً الابقاء على النظام المصرفي كما هو كأن شيئاً لم يكن. فذلك يعني أن أجندة التفريط بأصول الدولة أولوية عند المصرفيين وحماتهم من رياض سلامة الى الطغمة السياسية الحامية لهما معاً. وما استسهال التصرف بأصول الدولة، في غير محلها الصحيح لاعادة بناء الطبقة الوسطى وتوفير شبكة حماية للفقراء وتوفير نمو اقتصادي مستدام، الا للحؤول دون محاسبة أحد ليتكرر نفس النموذج المندور للأزمات دائماََ وأبداً.

الاستقلالية وإصلاح منظومة التنظيم والرقابة

خامساً: على الحاكم الجديد بناء جدار صيني سميك وطويل بينه وبين السياسيين، والشروع فوراً بطلب تعديل جملة قوانين مثل السرية المصرفية، وفصل الرقابة عن التنظيم والاشراف على القطاع المصرفي، كما فصل التحقيق بمخالفات البنوك عن الحاكمية، وغيرها من التشريعات التي تحمي المال العام والخاص من اجرام السياسيين الفاسدين والمصرفيين الجشعين.

تفكيك الإرث اللعين

سادساً: البدء في تفكيك إرث رياض سلامة في البنك المركزي، لا سيما مجموعة كبار الموظفين سياسياً وطائفياً، واستبدالهم بموظفين أكفاء من اصحاب الاختصاص النقدي والمالي والاقتصادي الرفيع. وعليه العودة الى ممارسات حصيفة كانت سادت أيام الياس سركيس وادمون نعيم في الحاكمية. وتعزيز دور مفوض الحكومة الذي ينقل الى مجلس الوزراء ما يجب نقله، لتعمل الحكومة عند الضرورة مع مجلس النواب على فتح جلسات مساءلة مع الحاكم سعياً لتعزيز الصواب وتصويب الاعوجاج.

ولتفكيك الإرث يفترض تخلي «المركزي» عن ملكيات في انترا وكازينو لبنان وشركة الميدل ايست وملكيته لعقارات وأصول ليست من صميم عمله.

خلاف ذلك… يعني أن بقاء سلامة يشبه مغادرته

ما سبق هو أبرز ما على الحاكم الجديد القيام به فوراً وتباعاً. خلاف ذلك، يعني ان بقاء سلامة مكانه يشبه استبداله. فرياض سلامة «شاطر» في المراوحة وكسب الوقت. وهذا ما تريده المنظومة التي ستجدد شرعيتها في الانتخابات وتستأنف تسلطها بتفويض شعبي هذه المرة يدفن احلام الناس في التغيير ويؤجل الأمل الى أجل غير مسمى.. فيدخل المجتمع مجدداً نفق مزيد من الاحباط والتحبيط، باحتقان متصاعد يجدد اعتمال امكان الثورة بعناوين اكثر جذرية، وبرامج اكثر توافقاً على أن مصير البلد فوق مصير الطوائف مهما زينوها بالمقدسات الكاذبة وفوق مصير الزعماء مهما علا كعبهم المافيوزي.

Leave A Reply