الأحد, نوفمبر 24
Banner

انتخابات الاستعباد وسراب التغيير

الكاتب نصري الصايغ

الكلمات، دخان وحروف. الكلمات، أفعال وآثار. أسهل ما نقوم به، ان نثرثر. نطرب الى سيول الكلام. نرى لبنان من خلال الشفاه الناطقة بما قيل وما يقال. كتبان من الكلام “الشافي”، في مواجهة جبهات من الكلام الطائفي. اسراب جراد، تأكل المعاني وتخصي الامثال. سيطرة الكلمات فاقعة. لبنان، يتهاوى، يتمزق، يجوع، يفلس، يتسوَّل، يجثو، يضيع، فساد، فاسدون، فاسقون، مستبدون، بائعوا اوطان، مروضوا شعوب، متسولوا دعم… ووطنهم نخاسة للبيع.

قيل: “في البدء كانت الكلمة”. غلط. في البدء كان الفعل. الكلمات سهلة المخارج. الالفاظ صوت وحنجرة وشفاه. الكلمات تطنطن، تطرب، تلعلع، تهذي، تثرثر ,… تقنع. تصير سلاحاً من شتائم. قصف كلامي ماروني، يرد عليه قصف مضاد شيعي. لا تنجو طائفة من حروب الكلمات وغبار النفاق.. من الأقوى؟ الفاجر هو الأقوى. الصدق مات من زمان بعيد. لذا، عيب أن تكون صادقا؟ قف في الصف وامتثل. كن كغيرك. الفضاء ملكك، فاملأه مدائح، او فاملأه شتائم… وهكذا يكتمل لبنان، ككيان للصوص والكلاب. هذه الكلمات في لبنان، أن تُعلم سواك بنواياك ومخلفات عقلك. هدف العلم أن تتعلم. هيهات أن يتعلم اللبنانيون من الكلمات. هذه، تحاصر ادمغتنا وتخرق آذاننا. قصف كلامي يومي يخرق آذاننا. الاغنياء بحاجة دائمة إلى كلمات ليقذف بها الخصوم. والخصوم منتشرون: هنا موارنة، وهناك خندق للدروز، وهنالك جبهة للشيعة، وهناك شتات سني محبط بحاجة إلى ” قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”… واذا كنتم لا تصدقون ما جاء اعلاه، التفتوا إلى الشاشات المسائية، الى وسائل التواصل: عامان من التخندق خلف الكلمات والشعارات والاتهامات و”المسبات”. والمرشحون راهنا، يتفننون بيع الاوهام من خلف الميكرفونات. قذف مركز من الوعود والاكاذيب، لهم قدرة التنويم المغناطيسي، والتخدير الطائفي، واستنفار الغرائز والمذهبية و… الاقليمية كذلك. لبنان مالئ الدنيا وشاغل الابالسة الدوليين. كل ذلك يحدث ولبنان يتهاوى، يتساقط، يتحلل، يتفتفت. اللبناني، صنف خاص من العواء المستدام.

الموسم موسم “انتخابات”. غلط. غلط. غلط. انها تقليد غبي جداً.

هذا زمن المبايعة. لمن سينتخب الشيعي؟ لمن سيقترع السني؟ الدرزي ليس له أن يختار؟ الماروني يشحذ العنصرية ويا غيرة الرئاسة… هؤلاء يتسابقون والقادة نائمون على مجد الاستتباع. الزعامة الطائفية في لبنان، له قدرة التنويم المعناطيسي. فيا جماهير الطوائف شدوا الرحال إلى حيث تزين معاصمكم بالأغلال. للأغلال رنين الإنحلال.

كل هذا يحدث ولبنان مهدد بالزوال. كل هذا يحدث واللبناني البائس يبحث عن حنفة من المال، ويتحسَّر على ما كان لديه من رصيد في المصارف. والمصارف حصن مصان بملائكة النفاق وشياطين الشقاق. لا شعب يشبهنا ابداً. سنتان من الاذلال والقهر والمهانة وفقدان الأمل واليأس الكئيب… سنتان من النفاق والقهر والقرصنة والتهرب… سنتان والمجلس النيابي يمارس الفجور المالي والبناء الحسابي ويتهرب من ” الكابيتال كونترول”. يا أولاد الأفاعي، وستسمع نباحها، المؤسسات الدولية المتكالبة على جثة تساوي مئة مليار دولار منهوبة وموزعة على اولي السياسة و”القضايا”: علي بابا والمئة حرامي تقريبا، كي لا تسيء إلى القلة القليلة من الاوادم العاجزة والصامتة… العار كل العار لنا. لأننا نتنفس الهواء نفسه. هواء ملوث، فاحم، ودائم.

اننا نعيش مأساة الكلمات. انتحرت المعاني. الكلمات تكشف عن مجهول. تنبئ عن مدلول. الا انها عندنا في لبنان، الكلمات تتكاثر لتخفي الموضوع والمأساة ولتستر الاوجاع. ألم تكتشف أيها اللبناني، الفينيقي، المركنتيلي، الذيلي، الزاحف على جبهته، المبايع بتشوق عالي النبرات والاستفزازات.. ألم تكتشف أنك لا تساوي شيئاً عند نوابك ووزرائك واحزابك وطوائفك. أنت اليوم منشغل، وفق الدليل الطائفي، بحرب اوكرانيا، بالمحاور الاقليمية، بحرب مستدامة في اليمن. تقف إلى جانب السعودية في كل مكان هي فيه، وبإيران في كل ما تقوم به. أنت اليوم بياع اصوات بنبرات بائسة، لا تطعمك خبزاً، ولا تشتري دواء. الكلمات بأناس، عمياء لا ترى، لأن ستاراً دخانياً يحجبها.

ثم، وهذا هو الأهم. الأكثرية انت تعرف أن شيئاً لا يتغير، سيعودون إلى المجلس مع بعض الارباح القليلة أو الخسائر الضئيلة. اراهنكم على كل ما املك: ستفوز الطوائف كلها، بنسب متفاوتة التعادل (صيغة مبهمة، اليس كذلك؟). ولا يبقى للسكرانين بالتغيير، سوى نتف من الاصوات التي صدقت أن الانتخابات قد تغير، أو ستغير… عبث، “هذا حصرم في حلب”. الانتخابات، تشبه حفلة طرب نهارية، والكل سيكون رابحاً. ثم، يوما بعد يوم، “تعود حليمة إلى عادتها القديمة”.

شعب مفتح العيون واعمى لا يرى.

هذا الشعب الزاحف على جبينه إلى صناديق الاقتراع، لذة المذلة. ستتبارى مع خصومه بالكلمات. قاموس الافعال فارغ جداً. أفرغه هؤلاء وهؤلاء وهاولئك من كل فلس. ومن ثم. سيبدأ النق والنقار: من سيسدد الديون؟ “المرحوم مسبقاً، رياض سلامة وحده؟ انه لم يكن وحيداً. تجرأوا على تسمية شركائه. من الرؤساء الرؤساء الرؤساء، من الوزراء الوزراء الوزراء، النواب النواب النواب، المدراء ورؤساء المجالس، المدراء العامون، الصناديق الخاصة. صندوق المهجرين، مجلس الانماء والاعمار (الاسم غلط) مجلس الجنوب، البلديات. رياض سلامة ليس وحيداً. هو قائد أوركسترا ممتاز. يقود ويقاد لعازفين مميزين في توزيع النوطات الموسيقية والمالية، باتفاق قائد الاوركسترا…النشالون هم. هم.

تعرفونهم واحداً. واحداً. ثم اياكم أن تنسوا ارباب المصارف وآلهة المال وملائكة الاستدانة… خذوا نفساً الآن. استحضروهم واحداً واحداً. توبوا لهم سمعاً وطاعة. مغفورة لكم خطاياكم. نحن بانتظار الفتات منكم.

لا نجد في الكرة الارضية شبيها لكم، واشباهاً “لأمة عربية او سورية”، سيان. من المحيط إلى الخليج. مساحات من الطغيان والاستبداد والتبعية، وشعوب تلتزم الصمت، اكراماً للخبز والفتات. عالم عربي، رؤوس شعوبه منحنية. مسكينة ثورة البوعزيزي. انقض عليها الغرب “الديموقراطي” المنافق. والسلطات الاستبدادية، وجماعات التكفير الاسلامية.

آخ .. “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”.

والى يتامى المعرفة، انقياء العقل، الماضون في صراط الوعي، الراغبون بالعمل الدؤوب، بلا صراخ تلفزيوني، وادعاء غوغائي. نقول: أنتم الخميرة. علمّوا اولادكم، أن اللكمة خير من الكلمة، أن العقل خير من القول، أن الانسان هو البداية والنهاية وبين بين، وأجمل ما في الانسان، نقاء معرفته، رفض التبعية، التمرس بالحرية. حرية الرأي والعمل والاختيار. إما يمارس حريته ولا يتنازل عن غبرة منها. أن يؤمن بأن التعدد ثروة، والاستتباع دناءة وحقارة. أن يحسن استعمال قبضته. أن يبحث عن المعرفة العملية. أن يعرف كيف يواجه مع اقرانه حكم الكاذب والتاجر والمتعصب والطائفي… أن يبتعد قدر الامكان عن المسايرة، عن استعمال اللغة “الرخوة”. لغة المواطن قوية، صارمة، مواجهة، نافذة، ترفض السير على الجباه.

ماذا بعد؟

لا تسكر بالأمل. الأمل وحده دخان يعمي العقل. كأن تقول: “شدة وتزول”. لا. هذا استسلام. عليك أن تتجرأ على تحطيم الاصنام الظالمة والحية والمفترسة. عليك أن تصيب “الجماهير الفالتة من العقل والخلق” في قلبها. تجريد الجماهير من تصوراتها القبلية صعب جداً. الجماهير، اذا لم نصدق، فهي مصابة بداء الاوهام، لن تغير شيئاً. تجاربنا السابقة هنا وهناك من دنيا العرب، فاشلة جداً. انجبت دكتاتوريات سفاحة. منعت الكلام. هي التي تتكلم فقط. على عكس لبنان الذي لديه فائض من الفوضى، تسمى طائفية. طغى واستبد ونهب وكذب وسرق وارتكب في وضح النهار جنس الموبقات.

اذا لم يحدث ذلك، فلن نجد سوى المزيد من الدكتاتوريات الطائفية، المصرفية، السياسية وعندها، “ليت ساعة مندمِ”.

اخيراً: الجهل يقود إلى مزيد من الجهلة.

عبيد الكلمات شلَّت السنتهم. يؤمنون بما يسمعونه.

الطرش مفيد احياناً، والخرس كذلك.

الدكتاتورية الطائفية تزداد اتساعاً. يا ابرياء القلب والعقل، لا تصدقوا شاشاتكم، كل شاشاتكم. انها تأتي الكبائر السياسية، فهي إما تعتدي على ابرياء، او تحمي مرتكبين. بحلقوا جيداً. لبنان مهترئ اعلامياً، واخلاقه محفوظة ومحروسة في محفظته.

الذهاب إلى الانتخاب انتحار. المقاطعة موقف ومحطة للبناء عليها. أن لا تنتخب يعني أن لا تكون ملوثاً. كل منتخب، ولبنان حاليا في الجحيم السفلى، هو ملوث ومرتكب، مهما كانت مبرراته. خاصة وانه يعرف أن التغيير مستحيل، والأسوأ ممكن، سيسلموننا إلى الذئاب الدولية. سنصبح مركوبين لا راكبين. تباً لهكذا كيان وهكذا بلاد.

اخيراً، ابرر عدم كلامي عن الاحزاب. الاحزاب كالطوائف، عبيد العقائد والكلمات التي يدوسونها سياساتهم واستتباعهم للطوائف.

اخيراً مرة أخرى. هذا البلد كان صالحاً، ربما، لأجدادنا. ولكنه لم يعد يصلح لمن يشعر بنفسه أنه انسان.

أيها الناس اذاً. ابحثوا عن الانسان فيكم، والتصقوا به. انسانيتكم خير من تحزبكم الاعمى وتطيفكم السام وتبريراتكم السخيفة والهزيلة.

والى اللقاء، إلى ما بعد ما يسمى اعتداءً، “الانتخابات”.

انها موسم تجديد الولاءات، والسير بالجبهات إلى مواخير السياسات.

Leave A Reply