كتبت ايفا ابي حيدر – الجمهورية : لم يعد خفض الاحتياطي الالزامي مجرد توقعات او احتمالات قد يلجأ اليها المركزي في المرحلة المقبلة، انما بات واقعاً، بعدما اعلن مصدر رسمي امس لـ«رويترز»، عن عقد اجتماعات مع المعنيين لدرس هذه الخطوة. ومع كل الخسائر التي تكبّدها المودعون تباعاً منذ بدء ازمة السيولة في المصارف، وصلنا الى المرحلة النهائية ببدء تبخّر السنتات المتبقية…انّه بمثابة نحر للناس والاقتصاد والمستقبل.
تكشّف امس، انّ احتمال المسّ بالاحتياطي الالزامي بات واقعاً. المودعون الممنوعون عن ودائعهم، وما توهموا انّهم جنوه على مرّ السنوات، وُضعوا امام الامر الواقع: ستمتد اليد الى ما تبقّى من سنتات وهمية في حساباتهم، والأدهى انها ستُصرف ليس فقط لدعم اللبنانيين انما ايضاً لاستدامة عمل المهرّبين الذين نشطوا و«على عينك يا دولة» وفي غياب اي رقابة او تحرّك حازم لضبط تهريب الادوية والمواد الغذائية والمحروقات المدعومة، لإيصالها الى مختلف شعوب العالم. فماذا فعلت الدولة لتوقف تهريب المازوت والبنزين الى سوريا، في حين حُرم منهما اللبنانيون والمصانع ومؤسسة الكهرباء؟ كيف حاسبت الدولة مهرّبي الادوية الى مصر وتركيا والعراق؟ كيف حاسبت مهرّبي السلع المدعومة الى تركيا والكويت وكينشاسا؟ ورغم كل فجوات الدعم الماثلة للعيان، لا يزال هناك اصرار على اعتماد سياسة الدعم نفسها، لتبذير ما تبقّى من اموال المودعين، والقضاء على أي أمل بقيامة البلد.
فقد كشف امس مصدر رسمي مطّلع لـ«رويترز»، أنّ مصرف لبنان المركزي يدرس خفض مستوى احتياطي النقد الأجنبي الإلزامي، من أجل مواصلة دعم واردات أساسية العام المقبل، مع تضاؤل الاحتياطيات المنخفضة بالفعل. وقال المصدر: «إنّ رياض سلامة حاكم مصرف لبنان المركزي، اجتمع مع الوزراء المعنيين في حكومة تصريف الأعمال الثلاثاء، وكان أحد الخيارات قيد الدراسة خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي من 15 بالمئة إلى نحو 12 بالمئة أو 10 بالمئة». وتابع المصدر، «أن احتياطيات النقد الأجنبي تبلغ حاليا حوالى 17.9 ملياراً، ولم يتبق سوى 800 مليون دولار لدعم واردات الوقود والقمح والأدوية حتى نهاية العام الجاري».
ولم يردّ سلامة بعد على طلب تعقيب من «رويترز» على المناقشات أو الاحتياطيات، علماً أنّه في 27 آب قدّر احتياطي النقد الاجنبي عند 19.5 مليار دولار، والاحتياطيات الإلزامية عند 17.5 مليار دولار.
وبحسب ما أوردت وكالة «رويترز»، فإنّ الكثير من اللبنانيين انزلق إلى الفقر ويعتمدون بشكل متزايد على المواد الغذائية المدعومة. ويهدّد خفض الدعم بتأجيج حالة الغضب الشعبي، في دولة عصفت بها احتجاجات، مع ظهور الأزمة المالية على السطح في تشرين الأول 2019.
وأشارت «رويترز»، الى أنّه مع توقف تدفقات الدولار، يوفّر المصرف المركزي العملة الصعبة للواردات، من الوقود والقمح والعقاقير، بالسعر الرسمي عند 1507.5 ليرات لبنانية للدولار، وهو يقلّ كثيراً عن السعر المُتداول في الشارع، الذي يتجاوز 8 آلاف ليرة اليوم.
وقال المصدر، إنّ بعض السلع رُفعت بالفعل من سلة المواد الغذائية المدعومة، موضحاً أنّ الاجتماعات ستناقش إمكانية رفع أسعار الوقود.
ولفت الى أنّ واردات المعدات الطبية والأدوية الضرورية سوف يستمر دعمها.
قزح
في هذا السياق، يقول المستشار المالي ميشال قزح لـ«الجمهورية»، انّ هذه الخطوة هي هدر لاموال المودعين، لا بل انّ كل ما أُطلق عليه اسم «دعم» هو حرق للاموال المتبقية من الودائع. في الواقع يتوفر اليوم من كل 100 لولار في المصرف 11 دولار فقط، ومع خفض الاحتياطي الالزامي فسيتبقى منها 5 دولارات. ما يعني انّ «قص الشعر» (hair cut) على الودائع ازداد مع الوقت، لأنّه حتى الآن لم تبدأ الحكومة في معالجة الأزمة الاقتصادية، بل تُرك الاقتصاد ليعالج حاله بحاله وفق طريقة hard landing.
واعتبر قزح، انّ الحل الافضل للدعم كان يجب ان يكون عبر تحرير 400 دولار نقداً شهرياً الى المودعين من ودائعهم الخاصة، اما الأُسر الفقيرة فتستفيد من دعم وزارة الشؤون الاجتماعية، من خلال اعطائهم بطاقات بقيمة مليون ليرة شهرياً، يُترك فيها للفرد حرّية اختيار الطريقة التي تناسبه لصرفها، اكان على المحروقات او الدواء او الطعام…
وعن مدى تأثير هذا التوجّه على الوضعين الاقتصادي والمالي وسعر الصرف، يؤكّد قزح ان لا تأثير لهذه الخطوة على سعر الصرف، انما يحاول المسؤولون بهذه الخطوة تمديد حياة هذا النظام قدر المستطاع على حساب المودعين. واعتبر انّ الطبقة الحاكمة مستمرة في سياسة الدعم لو مهما كلفت، تجنباً لتكرار أي ثورة شعبية على غرار ما حصل في 17 تشرين الاول 2019.
وقال: «في حال رفع الدعم عن البنزين مثلاً سيتضاعف سعر الصفيحة التي هي اليوم 15 دولاراً وفق سعر صرف 1500 ليرة، ليصبح سعرها وفق سعر صرف 8500 ليرة، اي من حوالى 23 الفاً الى 125 الفاً، عدا عن انّ رفع الدعم سيزيد الطلب على الدولار بشكل لا يمكن تغطيته، ما سيؤدي الى رفع سعره الى 14 او 15 الفاً».
ولفت الى انّه حتى لو لم يتمّ خفض الاحتياطي الالزامي سيبقى في إمكان مصرف لبنان ان يدعم اسعار المحروقات والقمح والسلة الغذائية والادوية، شارحاً: «إذا كان حجم الودائع 100 مليار، فإنّ المصرف المركزي مجبرٌ على عدم المس بما نسبته 15% اي 15 ملياراً التي هي ما يُعرف بالاحتياطي الالزامي. لكن بما انّ المصارف تسمح بسحب الدولار على 3900 ليرة فهذا يعني انّ حجم الودائع سيتراجع، وعليه اذا تراجع الى 95 ملياراً فإنّ الاحتياطي الالزامي سيتراجع بدوره ويُحسم من الـ 95 ملياراً، ليحقق المركزي بذلك وفراً بحوالى 150 مليوناً شهرياً. لكن، وبما انّ هذا المبلغ غير كافٍ، لأنّ كلفة الدعم شهرياً هي نحو 700 مليون دولار، ظهر التوجّه نحو خفض نسبة الاحتياطي الالزامي من 15 الى 12 او 10%، حتى كان هناك حديث عن خفض الاحتياطي بضربة واحدة الى 7.5% كي لا يقدموا على خفضها على مراحل».
وماذا بعد انتهاء الاحتياطي الالزامي، يقول قزح: «في حال لم يتمّ الاتفاق على خطة مع صندوق النقد والشروع في الاصلاحات المفروضة، لا يبقى امام المسؤولين سوى المسّ بالذهب او بيع املاك الدولة. لكن هذه الخطوة لن تدر fresh money على لبنان، لأنّ احداً من المستثمرين لن يضع دولاراً واحداً في لبنان اليوم، بينما في السابق كان يمكن بيع «الميدل ايست» او «الخلوي» وكان يمكن ان تدرا ملايين الدولارات».
قزي
من جهته، يقول الخبير المالي دان قزي لـ«الجمهورية»، انّ الاحتياطي الالزامي «تفنيصة» لأنّه اصلاً سلبي، لذا يمكن للمركزي ان يغيّر نسبته بشخطة قلم. وذهب قزي ابعد من ذلك ليقول، انّ الاحتياطي الالزامي يُستعمل كحجة لرفع الدعم، لأنّه فعلياً يبلغ صافي الاحتياطي ناقص 60 مليار دولار، بما معناه انّ الاحتياطي استُعمل واستُنزف وصُرف، وكما يروّج له، انّ الاحتياطي 17.5 مليار دولار وهمي. وكان هناك توجّه لخفضه الى الصفر، وهذا ما سيحصل إذا لم يتمّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
ورداً على سؤال، قال: «اذا قرّر المركزي اليوم أن يوزّع كل اموال المودعين سيتبيّن انّ نسبة الخسارة هي 80%، وانّ كل مودع سيحصل على 1/5 من وديعته»، لافتاً الى انّ كل الاموال التي يملكها المركزي هي اصلاً اموال المودعين وليس فقط الاحتياطي او 17.5 مليار دولار المتبقية كما يروّج له أخيراً. وبوصف آخر، شرح قزي انّه مقابل كل دولار واحد من اموال المودعين موضوعة في اي مصرف تجاري، فإنّ 75 سنتاً منها موجودة مع المركزي.