طارق ترشيشي – الجمهورية
يجمع كثيرون من المتابعين على انّ العالم يعيش حرباً باردة او صامتة بين الولايات المتحدة الاميركية والصين، لا يُعرف متى ستتحول ساخنة، وانّ كل ما يشهده العالم من حروب، وخصوصاً في منطقة الشرق الاوسط وكذلك الحرب الروسية ـ الاوكرانية، هي نقاط ساخنة على ضفاف تلك الحرب الباردة، والتي يبدو انّ منشأها صعود الصين كدولة عظمى اقتصادياً، على نحو يدفع كثيرين إلى القول انّ مستقبل العالم هو في الصين، خصوصاً انّها باتت كالاخطبوط الذي يمدّ أذرعه في كل الاتجاهات، ومنها الشرق الاوسط وشمال افريقيا، عبر إحياء «خط الحرير» التاريخي الشهير بكل مضامينه، الامر الذي يقلق الاميركيين بشدة.
نشرت مؤسسة «البارومتر العربي» الاميركية تقريراً قبل ايام تحت عنوان «هل خطة الصين في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا بدأت تتلاشى؟».
ويقول هذا التقرير «انّ المنافسة العالمية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين شهدت تصاعداً مضطرداً على مدار العقد المنقضي، وأدّى انفتاح الصين المتزايد على العالم، ولا سيما عبر مبادرة «الحزام والطريق»، إلى تعامل اقتصادي أكبر بكثير مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وفي الوقت نفسه، تستمر الولايات المتحدة الأميركية في الانسحاب من المنطقة، مع التركيز على التوجّه نحو آسيا».
وفي اكبر استطلاع رأي عام من نوعه في المنطقة منذ بدء جائحة كورونا، اجرت مؤسسة «البارومتر العربي» استطلاعاً عن تأثير هذه التطورات على آراء المواطنين تجاه الولايات المتحدة الاميركية والصين، وشمل هذا الاستطلاع دول المغرب والسودان وموريتانيا وليبيا وتونس والعراق والاردن ولبنان وفلسطين، وغابت عنه دول مجلس التعاون الخليجي وسوريا ومصر والجزائر. وأظهرت النتائج اجمالاً، أنّ المنافسة بين هاتين القوتين العالميتين الأساسيتين قائمة، وفي حين أنّ للصين اليد العليا حالياً؛ لكن التوجهات العريضة تؤشر إلى تراجع مرجّح في آراء المواطنين تجاهها خلال العقد المقبل.
وفي تحليل لنتائج الاستطلاع يقول تقرير «البارومتر العربي» انّ «الصين تستمر في كونها اكثر شعبية من الولايات المتحدة الاميركية من بين الدول التسع التي شملها، وظهر المغرب انّه البلد الوحيد الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بشعبية اكبر قياساً إلى الصين. وفي الدول الاخرى، كانت الصين اعلى شعبية بكثير من الولايات المتحدة الاميركية». ويضيف: «لكن هذه القصة تتغيّر بالتدريج، لدى سؤال المواطنين عن مسألة توثيق العلاقات الاقتصادية بين بلدهم وهاتين القوتين العالميتين، تبين انّ المواطنين في غالبية الدول المشمولة بالاستطلاع اقل اقبالاً على القول إنّهم يرغبون في علاقات اقوى مع الصين، قياساً على الفترة 2018-2019. ولم تظهر في اي دولة زيادة في الرغبة في علاقات اقتصادية اقوى مع الصين. في حين تبيّن في حالات عدة وجود تغيّر بواقع 20 نقطة مئوية ضدّ الصين في هذا الصدد. في المقارنة، في غالبية الدول زادت الرغبة في علاقات اقتصادية أمتن مع الولايات المتحدة الاميركية، او بقيت النسب كما هي لم تتغيّر على مدار الفترة نفسها. وهذه النتيجة تُظهر انّ مبادرة «الحزام والطريق» ربما لم تأتِ بالآثار المرجوة منها، حيث يبتعد المواطنون عموماً عن الصين.
ربما يرجع هذا جزئياً إلى حقيقة انّ سمعة الشركات الصينية وهي فاعل اساسي في مبادرة «الحزام والطريق» اضعف من نظيراتها الغربية. لم يظهر في اي دولة مشمولة بالاستطلاع تفضيل شركة صينية على شركة اميركية او المانية في ما يخصّ اعمال التشييد والبناء للبنية التحتية في الدولة. السمة التجارية الأساسية للصين هي «زهيد الثمن» و»متدني الجودة» ما قد يفسّر ربما الرغبة الاضعف في تقوية العلاقات الاقتصادية مع الصين عموماً».
ويرى التقرير: «انّها ليست كلها اخبار سيئة للصين رغم مستوياتها الاعلى بكثير في التجارة مع المنطقة. فالمواطنون في المنطقة ما زالوا قلقين من التهديد الذي تفرضه القوة الاقتصادية الاميركية، اكثر من الصين. لعلّ هذا يرجع الى إرث الولايات المتحدة الاقوى في ما يخص المواقف الاقتصادية، لكن في الوقت الحالي يشعر مواطنو المنطقة بالقلق ازاء القوة الاميركية اكثر من القوة الصينية».
في ما يخصّ القضايا السياسية، يقول التقرير، «انّ الصين والولايات المتحدة الاميركية على حدّ سواء، تعانيان من المقدار نفسه من القضايا التي يُحتمل ان تحدّ من دعم المواطنين لهما على حدّ سواء. بالنسبة الى الصين، فإنّ معاملتها للأقليات المسلمة، ولا سيما منها «الايغور» في شينجيانغ، قد تضرّ بشعبيتها عبر المنطقة. لكن يظهر من نتائج الاستطلاع انّ قلة من المواطنين في المنطقة يراقبون هذا الوضع، ما يوحي أنّ هذه المسألة ليست ذات تأثير كبير في تشكيل آراء المواطنين تجاه الصين. وفي الوقت نفسه، فإنّ استمرار الدعم الاميركي لاسرائيل بما يشمل مجهودات التطبيع عبر المنطقة في الآونة الاخيرة، مسألة مرفوضة عموماً في المنطقة، وهو الامر الذي يرجح ان يضرّ بجهود الولايات المتحدة الاميركية لكسب قلوب وعقول المواطنين العاديين في المنطقة».
شعبية اميركا والصي
وفي التقرير ايضاً: «عبر المنطقة، ينزع المواطنون إلى تفضيل الصين الى حدّ ما مقارنة بالولايات المتحدة الاميركية، وهذا في غالبية الدول المشمولة بالاستطلاع. نحو النصف تقريباً او اكثر قالوا انّ لديهم آراء ايجابية للغاية او الى حدّ ما تجاه الصين. وهذا في 8 و 9 مجتمعات مشمولة بالاستطلاع. بما يشمل ما لا يقل عن 6 من كل 10 افراد في المغرب (64 %) وموريتانيا (63 %) والسودان (60 %). في فلسطين فقط، تفضّل اقلية من المواطنين الصين (34 %). ويلاحظ انّ الشباب (18 الى 29 عاماً) ليسوا عموماً اكثر تقبلاً للصين مقارنة بالبالغين من العمر 30 عاماً فأكبر. في موريتانيا فقط (12+ نقطة مئوية) وفلسطين (8+ نقطة مئوية) يفضل الشباب الصين اكثر من الفئات العمرية الأكبر.
بالمقارنة، في 4 فقط من 9 دول مشمولة بالاستطلاع يحمل النصف او اكثر فيها آراء ايجابية نحو الولايات المتحدة الاميركية، بما في ذلك 69 % في المغرب، و57 % في السودان، ونحو النصف في الاردن (51 %) وموريتانيا (50 %). الّا انّ فلسطين فقط (15 %).
يلاحظ انّ الشباب هم الاكثر اقبالاً عموماً على القول بإيجابية آرائهم نحو الولايات المتحدة، مقارنة بالفئات العمرية الاخرى. على سبيل المثال، فالشريحة العمرية 18-29 تقبل اكثر على تفضيل الولايات المتحدة الاميركية مقارنة بالمواطنين 30 عاماً فأكبر في كل من موريتانيا (20+ نقطة مئوية) والمغرب (11+ نقطة) وتونس (8+ نقطة) وفلسطين (8+ نقطة) والسودان (6+ نقطة) وليبيا (6+ نقطة).
رغم انّ مواطني المنطقة لديهم آراء ايجابية نحو الصين عموماً، فهم اقل اقبالاً على القول بأنّهم يرغبون في علاقات اقتصادية اقوى معها. في 4 فقط من 9 دول مشمولة بالاستطلاع، أعرب 50 % على الاقل عن تفضيل تقوية العلاقات الاقتصادية مع الصين. حيث الدعم لهذا الرأي اكبر في تونس (63 %) والعراق (53 %) والاردن وليبيا (50 %). كما انّه في عدد من الدول يمثل هذا المستوى تراجعاً في النسب منذ اجراء استطلاع «البارومتر العربي» في 2018-2019. على سبيل المثال، الاردنيون والفلسطينيون اقل بواقع 20 نقطة مئوية في المغرب والسودان. وتراجع 13 نقطة مئوية في ليبيا و5 نقاط في لبنان. في الوقت نفسه، لا توجد تغيرات تذكر في تونس او العراق.
بالمقارنة، في دولتين فقط مشمولتين بالاستطلاع، يرغب النصف على الاقل في علاقات اقتصادية اقوى مع الولايات المتحدة الاميركية: السودان (58 %) وتونس (54 %). في غالبية الحالات الاخرى، هناك 4 الى 5 من كل 10 اشخاص يرغبون في علاقات اقتصادية اقوى، وفلسطين هي الاستثناء الرئيسي (21 %). يلاحظ هنا ايضا انّ الشباب (18-29) في المنطقة هم القوة الاساسية وراء الآراء الايجابية تجاه الولايات المتحدة الاميركية، الشباب في المغرب اكثر اقبالاً بواقع 17 نقطة مئوية على القول بتقوية العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الاميركية، والشباب في كل من موريتانيا (9+ نقطة) وتونس (7+ نقطة) وليبيا (5+ نقطة) والعراق (5+ نقطة) والاردن (5+ نقطة) هم الاكثر اقبالاً على القول نفسه، مقارنة بالفئة 30 عاماً فأكبر.
الّا انّه وعلى النقيض من الصين، فالدعم لتقوية العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الاميركية لم يشهد تراجعاً موسعاً عبر المنطقة مقارنة باستطلاع 2018-2019. في فلسطين فقط (10- نقطة) والاردن (9- نقطة) ظهر تراجع يذكر في هذا الملف. في الوقت نفسه، يرغب المواطنون بعلاقات اقتصادية اقوى في كل من العراق (11+ نقطة) وتونس (9+ نقطة) وليبيا (6+ نقطة) بينما لم تطرأ تغيرات تذكر في كل من لبنان والمغرب والسودان خلال الفترة المذكورة.
وعلى الرغم من انّ تجارة الصين مع الشرق الاوسط وشمال افريقيا تفوق مثيلتها الاميركية، فالمواطنون عبر المنطقة ما زالوا اقل اقبالاً على اعتبار التوسع الاقتصادي الصيني تهديداً لدولهم، مقارنة بالولايات المتحدة الاميركية، الثلث او اقل في كل الدول المشمولة بالاستطلاع قالوا انّ القوة الاقتصادية الصينية تمثل تهديداً خطراً، بما في ذلك 21% في المغرب و20 % فقط في لبنان».
بالمقارنة، فالقلق إزاء القوة الاقتصادية الأميركية أكبر بكثير. في 8 من 9 دول مشمولة بالاستطلاع، لدى طرح السؤال، قال الثلث على الأقل إنّ القوة الاقتصادية الأميركية تمثل تهديداً خطراً، بما في ذلك أكثر من النصف في العراق وفلسطين (53 %). يلاحظ أنّه لا توجد في أي دولة مشمولة بالاستطلاع آراء أكثر تعتبر الصين تهديداً اقتصادياً من الولايات المتحدة الأميركية.
وخلص التقرير الى انّه «جزئياً، يمكن أن تكون شعبية الصين الكبيرة بسبب تراجع الشعبية النسبي للولايات المتحدة غريمتها العالمية، رغم أنّ الشركات الأميركية مفضّلة نسبياً لدى مواطني المنطقة، فلا يزال هنالك قلق إزاء القوة الاقتصادية الأميركية، ورفض لبعض مبادرات السياسات الكبرى التي تنتهجها إزاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نظراً لأنّ الصين ليست بالقوة الاستعمارية ولم يكن لها تدخّلات عسكرية مباشرة في المنطقة، فمن المرجح أن تبقى الأكثر شعبية مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية في المستقبل القريب. على أنّ الصين تكتب تاريخها الحديث بيدها في ما يخص المنطقة، والتوجّهات القائمة توحي أنّ نجمها قد يأفل في السنوات المقبلة».