فصل من من كتاب قدّيسو ن وأبطال من الشّرق الأوسط المعاصر للكاتبة كاترين مايير جاوين صابرينا ميرفان- ميزونيف ولاروس، 2002، ص 285-300.
نبيُّ الثَّورة الشِّيعيّة في لبنان، زعيمٌ روحيٌّ وسياسيّ، حكيمٌ ومتمرِّد، رسول سلامٍ وداعية عنف، انخرط الإمام موسى الصّدر في الدَّولة ومؤسّساتها، وفي الوقت عينه غرس روح الحزم في طائفته -الصّامتة والمغمورة حتى ذلك الحين- فأيقظها ودفعها إلى صدارة المشهد مُحدِثًا انقلابًا عميقًا في الحياة السّياسيّة اللبنانيّة وإخلالًا في التّوازن الإقليميّ الهَشّ الآخذ في الانهيار في منتصف سبعينيّات القرن الماضي وعشيّة الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وضع تغييبه المفاجئ في ليبيا بظروفٍ غامضة في العام 1978 حدًّا للصّعود الجارف لذلك الرّجل المجهول الذي وصل إلى لبنان قبل عشرين عامًا.
– لكن، هل رأيتم عينيه؟
هذه هي ردَّة الفعل التي تندرج حتمًا في سياق الإجابة عن أيّ سؤال يطرحه المحقّق عن الإمام موسى الصّدر باحثًا عن شهادات وذكريات ووقائع. نرسل له صورة الرّجل ذي العينين الخضراوين والقامة الجليلة. كان طوله مترين تقريبًا، جاء من العدم زرع الثّورة، ثمّ اختفى حاملًا معه كلّ أسراره. قيل إنّه لفهم الظّاهرة، تجب معرفة شخصيّة صاحبها؛ فلا جدوى من تجميع المعطيات الموضوعيّة، لأنّ كلّ سرّه يكمن في جاذبيّته. تعكس صور الإمام موسى الصّدر هذه الجاذبيّة بتركيزها على عينيه الخضراوين الثّاقبتين، ونظرته الآسرة الّتي سحرَتْ محبّيه: كان، “بالتأكيد، رجلًا استثنائيًّا” . “قامةٌ ممشوقة ووجه المسيح تحت العمامة، سحرٌ جليّ: “لم يكن الإمام الإمام موسى الصّدر رجلًا عابرًا وحسب، وفق ما أفاد به مراسل صحيفة لوموند ، بعد وقت قصير من اختفائه” . “طويل، فارع الطّول حتى تكاد تخاله يحلّق فوق الحشود ، بإطلالةٍ غالبًا ما تكون خارقة” أبهر الإمام موسى الصّدر حتّى أعداءه، بابتسامته الغامضة والنّبيلة”، أضاف غسَّان تويني ، الدّبلوماسيّ وعميد الصّحافة اللبنانيّة” . جماله الطَّبيعيّ، والأناقة التي ميّزَت زيّه الدّينيّ الشّيعيّ، وعباءته الواسعة، وعمامته السّوداء الأنيقة التي كان يرفعها أحيانًا بحركةٍ مألوفة، فتحت العديد من الأقفال المستعصية، وانسكب حولها الكثير من الحبر. هذه الشَّخصيّة التي أصبحت شبه أسطوريّة، أفسحت المجال لتطالها الشَّائعات أيضًا بالحديث عن صلات سياسيّة مشبوهة وروابط لا تقلّ ريبةً مع أجهزة الاستخبارات المختلفة، من المكتب الثّاني للجيش اللبنانيّ إلى وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة(سي أي إي)، مرورًا بجهاز السّافاك التّابع لنظام الشّاه في إيران. وممّا لا شكّ فيه، أنّ الإمام موسى الصّدر ، أثار حفيظة منتقديه، وحتّى المقرَّبين منه. فالرّئيس فؤاد شهاب، الذي حماه وشجَّعه في بداية مسيرته، عَدَّهُ “رجلًا لا مثيل له، رجلًا خطيرًا”. المسيحيّون اللبنانيّون، الذين شبَّهوه أوَّلًا بالمسيح، رأوا فيه فيما بعد راسبوتين لبنان .
يرى بعض المراقبين أنّ الإمام موسى الصّدر رجلٌ أنيقٌ وباهر الجمال، مدهش كما وصفه باربي دورفيلي وبودلير . تعتبر شريحةٌ واسعة من اللبنانيّين من الشّيعة وغيرهم، ومن الشّيعة غير اللبنانيّين، الإمام موسى الصّدر قدّيسًا وبطلًا على حدٍّ سواء؛ وعلاوةً على ذلك، فهو إمام. ولديه كلّ مؤهّلات ذلك، المؤهّلات المتوخّاة من طائفته ومجتمعه؛ أليس هو سيّدًا يتحدّر من سلالة النّبيّ محمّد؟ ألم يختفِ كالمهديّ إمام الشّيعة الثّاني عشر الذي دخل في زمن الغَيْبَة في العام 945 م ولمّا يزل؟
وُلِدَ في العام 1928 في قمّ بإيران، المدينة المقدَّسة في نظر الشّيعة لأنَّها تضمُّ ضريح فاطمة، أخت الإمام الثَّامن عليّ بن موسى الرّضا. ينتسب إلى عائلةٍ تُعرَف بـ “عائلة العلم”، فهي كانت تقدِّمُ علماء الدِّين للطّائفة الشّيعيّة بانتظام. أصلها من جبل عامل، جنوب لبنان الحالي، انقسمت إلى فروع عديدة، في نهاية القرن الثّامن عشر، عندما اضَّطهد باشا عكَّا سكَّان المنطقة: بقي أحدها في لبنان، تحت اسم شرف الدّين؛ والاثنان الآخران اللذان يحملان اليوم اسم الصَّدر، استقرَّا في العراق وإيران. تحافظ هذه الفروع الثلاثة على الوشائج التي تربطها بعضها ببعض، سواء من خلال الزَّواج المتبادل، أو من خلال البنوّة الرُّوحيّة التي تجمع المعلّم والتِّلميذ، أو من خلال الصَّداقات الفكريّة التي تنشأ بين طلّاب العلوم الدِّينيّة. وهكذا، على سبيل المثال، ارتبط موسى الصدر ارتباطًا مزدوجًا بالسّيّد محمّد باقر الصّدر، قائد الحركة الإسلاميّة في العراق، الذي أُعدم عام 1980: من خلال الرَّوابط العائليّة، حيث كانا ابني عمومة ومصاهرة، وروابط صداقة وشراكة فكريّة . أضف إلى ذلك، أنّ كليهما مُنَظِّران قائدان في الاقتصاد الإسلاميّ.
كان والد الإمام موسى، صدر الدِّين، يُدَرِّسُ في قُم، حيث شارك في إصلاح المدارس الدِّينيّة وتطويرها، إلى جانب الشّيخ عبد الكريم الحائري. تابع الإمام موسى الصّدر تعليمه الدّينيّ هناك، وتعليمه العصريّ في الوقت نفسه في مدرسةٍ حديثةٍ في المدينة. ثمّ التحق بكلّيّة الحقوق في جامعة طهران، في قسم الاقتصاد. يؤكِّدُ العديدون من كُتَّاب سيرته أنَّه كان “أوَّل عمامة” تدخل الجامعة ، أي أنّه أوّل رجل دين يتلقّى تعليمًا مزدوجًا . وقد اتّجه كثيرون من علماء الشّيعة من بعده إلى سلوك هذا المسار المزدوج. في العام 1954، سافر الإمام موسى الصدر إلى النّجف لاستكمال دراسته الدّينية في المدينة التي كانت آنذاك محجّةً علميّةً للشّيعة كلّهم، فتتلمذ على أيدي مجموعة من العلماء، من بينهم المرجعان الكبيران السّيّد محسن الحكيم والسّيّد أبو القاسم الخوئي. بعد أربع سنوات، حاز درجة الاجتهاد، أي الاعتراف بقدرته على تطوير قواعد الشَّريعة الإسلاميّة وبالتالي، قيادة شريحةٍ من المؤمنين. اتّبع الإمام موسى الصّدر خلال دراسته تقاليد نقل المعرفة في الإسلام، وبدأ أيضًا بتدريس الشَّريعة الإسلاميَّة والمنطق في قُم والنَّجف. بالإضافة إلى ذلك، اندمج الإمام موسى الصّدر في الحراك الفكريّ في المدن المقدَّسة. وهكذا، شارك في النَّجف في تأسيس جمعيَّة إصلاحيَّة، منتدى النَّشر، وألقى محاضرات في هذا السِّياق. في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كان علماء الشِّيعة الشَّباب يتطلّعون إلى تجديد الفكر والمؤسّسات الإسلاميّة، وخاصَّةً المدارس الدّينية. تصدّى المرجع السّيّد محسن الحكيم والسّيّد محمّد باقر الصّدر للأفكار الشّيوعيّة التي تغلغلت حتّى في اوساط رجال الدّين . فبدا ضروريًّا في هذا المقام، إنشاء حركة منظّمة واقتراح إسلام متجدّد، أكثر قدرة على الاستجابة لتحدّيات القرن. انضمَّ رجال دين شباب لبنانيّون إلى منتدى النَّشر، على وجه الخصوص الشّيخ محمّد مهدي شمس الدّين، الذي شارك في إنشاء كلّيّة الشَّريعة الإسلاميّة (كلّيّة الفقه)، وهي مدرسةٌ تَمَّ تجديدها على طراز المؤسسّات العصريّة، في العام 1958. وأصبح شمس الدّين لاحقًا رفيقًا مخلصًا للإمام موسى الصّدر .
بعد عودته إلى قم، اهتمَّ الإمام موسى الصّدر أيضًا بإصلاح التَّعليم الدِّينيّ العالي، في إطار لجنة تشكّلت لهذا الغرض. بالإضافة إلى ذلك، أصدر مع صديقه السّيّد محمد بهشتي، في العام 1958، مجلّة إصلاحيَّة وكان رئيس تحريرها، مكتب إسلام، حيث نشر مقالات، على وجه الخصوص نصّه عن الإسلام والاقتصاد . وسيكون بهشتي، الذي ثم شاركه وجهات نظره، أحد مُنَظِّري الثَّورة الإسلاميّة في إيران، قبل اغتياله، في العام 1980.
زار الإمام موسى الصّدر لبنان مرَّةً أولى في العام 1955، وثانية في العام 1957، قبيل وفاة ابن عمه السّيّد عبد الحسين شرف الدّين، الذي كان قد استقبله في مدينة صور، وكان شرف الدِّين زعيمًا دينيًّا محلِّيًّا. تمتَّعَ ببعض النّفوذ في المنطقة، حيث بنى مدرسةً ومجموعة مساجد، وأنشأ مؤسَّسات مختلفة. نظرًا لأنّه لم يكن هناك من يخلفه في محيطه، فقد دعا أهل صور الإمام موسى الصَّدر للقدوم إلى مدينتهم، ثم شَجَّعَه المرجع على تلبية هذه الدَّعوة. قَدِمَ الإمام موسى الصّدر ليستقرَّ في مدينة صور في نهاية العام 1959. لم يعد هناك بين رجال الدّين الشّيعة اللبنانيّن من شخصيّة مؤثّرة كبيرة ذات حيثيّة وطنيّة بوفاة السّيّد محسن الأمين في العام 1952، ثمّ وفاة السّيّد عبد الحسين شرف الدّين في العام 1957. كان هؤلاء العلماء محافظين اجتماعيًّا، لأنَّهم كانوا يعتمدون ماليًّا على القادة السّياسيّين التَّقليديّين للطّائفة. وحده الشّيخ محمّد جواد مغنيّة كان بإمكانه أن يبرز، لكنّه انهمك كثيرًا بالعدالة الاجتماعيّة، واتُّهِمَ بأنّه شيوعيّ. لذلك، كان طريق الصّدر سالكًا.
وجد الإمام موسى الصَّدر، وهو رجل استثنائيّ ، في لبنان وضعًا استثنائيًّا، كان يتدهور تباعًا بين بداية السِّتِّينيَّات وتغييبه في العام 1978. وكلَّما تفاقمت الأزمة السِّياسيَّة، تسارعت وتيرة صعوده. حين قدومه إلى لبنان، كانت البلاد تعجُّ بالأفكار السِّياسيَّة الماركسيّة والنَّاصريَّة والقوميَّات العربيّة الأخرى التي جذبت المثقَّفين والنَّاشطين. واصلت الأحزاب السِّياسيَّة تنظيم نفسها، ليس فقط حول زعيم سياسي تقليديّ من ما يسمَّى بـ “العائلات الكبيرة” في لبنان، ولكن وفقًا لنموذج الحزب الحديث. ولدت في المجتمع الشيعي نخبة سيّاسيَّة وماليَّة جديدة اعتمدت على شبكة الهجرة في أفريقيا وأميركا .
في العام 1958، وبعد أزمة سياسيّة خطيرة، تولَّى قائد الجيش فؤاد شهاب مقاليد الحكم. فتميّز بنزوعه إلى إصلاح مؤسّسات الدّولة، وحاول التَّخطيط لتنمية المناطق المحرومة، لا سيّما جنوب لبنان. كانت هذه المنطقة المحرومة مأهولةً في غالبيّتها بالمزارعين بشكل خاص، وقد أهملها المسؤولون. كانت نسبة الأمية فيها هي الأعلى في لبنان؛ لا عجب، إذن، أن يكون تمثيلها في الإدارة أضعف من تمثيل أيّ منطقة أُخرى في لبنان . لذلك، وجد الإمام موسى الصَّدر في فؤاد شهاب حليفًا، حيث أراد كلاهما إخراج جنوب لبنان من تخلُّفه الاقتصاديّ والاجتماعيّ. منح الرَّئيس الإمام موسى الصّدر الجنسيّة اللبنانيّة في العام 1963 وسانده .
بدأ الإمام موسى الصّدر في العام 1961، بإعادة تنظيم المؤسّسة الخيريّة التي أسسها سلفه عبد الحسين شرف الدّين وتطويرها، لتكون نواة شبكة اجتماعيّة ذات برامج متنوعة. أنشأ مؤسّسة للأيتام، ومدرسة فنّيّة، ومدرسة تمريض، ومدرسة لغات، فضلًا عن معهد للدّراسات الإسلاميّة يقدّم التّعليم الدّيني العالي وغيرها من المؤسّسات الخيريّة على اختلافها .
ولتمويل مشاريعه، جمع الإمام موسى الصّدر التّبرّعات من المغتربين الشّيعة في إفريقيا، أو استحصل من المراجع على نصيب من الأموال الشّرعيّة المجبيّة من مقلِّديهم. في ذلك الوقت، تولّى عددٌ من المراجع زمام السّلطة الدِّينيّة وتحصيل الحقوق الشّرعيّة من المؤمنين: الحكيم، وبروجردي، والخوئي، ومحمد باقر الصدر. اعتمد هؤلاء جميعًا الإمام موسى الصّدر وكيلًا لهم في لبنان . لذلك، لم يكن الإمام الصّدر بحاجة إلى مناشدة القادة السّياسيّين المحلّيّين، ممّا أتاح له مجالًا لانتقادهم. كما انضمَّ الإمام موسى الصَّدر إلى الحركة الاجتماعيّة، التي أسَّسها النّائب الأسقفيّ العامّ لأبرشيّة بيروت للرُّوم الكاثوليك، غريغوار حدَّاد، وهو شخصيّة مثيرة للجدل أيضًا، لكنّه ذو حضورٍ كاريزميّ، وكان يُلَقَّب بـ “المطران الأحمر”.
وهذا يعني أنَّ سياسة الإمام موسى الصَّدر قد استندت إلى ركيزتين: العمل الاجتماعيّ، المستقلّ عن القادة السّياسيّين المحلّيّين، والحوار مع المسيحيّين ذوي النَّوايا الحسنة. كما بدأ في إلقاء المحاضرات في إطار النّدوة اللبنانيّة الّتي نظَّمَها ميشال أسمر منذ العام 1964. قبل ذلك بعام، كان الشّخصيّة الشّيعيّة الوحيدة الّتي حضرت حفل تنصيب البابا بولس السَّادس. وضع الإمام الصّدر نصب عينيه هدف إنشاء المؤسّسات التي يفتقر إليها الشّيعة، بالمقارنة مع الطّوائف الأخرى. وفي العام 1967، صَوّتَ مجلس النُّوَّاب بالإجماع على إنشاء المجلس الإسلاميّ الشّيعيّ الأعلى، الذي سيمثّل الطّائفة أمام الدولة ويدير شؤونها ويدافع عن حقوقها. كان انتصارًا للإمام موسى الصَّدر الذي انتُخِبَ رئيسًا للمجلس في العام 1969 عندما باشرت المؤسّسة عملها. بَيْدَ انّ هذه الانتخابات لم تَخْلُ من الصِّدامات: كان عليه أن يواجه معارضة بعض رجال الدّين، الذين رفضوا بشدّة الإصلاح المؤسّسي ورئاسة الوافد الجديد الذي يجهل عادات جماعتهم وتقاليدها. ومع ذلك، لا يعتقدَنَّ أحد أنّ الإمام موسى الصّدر رفض تمامًا تأييد القادة السّياسيّين التّقليديّين؛ فإنّه في الواقع، وإن كان شديد الانتقاد لكامل الأسعد، زعيم جنوب لبنان، فقد تحالف مع صبري حمادة من البقاع، الزّعيم الذي أَصَرَّ على تقبيل يد الإمام الصّدر جهرًا يومَ انتخابه، تعبيرًا عمّا يكنُّه له من احترام . وشارك أيضًا في لعبة التّحالفات والمنافسات المحلّيّة.
وبإنشاء المجلس، استطاع الشِّيعة اللبنانيّون صياغة مطالبهم في إطار مؤسّسيّ، أي ليس ضدّ الدَّولة، بل معها. لقد نالوا استقلاليَّتهم عن الهيئات السُّنِّيَّة التي سبق لها أن عيَّنَتْ القضاة المناوبين في محاكمهم الدِّينيَّة. تخفيفًا لوقع هذا الانفصال، رَكَّزَ الإمام موسى الصّدر خطابه على أهميّة الوحدة الإسلاميّة والتَّعاون بين المذاهب. أقام حوارًا مع المفتي (السُّنِّيّ) في الجمهورية اللبنانيّة ، وتعاون، من بين أمور أخرى، مع مجمّع البحوث الإسلاميّة في القاهرة، وزار علماء الأزهر . جعلت هذه الوقائع المجتمع الشِّيعيّ بالحقيقة والفعل، مجتمعًا دينيًّا متكاملًا في لبنان .
وألحق لقب الإمام باسم موسى الصَّدر وقت انتخابه ، فأحدث ذلك ردود فعل سلبية. يأخذ مصطلح “إمام” بالفعل معنًى خاصًّا في التّشيّع. فالإمام عند عموم المسلمين، هو “الذي يكون في المقدمة”، هو بذلك، الشَّخص الذي يؤمُّ الصَّلاة، وهو أيضًا رجل الدّين العالم ذو الثّقافة العالية، والذي يُعتَبَرُ مرجعيَّة دينيَّة. يشير مصطلح “إمام” عند الشِّيعة، قبل كل شيء، إلى خليفة النَّبيّ محمَّد، فيعَدُّ من ذرّيَّته؛ إنَّه القائد الرُّوحيّ والسِّياسيّ للطَّائفة. ومع ذلك، فإن عقيدة الشِّيعة الإثني عشريّة، التي هي موضع بحثنا، تُوَالي سلالة من اثني عشر إمامًا، دخل الثَّاني عشر منهم في “الغيبة، ولا يزال؛ ولبث المؤمنون ينتظرون عودته الحتميّة قبل نهاية الزمان ويوم القيامة، ليملأ الأرض عدلًا. إنّ منح رجل دين، وهو علاوة على ذلك من سلالة الرّسول، لقب إمام ، يوحي بأنّه يمكن أن يكون هو المهديّ، الإمام الغائب المنتظَر الذي سينقذ العالَم. من المؤكَّد أنّ الإمام موسى الصَّدر لم يتَبَنَّ هذا التّلميح الدّامج، ليس أكثر من الخميني، الذي نال لقب “الإمام” أيضًا. بيْدَ أنّه تعرَّض لانتقادات لحمله اللقب المخصَّص للأئمّة المعصومين بشخصيّاتهم المقدَّسة، لا سيّما في افتتاحيّة مجلّة شيعيّة واسعة الانتشار، “العرفان”. لكن هذا اللقب، كان عند الكثيرين من الشِّيعة، إجلالًا لعالمٍ ذي مزايا استثنائيَّة” .
حظي الإمام موسى الصّدر بشعبيّة كبيرة بين الشّيعة في لبنان. اجتذب خطابه المتماشي مع الإصلاح الإسلاميّ الحداثيّين والنّساء . بالإضافة إلى ذلك، سعى الإمام إلى تغييرٍ جذريّ في المجتمع، وهاجم العقليّة الرّجعيّة؛ فانتفض، على سبيل المثال، ضدّ ممارسات الثّأر السّائدة في البقاع، كما وعد أهالي بعلبك في إحدى خطاباته بوضع حدٍّ لها .
في العام 1970 ، تفاقم الوضع في جنوب لبنان، فتركَّزَ نشاط الإمام أكثر فأكثر في العمل السّياسيّ. جعل الفلسطينيون لبنان قاعدةً لعمليّاتهم العسكريّة، بعد اتّفاقيّة القاهرة المُوَقَّعة في العام 1969، وإخراج منظّمة التَّحرير الفلسطينيّة من الأردن بعد ذلك بعامٍ واحد. فخاضوا معاركهم ضدّ الجيش الإسرائيليّ على أرض الجنوب اللبنانيّ، الذي كان يعاني من هشاشةٍ اقتصاديّة وانعدام تمثيلٍ سياسيّ. ولجأ جزء من سكّانه إلى الضَّاحية الجنوبيّة لبيروت، حيث شكَّلوا طبقة بروليتاريا فرعيّة . أظهرت الممارسات الانتقاميّة الإسرائيليّة ضدّ قرى الجنوب مدى ضعف هذه المنطقة وافتقارها إلى القدرات الدّفاعيّة. ثم أعلن الإمام موسى الصدر إضرابًا عامًّا، في أيار من العام 1970، احتجاجًا على تقصير السّلطات اللبنانيّة تجاه الجنوب، وتنبيه الرّأي العام للمخاطر التي تتعرّض لها المنطقة. عَمَّ الإضراب جميع أنحاء البلاد، وسار عشرات الآلاف من المتظاهرين باتّجاه المجلس الإسلاميّ الشّيعيّ الأعلى، حيث ألقى الإمام موسى الصَّدر خطابًا. انتقد فيه الحكومة لعدم دفاعها عن التّراب الوطنيّ، وطالب بحياةٍ كريمةٍ للّاجئين من الجنوب، الذين كانوا يعتاشون من التّبرّعات. حصل على ضمانات والتزام بإنشاء مجلس الجنوب الذي سيعنى بتنميته . منذ تلك اللحظة، وازن الإمام موسى الصَّدر في ادائه بين تعاطفه مع نضال الفلسطينيّين واهتمامه الأساسيّ المتمثّل بحماية جنوب لبنان وأهله . فانهمك في القضيّتين، وعنيَ باهتمامٍ شديد بالجنوب اللبنانيّ، فكان ذلك بالتّأكيد أحد أسباب تغييبه.
في العام 1974، عاد الجنوب إلى واجهة الأحداث بفعل انتفاضة مزارعي التّبغ التي وضعت شيعة الجنوب في مواجهةٍ مع الحكومة اللبنانيّة ومع ممثّلهم في المجلس النّيابي ورئيسه آنذاك كامل الأسعد. تولّى الأمام موسى الصّدر الدّفاع عن طائفته بتفويضٍ مطلق الصّلاحيّات من المجلس الشّيعيّ الأعلى. ودعا البلاد كلّها إلى العصيان المدنيّ والإضراب، معربًا عن أسفه لأنّ الطّائفيّة حالت دون التَّعبئة العامَّة للسُّكَّان. استجابت شخصيّاتٌ من مختلف الطّوائف وعلى رأسها رجال دين مسيحيّون لدعوة الإمام موسى الصّدر، وشاركوه في مهرجاناته التي انعكست ثلاثة منها بوضوح على الحياة السّياسيّة اللبنانيّة:الأول كان مهرجان بعلبك في 17 آذار: خاطب الإمام الحشود وجعلهم يقسمون على القتال حتّى آخر قطرة دم من أجل حقوق الطّائفة، وأطلق مسلَّحون النَّار في الهواء. فناشدهم الإمام موسى الصَّدر بالاحتفاظ بأسلحتهم لمحاربة العدوّ؛ أضيف موضوع الدّفاع عن الجنوب إلى مطالب الطّائفة. وأعلن: “سأطلب منكم إقامة معسكرات تدريب في البقاع والجنوب، وسأتدرَّب معكم”. بعد أسبوعين، في مهرجان صيدا، أكَّدَ الإمام أنّ السّلاح زينة الرّجال. أمّا في المهرجان الثَّالث، في صور في بداية شهر أيّار، فقد استكمل الإمام جمع كلّ الجنوبيّين والبقاعيّين من حوله، سواءٌ أكانوا شيعة أو مسيحيّين، ممَّن كانوا على استعداد للقتال للدّفاع عن أراضيهم وحقوقهم، فأسلحتهم في متناول أيديهم، إذا لزم الأمر. ولدت حركة المحرومين. بالإضافة إلى ذلك، كان من المعلوم سابقًا نشوء جناح عسكريّ رافق ولادة هذه الحركة: (أفواج المقاومة اللبنانية)، والمعروفة باسمها المختصر أمل والتي تعني “الأمل” . أصبح الشِّيعة، مع الإمام موسى الصَّدر، “الفاعل الرئيسيَّ الجديد على السَّاحة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، فتَبَدَّلَ التوازن بين الطّوائف في البلاد” . هذا الفاعل الجديد، الذي أصبح مسلَّحًا حينذاك، وضع الدَّولة أمام مسؤوليّاتها وواجباتها تجاه الفئات المحرومة، وكان مصمِّمًا على خلخلة أسس هذا النّظام، مع تمسُّكه بمبدأ السِّيادة الوطنيّة. وقد ناضلَتْ حركة المحرومين ضدّ النِّظام السِّياسيّ التَّقليديّ وأحزاب اليمين، لكنَّها في الوقت عينه، تموضعت في تنافسٍ مع أحزاب اليسار التي دعمت الفلسطينيّين بحزم، فتَوَتَّرَت الأوضاع وأوشكت أن تنفجر.
واصل الإمام موسى الصَّدر جهوده في استمالة المسيحيّين. لم يعد يكتفي بزيارة البطريرك المارونيّ، أو بالتّعاون مع مجموعاتٍ من المسيحيّين التَّقدّميّين بل ذهب ليخطب في الكنائس. وتصدَّرَت الصّحفَ صورتُه واعظًا على منبر الكنيسة، وخلفه صورة المسيح على الصَّليب؛ فكانت أقرب إلى الخيال. خاطَب الإمام موسى الصَّدر العقل، وأراد بمنطقٍ غير معهودٍ ومواقف لم يعتَدْ عليها مستمعوه، أن يثبت ألّا فجوة تفصل بين الأديان السَّماويّة. وهكذا، ألقى خطابًا شهيرًا في كاتدرائية القدّيس لويس كابوشين في بيروت في شباط من العام 1975، أعلن فيه مستندًا إلى القرآن والسّيرة النَّبويّة والأناجيل وحدة الأديان: الله واحد، والإنسان واحد. كذلك الأديان وفق تعبيره الذي قوبل بالتّصفيق.
اندلعت الحرب الأهلية في العام 1975. بدأ الإمام موسى الصّدر إضرابًا عن الطَّعام في أحد المساجد في بيروت احتجاجًا على تصاعد العنف. أثارت حركة الإمام سلسلة من الاحتجاجات في المناطق الشّيعيّة: مظاهرات، احتلال أماكن، إلخ. وبينما كان الإمام يُصَلِّي في المسجد، أحاط مناصروه المسَلَّحون بالمبنى. فكانت المفارقة الكاملة في حركة الإمام، داعيةً إلى السّلام وإلى المقاومة المُسَلَّحة في آنٍ واحد، ومُهَدِّدًا الدَّولة التي تَعَهَّد بالانتماء إليها .
كذلك، فقد دعم الإمام موسى الصّدر فتح ياسر عرفات في العام 1969، عندما استقرَّ الأخير في لبنان، مساندًا الكفاح الفلسطينيّ المُسَلَّح، ثم انتهى به المطاف منحازًا إلى الحليف السّوريّ. في العام 1976، ابتعد الإمام موسى الصّدر عن اليسار اللبنانيّ والفلسطينيّين، ليصطفّ في معسكر سوريا بعد تدخّلها في لبنان. كانت تلك بداية تحالفٍ طويل استمرَّ بعد تغييب الإمام . وإن كان قد اعترف بالنّاصريّة، التي اجتذبت إليه بعد ذلك عددًا لا بأس به من المناضلين، وإن كان التقى بعبد الناصر، فإنّ هذه الوقائع لم تبدّل نظرته إلى القوميّة العربيّة التي كان يراها إيديولوجيّة ضيِّقة جدًّا، وهو الإيرانيّ الطّامح لتجاوز هذا الإطار .
لكنّ الإمام موسى الصّدر حافظ على علاقاتٍ متذبذبة مع بلده الأصليّ إيران. بين العامين 1960 و 1970، استقبله الشَّاه بحفاوة مقدِّمًا له المعونات. بعد الحرب العربيّة الإسرائيليّة في العام 1973، اتَّهم الشّاه بدعم إسرائيل ومحاولة القضاء على الدِّين في إيران. في العام 1977، ضاعَفَ انتقاداته عقب اغتيال صديقه علي شريعتي، مُنَظِّر الثَّورة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، في لندن .ونَدَّدّ الإمام موسى الصّدر بالشّاه، وعَدَّهُ محرِّضًا على هذه الجريمة، وتوسَّطَ مع حافظ الأسد لدفن شريعتي في جوار مقام السّيّدة زينب(ع) في ريف دمشق. فجَرَّدَهُ الشَّاه من الجنسيّة الإيرانيّة .
لم يتردَّد الإمام الصّدرفي التّواصل مع كبار هذا العالم، فقد زار الرّؤساء والقادة العرب لتنبيههم إلى المخاطر التي تحيق بلبنان، ومناشدتهم بالتّدخّل لإحلال السلام فيه. فزار لهذه الغاية مصر والأردن والكويت والسّعوديّة والجزائر، ناهيك عن رحلته الأخيرة إلى ليبيا. ومع ذلك، استأنف عيشه في البساطة والرصانة، جريًا على عادة كبار العلماء الشّيعة، وقاد سيارة فولكسفاجن. لم يكن لديه طموح في التّرشّح لمنصبٍ سياسيّ أو نيابيّ، وهَدَّدَ بالاستقالة من رئاسة المجلس الشّيعيّ الأعلى إذا لم تُلَبَّ مطالبه. انكَبَّ على عمله، فكان يعود من المجلس في منتصف الليل لينام في الصّباح الباكر، على أسلوب حياة الزّهد المعروف بين العلماء الأتقياء . أراد الإمام موسى الصَّدر أن يبقى رجل دين. ومع ذلك، كان مفهومه مختلفًا تمامًا عن مفهوم العلماء التّقليديّين؛ فرجل الدّين وفق قناعته، يعنى بإصلاح المجتمع وينخرط في السّياسة. وقال إنّ من يتولّون مقاليد السُّلطة (…) ينصحوننا بالصَّلاة والصَّوم من أجلهم، حتى لا تتزعزع قواعد سلطتهم، فهم يبتعدون من الدّين، ويستغلّون مظاهر الإيمان وطقوسه للحفاظ على مناصبهم .
انحاز الإمام موسى الصَّدر إلى المحرومين والمظلومين في هذا العالم، وسمّاهم المحرومين، أو المستضعَفين، مستخدمًا مصطلحًا قرآنيًّا أعاد علي شريعتي تحديثه. فارتكز كلّ خطابه على المطالبة بحقوقهم، واسترجاع كرامتهم ، وحثّهم على عدم السماح باستلابهم، لا من العدوّ الدَّاخلي، أي الزّعماء السّياسيّين التَّقليديّين السياسيين، ولا من العدوّ الخارجي، إسرائيل. كان من المفيد الإيضاح للجميع، أنّ الشّيعة الذين كانوا يُعرَفون بالمتاولة أو الرّافضة على سبيل التّحقير، سيصبحون في الحسبان منذ ذلك الحين. فأعلن الإمام موسى الصّدر: لسنا متاولة، بل نحن رافضة، من أولئك الذين يرفضون، نحن الثُّوَّار، المتمرِّدون ضدَّ الاستبداد. وهكذا، جعل الإمام الصَّدر المصطلح التّحقيريّ مصطلحًا إيجابيًّا يعزّز طائفته ويعلي من شأنها .
وبالطَّريقة نفسها، عاد الإمام موسى الصَّدر إلى المفاهيم الشّيعيّة، ليستثمرها في اتّجاهٍ مغايرٍ أحيانًا مع الاتّجاه السّائد إلى ذلك الحين. مستلهمًا من علي شريعتي، طَبَّقَ هذه الطّريقة على طقوس إحياء ذكرى استشهاد الإمام الثّالث، الحسين(ع)، الذي قضى مع جزء من عائلته، في كربلاء، في العام 680، كان الحسين(ع) قد غادر مع حفنة من رفاقه لاستعادة سلطته التي سلبها منه الخليفة الأمويّ. وكان أنصاره في الكوفة قد تواصلوا معه، ووعدوه بالانضمام إلى جيشه ومساعدته في مهمّته. لكنّهم حنثوا بوعدهم، وتركوا الحسين(ع) في مواجهة جيش معادٍ متفوّقٍ بعديده وعتاده. فكانت مذبحة. قُتِلَ فيها الحسين(ع)، وسُبِيَ عدد قليل من أفراد عائلته الذين نجوا، واقتيدوا إلى دمشق، عاصمة الأمويّين.
يحيي الشّيعة في كلّ عام ذكرى هذه المأساة، ويُلَاحَظ تنويعٌ في الطّقوس: مجالس عزاء تُتلى طيلة أيّامٍ متتالية، يسرد فيها القارئ تفاصيل المعركة، فيبكي الجمهور، تمثيل المصرع الحسينيّ، مواكب عامّة مصحوبة باللطم وضرب الرّؤوس، لأن الشّيعة يلومون أنفسهم على خذلانهم الحسين واستنكافهم عن القتال إلى جانبه.
منذ نهاية السِّتينيّات، اقترح الشّيخ محمّد مهدي شمس الدّين، وهو أحد المقرَّبين اللصيقين بالإمام موسى الصّدر، وأصبح لاحقًا نائب رئيس المجلس الشّيعيّ الأعلى ، قراءة جديدة لمأساة كربلاء، في كتابه الموسوم بعنوان “ثورة الحسين”. أظهر الكتاب الإمام ناشطًا يرفض الخضوع للاستبداد، فيلهم أجيالًا من المؤمنين الأتقياء . كما قدّم الإمام موسى الصّدر تفسيره للحدث وطقوس إحياء الذكرى. أوّلًا، باختياره هذه المناسبة الدّينيّة الشّيعيّة بالتّحديد لإلقاء جميع خطاباته المهمّة. فهو بذلك استخدمها لهدف سياسيّ فوريّ، للمطالبة بالحقوق، ولكن أيضًا لإعلاء الرّوح الوطنية والدَّعوة إلى الثّورة المُسَلَّحة .
قال الإمام موسى الصَّدر في محاضرة ألقاها في الكُلِّيَّة العامليّة في بيروت، عشيّة ذكرى عاشوراء في العام 1974 إنّ هذه الثَّورة لم تمُت على رمال كربلاء، بل انتقلت من جيلٍ إلى جيل، وصارت إرثًا يجب على الشّيعة أن يستلهموا منه لإصلاح أنفسهم، والارتقاء إلى موقعٍ اجتماعيٍّ جديد، وتأسيس حركة جديدة، وثورة جديدة من أجل محاربة الظّلم والاستبداد والقضاء على الشَّرّ .
وفي إحياء أربعينيّة استشهاد الإمام الحسين(ع) في حسينيّة بلدة ياطر-قضاء بنت جبيل، ألقى الإمام موسى الصَّدر خطابًا شهيرًا أمام الحشود الذين وفدوا للاستماع إليه، قال فيه: “المطلوب عدم الاكتفاء بهذه الاحتفالات لئلّا تتحوّل إلى طقوس ومراسم شكليّة متحجّرة يختفي وراءها المذنبون، ويطهّرالطُّغاة ذمتّهم أمام الشّعب.. ولئلّا يصبح البكاء والمشاركة في المآتم بديلًا من العمل وتنفيسًا عن الغضب الثّائر والاحتجاج البنّاء” .
فبدلًا من الجزع لمصيرهم والاستسلام، يجب على الشّيعة، برأي الإمام موسى الصَّدر، أن يرفضوا المعاناة والظّلم وينهضوا لمقارعة الاستبداد، ويعملوا على تحسين أوضاعهم. سواءٌ تعلّق الأمر بمحاربة أثرياء البلاد، أو محاربة إسرائيل التي عَدَّها شرًّا مطلقًا. كلّ هذا من ضياء تعاليم الإمام الحسين(ع). وسعى الإمام الصّدر إلى إقناع الشِّيعة بأنَّ مِحَنَهم والأنظمة القائمة ليست قدرًا إلهيًّا، وأنّ بإمكانهم تغيير حاضرهم ومستقبلهم، وقال بأنّ البشر هم الفاعلون بمشيئة الله. امتلك الإمام موسى الصّدر مشبعًا بالفلسفة الشَّرقيَّة الأفكار الإصلاحية نظرةً سامية عن حرّيّة الإنسان. وتقارب مع منظّري الثَّورة الإيرانيّة، فكان مطهري وبهشتي صديقيه، ولم يكن بعيدًا من الإمام الخمينيّ. في 23 آب 1978، كتب مقالًا في صحيفة لوموند اليوميّة أكّد فيه تأييده للإمام الخمينيّ وبَشَّرَ بانتصاره. بعد تغييب الإمام موسى الصّدر، وخلال احتفالات عاشوراء في عامي 1978 و 1979، أعلن الشّيعة ولاءهم “للإرث الثَّورويّ المزدوج” للإمامين الخميني وموسى الصَّدر .
لا شكّ أنّ حضور الإمام موسى الصّدر غير القابل للسّيطرة والاحتواء، أربك اللاعبين على رقعة الشّطرنج السّياسيّة الإقليميّة. وإن رفعه التّغييب إلى مصاف القدّيسين، فإنّه خدم أيضًا بعض منافسيه. لكن، مَنْ هم المستفيدون؟ لم يعلن أحدٌ مسؤوليّته عن العملية، ولا يزال لغزها عصيًّا على الحلّ. لقد تبَنَّى كُتَّابٌ كثيرون الفرضيّات التي اختلقتها أجهزة استخبارات دول مختلفة في هذه القضيّة ، لكنّ الأكيد، أنّ الإمام موسى الصّدر غادر في رحلةٍ إلى ليبيا لم يعد منها أبدا.
في العام 1978، قام الإمام موسى الصّدر بجولةٍ عربيّة قادته ختامًا إلى الجزائر حيث التقى رئيسها هواري بومدين. نصحه الأخير بزيارة معمّر القذّافي في ليبيا. فعاد الإمام الصّدر إلى بيروت، واستحصل على تأشيرة، وغادر إلى ليبيا، يرافقه شيخٌ وصحافيّ. وصلوا إلى طرابلس الغرب في 25 آب، حيث لبثوا بانتظار لقاء القذّافي. شوهدوا للمرّة الأخيرة في 31 آب. ثم انقطعت أخبارهم. زعمت السّلطات في ليبيا أنّهم غادروا جوًّا إلى إيطاليا. لكنّ التّحقيقات الإيطاليّة دحضت هذه الفرضية. لقد اختفى الإمام موسى الصّدر في ليبيا . استهوى مناصريه الشّيعة الرّبط بين تغييبه وغيبة إمامهم الثّاني عشر، وهذا يقال عنه الغائب. أحجمنا عن استخدام الكلمة نفسها في اختفاء الإمام موسى الصّدر، لأنّها محمّلة بدلالةٍ دينيّةٍ خاصّة ومحدّدة في مذهب الشّيعة الإثني عشريّة. في البداية، استُخدِمَت في البداية كلمة إخفاء أو اختفاء، ثمّ شاعت لاحقًا كلمة المُغَيَّب المشتقّة من الغياب، فارتبطت قضيّة التّغييب بعقيدة الإمام المنتظر من دون الجهر بذلك. انتظر مناصرو الإمام موسى الصّدر عودته؛ فلم يُستَبدَل في رئاسة المجلس الإسلاميّ الشّيعيّ الأعلى؛ وتولّى نائبه الشّيخ محمّد مهدي شمس الدِّين القيادة في هذه الفترة الانتقاليّة، إلى حين بلوغ الإمام موسى الصّدر سنّ التّقاعد. ولبث الشّيعة يطالبون القذّافي بإماطة اللثام عن هذه القضيّة. ففي أثناء انعقاد القمّة العربيّة في بيروت في آذار من العام 2002، طالبت الصّحافة اللبنانيّة باستدعاء القذّافي لتقديم إيضاحات لعائلات المغيّبين ، ومع ذلك، فقد راوح التّحقيق مكانه.
بعد تغييبه، طالبت شخصيّات سياسيّة ودينيّة عديدة بالإمام موسى الّصدر. فقال الإمام الخمينّي عقب لقائه بعائلة الإمام الصّدر بعد تغييبه بعامين: “…أنا عشت مع الإمام الصّدر لسنين طويلة. ويمكنني القول بأنّني أنا رَبَّيْتُه. امَلُ في أن يعود قريبًا إلى وطنه إن شاء الله. إنّنا نعرف أنّ أولياء الإسلام، وعلى رأسهم رسول الله والأئمّة من بعده عانوا كثيرًا وتعذّبوا وذاقوا مرارة السّجون… يجب أن نتذكّر أنّ جدّه الإمام الكاظم، سُجِنَ سبع سنين، والبعض يقول أربع عشرة سنة…إنّي أسأل الله تعالى أن يُسعِدنا بعودته، ليستمرّ في جهاده، ويرزق عائلته وإخوانه الصّير على فراقه إلى أن يعود…”
اتّكأت الأحزاب والحركات الشّيعيّة في لبنان على إرث الإمام موسى الصدر. واستطاعت أمل، الحركة التي أنشأها الإمام الصّدر أن تحقّق انطلاقةً جديدةً بعد تغييبه. فلا جدال حول مكانة قائدها المغيّب فيها. وهي، إن جانبت خطّ الإمام الصّدر أحيانًا، تحت وطأة السّنين والوقائع، فإنّه يظلّ مرجعها الأساس. لقد اقترنت صوره الملصقة على الجدران بشعار الحركة، وكُتِبَت عنه المقالات وأدلت شخصيّات واكبته بشهاداتها فيه، ونُشِرَتْ خطاباته دوريًّا في مجلة أمل… في العام 1991، افتُتِح بدعمٍ من الهيئة التّنفيذيّة للحركة مركز أبحاث مخصّص للإمام موسى الصدر في ضاحية بيروت الجنوبيّة. تتمثل مهمّة المركز بتوفير التّوثيق عن الإمام وجمع خطبه وكتاباته ونشرها، بالإضافة إلى الصّور التي التُقِطَت له والأفلام التي أُنتِجَت عن حياته وغيرها. تدير المركز شقيقة الإمام السّيّدة رباب، فتشارك في فعاليّاته بانتظام، حيث تسترجع ذكرياتها معه، وتشرح فكره. كما أنّها تتولّى إدارة المؤسّسات الخيريّة التي أنشأها. إنّها المؤتمنة فعليًّا على إرث الإمام موسى الصّدر.
كما يطالب حزب الله بعودة الإمام، وينشر ملصقات وصورًا أخرى يظهر فيها الإمام بشكل بارز بين الشّخصيّات الرّئيسة في الحزب، سواء كانوا قادة سياسيّين دينيّين مثل الإمام الخمينيّ، أو الأمين العام الحاليّ للحزب السّيّد حسن نصر الله أو شهداء قضوا في عمليّاتٍ ضد إسرائيل. كما نشرت وحدة الإعلام الالكترونيّ في حزب الله قرصًا مدمّجًا عن الإمام موسى الصّدر موسومًا بعنوان “وكانت البداية”. إنّها بداية المقاومة ضدّ إسرائيل، والتي كان الإمام موسى الصّدر داعيًا إليها، ثمّ كانت أساس إنشاء الحزب. تضمّن القرص المدمج المتقن إنتاجه كلّ ما تجب معرفته عن الإمام: الخطب والمحاضرات التي ألقاها، كتاباته، صوره وفيديوهاته، وخطابات السّيّد نصر الله عنه. يتضمّن القرص المدمج الأفكار العظيمة التي دافع عنها الإمام موسى الصّدر: لقد كان مع الدّولة، لكنّه ضدّ السّلطة. كانت المقاومة أولويّته، وهي أولويّتنا أيضًا. وقضيّة المحرومين ستبقى القضيّة الوطنيّة والإسلاميّة والقوميّة. باختصار، كانت عبارة موسى الصّدر إمام المقاومة والوطن في هذا القرص المدمج مثل اللازمة في النَّشيد.
إنّها بالطّبع صورة الإمام موسى الصّدر ماثلةٌ بقوّةٍ إلى اليوم. لكنّنا مع ذلك، نراهن، أنّ إمكانيّات إعادة اكتشاف الإمام الصّدر من جوانب أخرى ما زالت سانحة. يدّعي بعض المتابعين أنّ كلّ تجديدٍ أحدثه الإمام موسى الصّدر تأتّى من نضاله السّياسيّ، وأنّه يضف شيئًا إلى الفكر الأصيل. وهو أيضًا لم يكن مُنَظِّرًا ولا مرجعًا كالسّيّد محمّد باقر الصّدر والإمام الخمينيّ. على الرّغم من ذلك، ومن خلال إعادة قراءة كتاباته القليلة، أو نصوص المؤتمرات التي قدَّمَها، يمكننا اكتشاف اتجاهات جديدة. عنيَ الإمام موسى الصّدر فعلًا، بالموضوعات التي تشكّل اليوم محاور اهتمام المفكّرين الشّيعة الإصلاحيّين: الإنسان وحرّيّته، ومجموعة القيم التي نادت بها أساسًا الأديان السّماويّة. أحد هؤلاء الإصلاحيّين، وهو كاتبٌ عراقيّ في مجلّة “قضايا إسلاميّة معاصرة” الواسعة الانتشار، نشر كتابًا أظهر فيه تقارب الرُّؤى بين الإمام موسى الصَّدر والإصلاحيّين. خَصَّصَ فيه فصلًا كاملًا لأفكار الإمام الصّدر المتعلّقة بما نسمّيه اليوم: “اللاهوت الجديد” . ما برح الإمام موسى الصّدر يُدهِشُنا.