كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: أي فضيحة اكبر من تلك التي تتلاحق فصولها في لبنان، وتتنقّل من قطاع الى آخر؛ شلل عارم، مؤسسات معطلة، ادارات مفلسة، خدمات معدومة، وامن اجتماعي معدوم بالكامل يقود لبنان وشعبه الى مهالك كارثية. وبالأمس تبدّى مثال اضافي عن دولة باتت فاقدة لمقومات استمرارها، بانقطاع الاتصالات الهاتفية وخدمة الانترنت في العديد من المناطق اللبنانية، جرّاء اضراب موظفي “اوجيرو”، مُحدثاً إرباكاً عزلَ الداخل عن الداخل، وقطع التواصل مع الخارج. وفي ظل هذا الاهتراء سيبقى باب الاهتراء والارباكات مفتوحاً على مصراعيه، وليتحمّل المواطن اللبناني إن استطاع ان يتحمل المزيد منها؟! وتقول مصادر عليمة إن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لم يعلّق على كلام رئيس مجلس النواب في ذكرى اختفاء الإمام الصدر ولا على كلام رئيس القوات اللبنانية في ذكرى شهدائها، لأنه سيجري بعد اجتماع المجلس السياسي للتيار اليوم مطالعة سياسية شاملة تتناول في العمق أزمة النظام السياسي وتفرعاتها والحلول المقترحة واسباب امتناع الرئيس ميقاتي عن تشكيل الحكومة وفقًا لمقتضيات الميثاق وانعكاسات الفراغ الرئاسي المحتمل ومخاطر عدم القيام بالإصلاحات المالية والاقتصادية. وتقول المصادر نفسها ان كلام باسيل يأتي في سياق مرحلة سياسية جديدة يتحضّر التيار لدخولها.
أيّ فضيحة اكبر من ترك دولة تنهار، وشعب يتوه في دوامة قاتلة، فيما اهل السلطة الحاكمة، كمَن يعيش في عالم التخلّي، وانزل عن ظهره حمل المسؤولية وانصرف الى مراقبة بلد ينهار، بالشّراكة مع مكونات الإنقسام السياسي، التي تقدم كل يوم دليلا اضافيا على أن اولويتها التي تعلو فوقها اولوية اخرى، هي الكيد لبعضها البعض والمزايدة على بعضها البعض والرقص الفاضح فوق جثة البلد؟!
الجحيم الشامل
سياسياً، ها هو الأسبوع الاول من مهلة الستين يوما لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، ينقضي من دون ان تلوح في افق الاستحقاق الرئاسي أي بارقة أمل في إتمامه في موعده الدستوري، فيما تتبدى على سطح المشهد السياسي ما تبدو انها محاولات للتوتير وفتح الجبهات السياسية على سجالات عقيمة لا يتأتّى منها سوى تعميق الانقسام الداخلي اكثر. والمريب فيها أنها تتلاقى او تتقاطع مع ما بدأته “اشباح الازمة” في الآونة الأخيرة، في تفكيك صواعق العبوات الناسفة للإستقرار الداخلي، وتحضير أرضيّة البلد لانفجار اجتماعي لا يُبقي فيه شيء، دخولاً من الباب المالي والتلاعب بسعر الدولار ورفعه الى مستويات فلكية ترمي بالمواطن اللبناني في جحيم الغلاء والاسعار وانعدام أساسيات حياته.
مهلة الستين يوما وفق النص الدستوري، تشكل فترة انتقالية من زمن رئاسي الى زمن رئاسي جديد، أي تجديد شباب الرئاسة الاولى بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، هذا هو المسار الطبيعي الذي يوجِب الدستور سلوكه خلالها، الا انّ هذه المهلة نُسفت حتى قبل بدء سريانها مطلع ايلول الجاري، حيث انها بدل ان تشكّل فترة انتقالية سلسة الى زمن رئاسي جديد، حوّلتها المكونات السياسية بأجنداتها المختلفة الى فترة انتقالية الى زمن آخر، ليس الى فراغ في سدة الرئاسة الاولى فحسب، بل الى فترة انتقالية الى زمن مفتوح على جحيم شامل ومصائب ومصاعب كبرى تنتظر لبنان.
والاخطر من تلك المصائب والمصاعب مُمهّداتها وما قد يشهده لبنان خلال الفترة الممتدة من الآن وحتى نهاية ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في 31 تشرين الأول المقبل. وهو أمر يعبق الحديث في مختلف الاوساط السياسية بتحذيرات ومخاوف ممّا قد تشهده الايام الـ55 الفاصلة عن انتهاء ولاية عون من احداث، حيث أنها ايام غير ممسوكة سياسيا وماليا واجتماعيا، وحتى أمنياً، وبالتالي لكل يوم احتمالاته التي ينبغي الحذر الشديد منها.
الأوروبيون خائفون
يتقاطع ذلك مع ما تكشفه مصادر موثوقة لـ”الجمهورية” من مخاوف جدية، ينقلها الديبلوماسيون الأجانب إلى الجهات اللبنانية الرسمية والسياسية، من تفويت المكونات السياسية فرصة انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن الموعد الطبيعي لهذا الانتخاب، والانتقال الى مرحلة جديدة تؤسّس لتحويل مسار لبنان خارج مدار أزمته. فبديل ذلك، تعميق أكبر لأزمة لبنان ومزيد من البؤس والمعاناة للشعب اللبناني.
ونقلت المصادر عن احد الديبلوماسيين الاوروبيين قوله لأحد كبار المسؤولين: “ننتظر ان يُقارب اللبنانيون الاستحقاق الرئاسي بما تستوجبه مصلحة لبنان، وإخراج الشعب اللبناني من معاناته. بالتأكيد نحن لا نريد ان نراه يعاني اكثر، ونحن نشارك اللبنانيين خوفهم على بلدهم، وهذا ما يجعلنا نؤكد بإلحاح على القادة السياسيين في لبنان بأن يدركوا ان لبنان في خطر، ومصيره مهدد”.
على ان اللافت في ما تنقله المصادر، انّ الديبلوماسيين في مداولاتهم مع القيادات والمراجع السياسية والروحية، يمرّون بالعموم على اسماء بعض المرشحين المفترضين لرئاسة الجمهورية ويستفسرون عمّن هو الأقرب من بينهم لكي يحظى بصفة مرشح جدي، ولكنهم يتجنبون تزكية أي مرشّح من بينهم، بل يشددون على مواصفات عامّة جوهرها التوافق بين المكونات السياسية على رئيس جديد للجمهورية يلبّي تطلعات الشعب اللبناني وتوقه الى الخلاص.
4 دول فاشلة!
الى ذلك، وعلى الرغم من انسداد الافق الحكومي وفشل الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي في التوافق على حكومة جديدة تقود المرحلة الراهنة، وتتولى مسؤولية الدولة واحتياجاتها في فترة الفراغ الرئاسي إذا ما تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية خلال فترة الستين يوما، فإنّ المستويات الدولية ما زالت ترسل اشارات متتالية، تحثّ فيها القيادات اللبنانية على منع سقوط لبنان في منزلقات خطيرة على وجوده، تُضاف إلى ازمته المالية والاقتصادية ما قد يذهب بلبنان الى مخاطر يصعب أو بالاحرى يستحيل احتواؤها، والشرط الاساس لمنع هذا السقوط، إتمام الاستحقاقات سريعا، سواء عبر تشكيل حكومة، او انتخاب رئيس جديد للجمهورية ووضع لبنان على طريق اعادة انتظام مؤسساته وسلطاته.
ولعل اخطر الاشارات المباشرة، وردت في تقرير حول ازمة لبنان وَضَعه فريق من خبراء احدى المؤسسات المالية الدولية، وأُبلغ الى جهات اقتصادية مسؤولة، وفيه ما حرفيّته:
اولاً، ان لبنان بلد غني بثروات ظاهرة، وغير ظاهرة، ولكن هذا البلد عومِل بقسوة وبطمع بلا حدود من المُمسكين بالسلطة فيه على مدى سنوات طويلة.
ثانياً، اسباب انهيار الوضع في لبنان متعددة ومتشعبة منها ما هو سياسي ومنها ما هو مالي واقتصادي ومنها ما هو إداري، وابرزها:
– سوء ادارة الدولة بشكل عام.
– إلغاء مبدأ المحاسبة الحقيقية، من خلال الاختباء خلف الصيغة الطائفية والمذهبية، والدفاع عن الفاسد وتحصينه طائفيا ومذهبيا.
– التقصير الفاضح والمزمن لدى المسؤولين عن السلطة في لبنان، لجهة عدم ترسيخ ما تسمّى “المسؤولية المجتمعية”، وعدم مبادرة الحكومات المتعاقبة في لبنان الى تفسير ما هي “الضريبة”، بما هي ثروة الدولة في جيوب مواطنيها، وبما هي واجب لصحة المجتمع، بل الحث على التهرّب منها، من خلال التلهي فقط الى ممارسة سياسات شعبوية غير مسؤولة. فعلى سبيل المثال، في فرنسا نسبة الضريبة من الناتج المحلي 44 %، بينما في دولة مثل تانزانيا 15 %، واما في لبنان فهي دون الـ 6 %. وهذه نسبة لا تكفي ابداً لسد بعض حاجات الدولة، ومن هنا فإنّ الضريبة التي تتم جبايتها تكفي فقط لسد جزء يسير جدا من حاجات الدولة، ولذلك تم اللجوء الى اموال المودعين في المصارف للصرف، مع ما يرافقه من فساد.
– إنعدام الرؤية الاقتصادية، والمشين في حالة لبنان انه لم يصل بعد الى اعداد خطة نهوض واقعية. ان ما اعلن في لبنان عن اعداد خطة للتعافي اعتبر خطوة ايجابية، لكنها لم تستكمل لاصطدامها بعوامل سياسية. المطلوب في حالة لبنان الاسراع في الخطة، مهما كان اسمها خطة انقاذ، خطة تعاف. فأيّ خطة للبنان بوضعه الراهن افضل من لا خطة، حتى ولو كانت هذه الخطة تتضمن ثغرات. ذلك ان هذه الثغرات يمكن تداركها في الممارسة. ولذلك الخطة اكثر من ملحّة. ولبنان فوّت فرصة وجود خطة في حكومة حسان دياب، حيث كان في الامكان السير فيها وتصويب ما اعتراها من خلل في بعض مضامينها. ولو أن الحكومة اللبنانية شاركت بهذه الخطة، لكان لبنان في وضع مالي واقتصادي واجتماعي افضل بعشر مرات مما هو وضعه حالياً.
ويسوّق التقرير مثالاً حول الادارة السليمة للدولة، حيث يستذكر ما قام به سلام فياض، حيث استطاع ان يثبّت الوضع الاقتصادي للدولة الفلسطينية بمسارعته فورا الى اجراء اصلاحات، رغم ان هذه الدولة محاصرة، وليست مستقلة، ولا تملك اي مقومات، ورغم ذلك لديها ثبات مالي، جراء الالتزام بالاصلاحات.
وبحسب التقرير فإن المطلوب ثورة اصلاحية شاملة في لبنان لا تستثني أياً من قطاعاته، ومن هنا فإن اي توجّه الى تخصيص مرافق الدولة اللبنانية في وضع الدولة الراهن، مردوده سلبي، حيث ان الاموال ستذهب مجددا الى جيوب الذين قاموا بـ”السياسة التدميرية” للبنان من الطبقة السياسية غير المسؤولة”.
ويحذّر التقرير من انّ مسودة تقرير لإحدى المؤسسات المالية الدولية (ربما البنك الدولي) يجري اعدادها، وما يرشح عنها يفيد بأنّ التقرير سيسمّي اربع دول فاشلة كليا: الصومال، اليمن، زيمنابوي ولبنان”.
ويسلّط التقرير النظر على ما يسمّيه “نكران الواقع والانتعاش الوهمي”، الذي وقع به اللبنانيون منذ بداية الصيف، وحديثهم عن صيف واعد واموال سياح ومغتربين، حيث ان كل ذلك لم يسد ولو جزءًا يسيرا جدا من حاجة لبنان، وشكّل ما يشبه “حبة مسكّن” غير فعالة لمرض عضال.
واخطر ما في التقرير عينه هو رفع درجة التحذير للمسؤولين عن السلطة في لبنان، بحديثة عما سمّاها “الحقيقة المتوحشة” التي سيصطدم بها لبنان حتماً، ما لم يبدأ بالاصلاحات الهيكلية والجذرية بصورة عاجلة جدا. يخطىء اللبنانيون إن راهنوا على انفراج في ازمتهم من باب الغاز والنفط في البحر، فاستخراجهما يتطلّب سنوات طويلة، وحتى ذلك الحين سيعاني لبنان من دون اصلاحات علاجية فورية.
ويشير التقرير الى انّ الضرورة الملحة امام لبنان تُحتّم المسارعة الى اقرار مجموعة القوانين الاصلاحية التي أشار اليها صندوق النقد الدولي، وتأخيرها الى ما بعد الانتخابات الرئاسية في البنان خطأ قاتل، فحال لبنان لا يحتمل تضييع المزيد من الوقت، وبمعنى أدق لبنان لم يعد يملك وقتاً ليهدره”. ويحذّر من أنه “إن لم تُسارع السلطات اللبنانية الى وضع الضوابط التي تحصّن العملة الوطنية، فلا سقف محدداً للدولار، ومن شأن ذلك أن يزيد من اهتراء الوضع المالي والاقتصادي، ودفع الازمة الى اعماق يصعب الخروج منها”.
السعودية والطائف
وفي موازاة جمود حركة تأليف الحكومة وعدم تمكّن الرئيسين عون وميقاتي من إقناع بعضهما البعض في تجاوز العقد المانعة لتوليد حكومة، وفي ظل المزايدات السياسية التي تصدر من غير اتجاه سياسي ووصل بعضها الى حد الدعوة الى إحداث نظام جديد للبنان، لفتت الانتباه أمس تغريدة للسفير السعودي في لبنان وليد البخاري، حملت على ما بَدت انها رسالة سعودية تنطوي على تأكيد غير مباشر بالتمسّك باتفاق الطائف.
وكتب البخاري في تغريدته التي تأتي متزامنة مع دخول لبنان مدار الاستحقاقات الرئاسية، وكذلك الحكومية: ميثاق الوفاق الوطني، والذي أقرّه اللبنانيون برعاية عربية ودولية، ليس وهماً ولا أُحجية غامضة فهو مصاغ بلسان عربي فصيح”.
ماذ سيحمل هوكشتاين
من جهة ثانية، بات مؤكدا انّ الوسيط الاميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل آموس هوكشتاين سيصل الى بيروت بعد غد الخميس، وفق ما نقلت وكالة “سبوتنيك” عن مصدر رسمي لبناني. على ان السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هو: هل ان زيارة الوسيط الاميركي المرتقبة حاسمة تضع ملف الترسيم على سكة الاتفاق النهائي؟ ام ان هذه الزيارة ستدرج الى جانب الزيارات البروتوكولية التي لم توصل الى اي نتيجة؟
وسألت “الجمهورية” مصادر معنيّة بملف الترسيم، فلفتت الى “اننا لسنا على علم بما في جعبة هوكشتيان، فقد وعدنا في آخر اجتماع بأنه سيأتي بالجواب الاسرائيلي على الطرح اللبناني الموحد، بالتمسّك بحدودنا البحرية الكاملة وحقوقنا الكاملة وغير المنقوصة بثرواننا البحرية. وبالتأكيد انّ الجديد الذي ننتظره هو الاستجابة لطرح لبنان، ودون ذلك سيبقى الملف مكانه”.
وعما اذا كانت ثمة اشارات ايجابية حول قرب توقيع الاتفاق قالت المصادر: سمعنا أن هوكشتاين آت، ولكن لا نعرف ما سيأتي به. كما لم نلمس ابداً اي اشارة الى ايجابية تضع هذا الملف على سكة الاتفاق على الترسيم بالشكل الذي يؤكد حق لبنان بحدوده كاملة ومياهه كلها. وفي الخلاصة، لن نستبق الامور، فنحن لسنا متفائلين وايضاً لسنا متشائمين، سننتظر ما سيأتي به هوكشتاين، وعلى أساسه سنبني على الشيء ما تقتضيه مصلحة لبنان.