في العصور القديمة، كان مبدأ الثأر الفردي وأخذ الحق باليد هو السائد في المجتمعات. ومع تطور البشرية ونضوج السلوك الإنساني، ظهرت الرغبة في الخضوع لقوانين تنظم النواحي المختلفة لهذا السلوك، وتطبيق العدالة. وبالتالي الخروج من مستنقع تحكمه شريعة الغاب ويقوم على حكم القوي إلى مجتمع حضاري منظم يكون الناس فيه متساوون.
ونتيجة لذلك التطور الفكري المذهل، بدأت تضعف فكرة استيفاء الحقوق بالذات، لا بل تتلاشى أمام مبدأ هام ميز البشر عن الحيوانات المتمثل بفكرة اللجوء إلى القضاء كسلطة ثابتة وشرعية، قادرة على تحقيق الاستقرار وإعطاء كل ذي حق حقه، إلى أن وصلت أخيرا إلى تجريم سلوك استيفاء الحقوق شخصيا.
أما في لبنان ونتيجة للأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة التي تعصف فيه منذ سنوات، وما نتج عنها من أزمات مالية ومصرفية دفعت المصارف إلى حجز أموال المودعين وفرض قيود مشددة على سحبها، ظهرت العديد من المشاكل بين المودعين من جهة والمصارف من جهة أخرى.
حيث عاد إلى الظهور سلوك رجعي من المفترض أنه بائد في الدول الطبيعية، المتمثل باستيفاء الحق بالذات.
وفي هذا الإطار ليس لنا إلا أن نأسف للحوادث التي حصلت حديثا، وتتلخص باقتحام مودعون مصارف في مختلف المناطق لاسترداد ودائعهم، وانقسام الرأي العام بين مؤيد ومعارض.
وفي خضم هذه الأوضاع نجد دائما أن هناك من يطالعنا ويتحفنا بخزعبلات قانونية، وأفكار لا تمت إلى القانون بأي صلة، بل يكون الهدف هو إيصال رسالة معينة أو استغلال حادث محدد.
لذلك كان لا بد من التطرق إلى الإشكالية التي دائما ما تظهر في ظروف مماثلة، والتي تتمحور حول مدى أحقية المودعين في استيفاء حقوقهم بالذات في مثل هذه الظروف؟؟
بداية يمكن تعريف استيفاء الحق بالذات بأنه أخذ الإنسان حقه عنوة وشخصيا، دون اللجوء إلى القضاء المختص. ويعتبر من السلوكيات التي جرمها القانون، وأصبح يعاقب من يأخذ حقه بيده.
وفي هذا السياق قضت المادة 233 من قانون الموجبات والعقود اللبناني بمنع الحكم ببطلان العقود نتيجة لعيب لحق بها وقضت بما يلي: ” يكون إبطال العقد على الدوام من أجل عيب أصلي لحقه وقت إنشائه (كالغلط والخداع والغبن والإكراه وعدم الأهلية)
ولا يجوز لغير المحكمة أن تحكم بالإبطال…”
كذلك قضت المادة 429 من قانون العقوبات، التي كرست مبدأ تجريم الأفعال التي تؤدي إلى استيفاء الحق بالذات، حيث نصت على ما يلي: “من أقدم استيفاء لحقه بالذات وهو قادر على مراجعة السلطة ذات الصلاحية بالحال على نزع مال في حيازة الغير أو استعمال العنف بالأشياء فأضرَ بها عوقب بغرامة لا تجاوز مايتي ألف ليرة.”
وتتطلب هذه الجريمة توفر أركان معينة لتطبيق هذا النص القانوني وهي:
1-الركن القانوني: والمتمثل بالمادة 429 من قانون العقوبات
2-الركن المادي: أي السلوك الجرمي المتمثل بقيام الفاعل صاحب الحق بأفعال من شأنها أن تؤدي إلى استيفاء الحق بالذات
3-الركن المعنوي: أي القصد الجرمي الذي يقوم على علم الجاني بأن أفعاله التي يرتكبها لغرض استيفاء حقه تعتبر مجرمة بحكم القانون، مع اتجاه ارادته إلى ارتكاب تلك الأفعال واستعادة حقه.
ويتضح لنا من المادة المذكورة أن هذه الجريمة تقوم على مبدأ هام يتمحور حول أن يكون بإمكان الجاني مراجعة السلطة المختصة في الحال للمطالبة بالحصول على حقه، ويقتضي أن يكون الحق ثابتا وأن يتم استيفاءه من أموال من وقع الجرم عليه.
وقد أوجد المشرع بعض الاستثناءات على هذا المبدأ ولم يتركه على إطلاقه؛
فعلى الصعيد الجزائي يتلخص أهمها بالدفاع المشروع الذي يعتبر سبب من أسباب التبرير، وكرسته المادة 184 من قانون العقوبات اللبناني التي قضت بأنه: “يعد ممارسة حق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرض غير محق ولا مثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والمعنوي. إذا وقع تجاوز في الدفاع أمكن إعفاء فاعل الجريمة من العقوبة في الشروط المذكورة في المادة 228.”
وبذلك تكون هذه المادة قد أباحت الدفاع عن النفس لرد الاعتداء لتعذر الالتجاء إلى الدولة لتوفير الحماية التي تأتي متأخرة.”
أما على الصعيد المدني فهناك عدة استثناءات على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات وأهمها:
1- الدفع بعدم التنفيذ وحق حبس الأموال وفقا للمواد 271 و 410 و 411 من قانون الموجبات والعقود وذلك كوسيلة يستخدمها أحد المتعاقدين بوجه المتعاقد الآخر لإكراهه على التنفيذ.
2- إلغاء العقد استنادا لبند إلغاء الحكمي وفقا للفقرة الرابعة من المادة 241 موجبات وعقود، والذي شكل خروجا على مبدأ أساسي نصت عليه الفقرة الثالثة من ذات المادة، وهو عدم وقوع الإلغاء إلا بموجب حكم من المحكمة المختصة. وبذلك يكون للمتعاقدين إلغاء العقد دون اللجوء للقضاء كاستثناء على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات.
وفي هذا السياق يجب تسليط الضوء على نقطة مهمة جدا أشارت إليها المادة 429 من قانون العقوبات، وهي قدرة الجاني على مراجعة السلطة ذات الصلاحية في الحال، فإذا ما كان بإمكان الجاني من تلك المراجعة فقد حقه في استيفاء دينه شخصيا وأصبح فعله مجرما.
ومن مراجعة هذه المواد يتضح لنا أن المشرع قد ضيق من إمكانية اللجوء إلى الاستثناءات على منع استيفاء الحق بالذات. فمن الناحية الجزائية يأخذ المشرع عادة بالدفاع الشرعي كمبرر، وهنا يقتضي أن تكون نفس الانسان أو ماله في خطر داهم ومؤكد وحال.
أما من الناحية المدنية فيكون اللجوء لهذا الاستثناء كوسيلة لحث المدين الآخر الذي أخل بالتزامه على التنفيذ، أو لإلغاء عقد حكما ولكن تبقى الإشكاليات الناتجة عن هذا الإلغاء ونتائجه خاضعة لحكم القضاء.
ويجب الانتباه إلى وجود العديد من الأحكام القضائية التي تناولت دعاوى تتعلق بهذه المواضيع، وكانت أحكاما إيجابية لصالح المدعي، وفرضت على المصارف إعادة الأموال إلى أصحابها، والتي جرى من خلالها تكريس عدة مفاهيم ومبادئ تتعلق بحقوق المودعين.
ومنها الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية في بيروت، الغرفة السادسة، الناظرة في القضايا المالية، الصادر تاريخ 3/2/2022، حيث اعتبرت المحكمة أن المصرف المدعى عليه مدينا للمدعي برصيد حساب الادخار العائد للأخير، ويتوجب عليه إعادة مبلغ مماثل إليه في الموعد المتفق عليه تحت طائلة الغرامة الإكراهية عن كل يوم تأخير. ويقتضي الإشارة هنا إلى نقطة مهمة جدا يقتضي أن تشكل منطلقا للأحكام القضائية التي تصدر في هذا السياق، والتي تتمثل برفض المحكمة تذرع المصرف بالوضع السائد في لبنان وبمضمون المادة 24 من العقد العام لتبرير رفضه تسليم المدعي أمواله، حيث اعتبرت المحكمة أن الحالة الاقتصادية التي تذرع بها المصرف لم تكن حدثا مفاجئا على العاملين في القطاع المصرفي، خاصة وأن العديد من المؤشرات كانت تنبئ بحصولها، وقد حذر منها الخبراء والاقتصاديين، بالإضافة إلى أنه كان يجب على المصارف بصفتهم من الممتهنين والمتخصصين في المجال، توقع حصول الأزمة مسبقا ووضع الآليات المناسبة لمواجهتها بأقل الأضرار.
وهناك قرار آخر رقم 192/2021 صدر تاريخ 17/12/2021، كان قد سبق هذا القرار عن قاضي الأمور المستعجلة يقضي بإلزام المدعى عليه بنك ش.م.ل بتحويل مبلغ قدره مئة ألف دولار أميركي من حساب المدعي إلى حساب آخر للمدعي في مصرف أجنبي.
وبالعودة إلى الأحداث الأخيرة يقتضي البحث فيما إذا كان المودع الذي استرجع أمواله شخصيا، قد أقام دعوى على المصرف، وما إذا كان قد صدر حكم بالدعوى، أم أنه قد قام بسلوكه لمجرد أنه طالب المصرف بذلك ولم يقم المصرف بإعادة أمواله له.
وبالتأكيد ليس الهدف من الإضاءة على هذا الموضوع الخطير هو لتبرئة طرف واتهام طرف آخر، حيث أن اللامبالاة في طريقة تعاطي المسؤولين وأصحاب الشأن في البلد مع الأوضاع الداخلية، وانصرافهم إلى مصالحهم الخاصة، إضافة لعدم إدراكهم لهول هذه الحوادث وخطورتها المستدامة على لبنان الدولة والكيان، يجعلهم في المرتب العليا في ترتيب الاشخاص المسؤولين عما سوف وصل اليه هذا البلد الحبيب.
كما يجب على السلطات المعنية التدخل واتخاذ خطوات سريعة تسمح للمودعين باستعادة أموالهم للحد من التفلت والفوضى، وخلق نوع من التوازن بين تأمين حقوق المودعين من جهة، وقدرتها على ممارسة مهامها في ظل الاوضاع الصعبة من جهة أخرى.
ويبقى الخوف من أن تشكل هذه الحوادث ومثيلاتها أعرافا يعتقد الأشخاص ويتوهمون أنها تضمن بقاءهم وتعيد حقوقهم، إضافة إلى انعكاساتها المحتملة على الوضع الأمني.
ونتيجة لذلك، ولأنّا لسنا دعاة عصبية، ودسنا على عبيّة الجاهلية، وأصحاب أمل بدولة المؤسسات والقانون، لا نستطيع أن نؤيد مثل هذه الأفعال ونبررها. ويبقى الاحتكام إلى القضاء والقانون الحل الأمثل خاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد.
وأخيرا يقتضي التذكير بأن شرف الإنسان يأبى أن يتحرر في سبيل استرداد مبلغ من المال، بينما في المقابل ينبطح أمام سلطة عاجزة شكلت الدولة وعمقها، وحمت نيروناتها.
د. عصام هاني بردى
دكتور في القانون الخاص