كتبت صحيفة “النهار” تقول: لم يكن غريبا ان تتصاعد تداعيات الاشتباك المصرفي – القضائي الى ما يتجاوز الشلل المصرفي المستمر مع اضراب المصارف، فيفجر البارحة فصولا غير مسبوقة في تاريخ التشابك والتعقيدات بين السلطتين التنفيذية والقضائية وما بينهما القطاع المصرفي. ذلك ان الخطوة التي اقدم عليها رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي بالطلب من القوى الأمنية الامتناع عن تنفيذ المذكرات والإجراءات التي تصدرها وتطلبها النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، اكتسبت طابعا استثنائيا لجهة تفجير مفاجأة في اقدام رئيس للحكومة على خطوة كهذه يفترض انها مناطة بالجهات القضائية العليا، ولا سيما منها النيابة العامة التمييزية، لمنع تفجر تداعيات “الرعونة القضائية” المفرطة من التسبب بمزيد من النتائج الكارثية. هذه الخطوة اثارت لغطا واسعا لجهة ما اوحته من تداخل في الصلاحيات التنفيذية والقضائية ولكنها كشفت حقيقيتين لم يعد ممكنا التستر عليهما : الأولى ان التزام الجهات القضائية العليا والمعنية حصرا واساسا باحتواء “تمرد” القاضية عون على الانتظام القضائي واصوله، التفرج، وعدم مبادرة النيابة العامة التمييزية والتفتيش القضائي الى معالجة الازمة في فصولها الأخيرة، اخرج الازمة العاصفة من الضوابط وجعلها تتفلت على نحو خطير في اتجاهات عدة علما ان هذا الامر اثبت تكرارا مدى انصياع جهات قضائية للفريق العوني. والثانية ان الانجراف الذي طبع مضي القاضية عون في حربها المفرطة في الرعونة على المصارف أدى الى عكس كل المزاعم التي رمتها لتبرير التداعيات الخطيرة الناشئة عنها والتي لن توفر إعادة دولار واحد لاي مودع في ظل التفجر الحاصل. هذه التداعيات توجها اقدام الرئيس ميقاتي امس على خطوته التي قيل انها كانت نتيجة حتمية لاستدراج القاضية عون لهذه السابقة التي اثارت جدلا قانونيا حول مدى طبيعتها او امكان تجاوزها لحدود السلطة، ولكن المعنيين ابرزوا المعطيات القانونية التي تسوغ لميقاتي هذه الإجراءات وكشفوا انه سيدعي على غادة عون.
وفي المقلب السياسي يمكن القول ان اشتعال اعنف السجالات بين ميقاتي و”التيار الوطني الحر” نتيجة لإجراءات القاضية عون من جهة، والهجوم الحاد الذي كان ميقاتي شنه في حديثه التلفزيوني ليل الثلثاء على رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل من جهة ثانية، أديا واقعيا الى انكشاف التدخل والغطاء السياسي اللذين يظللان القاضية غادة عون انكشافا تاما بما يسم إجراءاتها تكرارا بسمة الشكوك المتعاظمة حولها. بذلك يتضح ان المواجهة القضائية – المصرفية باتت اشبه بعاصفة سياسية ضخمة وسط استحالة فصل التدخلات السياسية فيها عن الطابعين المصرفي والقضائي بحيث تزداد تداعياتها وافاقها قتامة .
كتاب ميقاتي
اذا، وغداة اعلان الرئيس ميقاتي سعيه الى انهاء ازمة المصارف في غضون 48 ساعة، عمد امس الى توجيه كتاب الى وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي طلب فيه “عدم تأمين المؤازرة أو تنفيذ اي اشارة او قرار يصدر عن القاضية غادة عون في اي ملف يثبت انه قد جرى تقديم طلب مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن اعمال عون، وذلك الى حين بت المرجع القضائي بهذا الطلب”. وإستناداً الى كتاب ميقاتي الذي طلب فيه “إتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات تجيزها القوانين والأنظمة المرعية الإجراء في سبيل تطبيق أحكام القانون ولمنع تجاوزه والمحافظة على حسن سير العدالة”، وبهدف منع تجاوزات القاضية عون للقانون أصدر مولوي كتاباً وجهه الى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والى المديرية العامة للأمن العام، وطلب “ضرورة التقيد بكتاب رئيس مجلس الوزراء المذكور آنفاً.”
على الاثر، ردت القاضية غادة عون بتغريدة طالبت فيها “السلطات الدولية في البرلمان الأوروبي للمساعدة في الدفاع عن سيادة القانون”، مشيرة الى ان “رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يتدخل بشكل فاضح في العدالة من أجل وقف التحقيقات التي أجريها في قضية المصارف وتبييض الأموال، من خلال مطالبة وزير الداخلية بسام مولوي بعدم تنفيذ أوامر مدعي عام جبل لبنان”.
وسارع المكتب الاعلامي لميقاتي الى الرد “منعا لاي تأويل خاطئ للكتاب الموجّه” من رئيس الحكومة الى وزير الداخلية، فالرئيس ميقاتي “لم ولن يتدخل في عمل القضاء، بل انطلق في بيانه من كتب وردته وتتضمن عرضا مفصلا لمخالفات منسوبة لبعض القضاة وقد نقل بامانة قانونية مضمون تلك الكتب الواردة، وطلب، انطلاقا من موقعه الدستوري وحرصه على تطبيق أحكام القانون والمحافظة على حسن سير العدالة، من وزير الداخلية إتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات تُجيزها القوانين والأنظمة المرعية الإجراء في سبيل تطبيق أحكام القانون والمنع من تجاوزه والمحافظة على حُسن سير العدالة”. كما اكد مجدداً “بان القضاء المختص يبقى صاحب الصلاحية بممارسة مهامه كاملةً وباستقلالية مُطلقة دون أي تدخّل من قبل اي سلطة أو جهاز، إلا أن ذلك يبقى مشروطاً بأن تكون تلك الممارسة ضمن سقف القانون ولا تشكّل تعدياً صارخاً على القواعد القانونية، وان مسؤولية الجميع، كلّ من موقعه، هي المحافظة على القطاع المصرفي دون أن يعني ذلك قطعاً جعل أي مصرف بمنأى عن أي ملاحقة أو مساءلة أو عدم إخضاعه للتحقيق ومحاسبته حتماً في حال ثبوت ارتكابه لأي مخالفة أو تجاوزات قانونية”.
حملة “التيار”
وبازاء هذا التطور شن المجلس السياسي لـ”التيار الوطنيّ الحرّ” برئاسة النائب جبران باسيل هجوما عنيفا على رئيس حكومة تصريف الأعمال فاتهمه بانه “يستغل فترة الفراغ للإمعان في ضرب الشراكة والميثاق ويتصرّف كأن المنظومة الدستورية للحكم مكتملة في غياب رئيس الجمهورية وفي ظل حكومة تصريف اعمال، وآخر هرطقاته أن حكومته القاصرة ، لها الحق أن تجتمع وتعيّن أو تسوّي قرارات استثنائية متّخذة سابقاً او كل ما من شأنه ان يعمل على تعميم الفوضى الدستورية والقانونية، وأروع ابتكاراته القانونية، توجيهه رسالة الى وزير الداخلية يطلب منه اتخاذ الاجراءات اللازمة لحسن سير العدالة وكأنه وزيراً للعدل، فيما يعني انه يطلب منه تدخل واضح للأجهزة الأمنية في وقف عمل القضاء والوزير القاضي ينفّذ التعليمات بنحر القضاء، وهذا ان دلّ على شيء، اضافة الى ضرب الجسم القضائي ضربة اضافية وقاضية، فهو يدلّ على خوف السيد ميقاتي ممّا يمكن ان يطاله من هذه التحقيقات في المصارف واستقتاله بالقيام باي شيء لوقفها، اضافةً لحماية شريكه حاكم مصرف لبنان”. واعتبر “إن هذا السلوك الاستفزازي يحمّل السيد نجيب ميقاتي مسؤولية خرق الدستور والقوانين وتعريض نفسه للملاحقة أمام الأجهزة القضائية ”
وعلى الأثر اصدر وزير العدل هنري الخوري بيانا اكد فيه “تمسكه باستقلالية القضاء وبمبدأ فصل السلطات وبعدم التدخل في عمله”، و”حرصه المطلق على مكانة القضاء ومنعته وحقوق المتقاضين”.
بكركي
وسط هذه الأجواء اثار فتح ملف تقلص عدد المسيحيين في لبنان في الحديث التلفزيوني الذي اجري مع الرئيس ميقاتي استغراب بكركي واوساط مسيحية، فاصدر المكتب الإعلامي في البطريركية المارونية بيانا استغرب فيه “إثارة الموضوع المتعلّق بالعدد في لبنان طالما انه قد تمّ تجاوزه في متن الدستور، وبإجماع اللبنانيين على قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين”. ولفت الى ان “ما يثير الاستغراب أكثر وأكثر هو توقيت هذا الكلام وطرح هذه المسألة الوطنية الأبعاد في هذه المرحلة التي تقتضي المزيد من الالتزام بموجبات الدستور والميثاق الوطني على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع اللبنانيين”. واوضح ان البطريركية المارونية “لم تصدر اي تقرير يتضمن احصاء لنسبة المسيحيين، وبالتالي لم تسلّم ايّ مرجع داخلي او خارجي اي تقرير او احصاء من هذا النوع وان البطريركية المارونية تلتقي مع الرئيس ميقاتي حول التشكيك بصحة هذا التقرير، وتؤكد ان أعداد المسيحيين في لبنان هي اكبر بكثير من النسبة المغلوطة التي نسبت الى التقرير المزعوم”.