جوني منيّر- الجمهورية
حتى إشعار آخر إنّ الاتفاق السعودي – الايراني برعاية صينية، سيشكّل محور التركيز والتقييم للتطورات الكبيرة التي تلهب ساحات الشرق الأوسط.
بدايةً وعلى المستوى الدولي، لا شك بأنّ الصين نجحت في تسجيل هدف في المرمى الاميركي. ففي خطوة تُعاكِس المسار التاريخي للشرق الاوسط حتى في عز حضور الاتحاد السوفياتي، كرّست الصين دخولها كمرجعية دولية في الشرق الاوسط او المنطقة المحسوبة تقليدياً كمنطقة نفوذ اميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. لا شك انّ الاتفاق أظهَر تراجع النفوذ السياسي الاميركي في المنطقة، فأهمية الرعاية الصينية لهذا الاتفاق انها طالت أكبر بلدين محوريين في الشرق الاوسط: السعودية وايران.
لكن كي لا «نشطَح» كثيراً في التفسير والاجتهاد، فإنّ هذا الاختراق الصيني ارتكز على الحضور الاقتصادي والتجاري لا العسكري والامني، والفارق كبير. تريد الصين ان تثبت نفسها كقوة ديبلوماسية صاعدة ارتكازاً الى قوتها الاقتصادية الهائلة. فالصين تمتاز بأنها اكبر شريك تجاري للبلدين. مع السعودية تخطّت حدود الـ 87 مليار دولار العام الماضي، ومع ايران حوالى 17 مليار دولار، وهي تعمل على توسيع دورها في مجالات الاستثمار وإنشاء البنى التحتية. لكن في المقابل، إنّ واشنطن لا تزال تحتل الصدارة العسكرية وتقديم المساعدات بحراً وجواً وبراً وايضاً على الصعيد الاستخباري والتعاون الامني.
الاكيد انّ الاتفاق سيدفع الى تهدئة التوتر القائم في الخليج، وانعكاسه الاول سيكون على تثبيت الهدنة في اليمن ومحاولة الدفع باتجاه تسوية نهائية. وهذا يلائم مشروع ولي العهد محمد بن سلمان الذي يراهن على دور اقتصادي سعودي جديد وعلى مشروعه الضخم «نيوم»، ما سيفتح للسعودية دوراً ريادياً، ليس على مستوى الخليج فقط، بل على مستوى كامل الشرق الاوسط.
في المقابل قد تكون ايران «سايَرت» الصين ودوّرت بعض الزوايا، وأملت في الوقت عينه في التخفيف من حدة أزمتها الاقتصادية والحصار المضروب عليها. لكن العملة الايرانية تحسنت بشكل طفيف بعد الاعلان عن الاتفاق، فيما كانت قد سجلت تحسناً قاربَ الـ 30 % الشهر الماضي إثر عودة المفتشين الدوليين وصدور اخبار ايجابية حول الاتفاق النووي، ما يعني انّ الانفراج الاقتصادي الحقيقي موجود في مكان آخر.
لكن الاهم الآن هو اختبار مدى عمق الاتفاق ومَداه الزمني، فبعد ساعات على توقيع الاتفاق، أعلنت طهران عن صفقة طائرات سوخوي 35 المتطورة مع روسيا، صحيح انّ تمهيداً كان قد حصل خلال الاشهر الماضية حول هذه الصفقة، لكنّ الاعلان عنها رسمياً فور إنجاز الاتفاق السعودي – الايراني يضع حدوداً واقعية للمبالغات التي سادت، وهو ما يوحي بأنّ الاتفاق بمثابة تهدئة وتبريد بانتظار حوار مباشر يَطال عمق الخلافات قد يحصل وقد لا يحصل. وعلى سبيل المثال ما هو مصير النفوذ الايراني العسكري في الخليج، وعلى مستوى «الهلال الشيعي» كما اصطلح على تسميته، وهو ما تعتبره السعودية مرتبطاً بالامن الحيوي السعودي؟
وعند الجانب الاميركي، صحيح انّ الامير محمد بن سلمان وجّه صفعة سياسية قوية لإدارة بايدن لكنه بَدا حريصاً على التمييز بين خلافه العميق مع الادارة الديموقراطية وبين علاقة السعودية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. فعدا عن انّ السعودية أبقت واشنطن على اطّلاع بشأن محادثاتها مع ايران، فهي اقتربت من إبرام صفقة شراء طائرات «بوينغ» بقيمة 35 مليار دولار ما سيخلق حوالى مئة ألف وظيفة في الاسواق الاميركية. رغم ذلك، فإنّ اتفاقاً تحت رعاية الصين يناقض استراتيجية ادارة بايدن التي تعمل لتحشيد العالم في مواجهة التمدد الصيني.
والواضح انّ الامير محمد بن سلمان يريد إظهار فشل سياسة البيت الابيض ووزارة الخارجية التي حظيت بنكسات مع عدة دول عربية تعتبر حليفة لواشنطن مثل مصر والاردن.
لذلك، تَنحّت وزارة الخارجية الاميركية جانباً في الشرق الاوسط في مقابل صياغة سياسة اميركية جديدة من خلال وزارة الدفاع التي تمتاز بعلاقة وثيقة مع السعودية. وهنا يظهر بوضوح معنى الخلاف السعودي العميق مع ادارة بايدن من دون ان ينعكس ذلك على العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن.
ووسط تصاعد اصوات الاعتراض في واشنطن على السلوك السياسي الضعيف لإدارة بايدن في الشرق الاوسط، تولّت وزارة الدفاع إعادة رسم سياسة جديدة عبر انشاء بيئة تحتية متكاملة للدفاع الجوي والبحري في الشرق الاوسط وبالشراكة مع الجيوش الحليفة في المنطقة.
واستتباعاً، اختفت الانتقادات التي كانت تُكال لمصر حول حقوق الانسان والقبضة الامنية مع التنظيمات الاسلامية، وحلّ مكانها تفاهم جديد نَسجه وزير الدفاع الاميركي خلال زيارته القاهرة. والامر نفسه مع السعودية وايضاً الاردن. وايران المَشهود لها بترويها ودراستها العميقة للمواقف السياسية، فهي راقبت وما تزال وتقوم بدراسة جدية حيال التلويح الاميركي الجديد باستخدام القوة. كما هي تراقب بتمعّن الاشارات الحقيقية حول ردة الفعل الاميركية كما الغربية حيال شراكتها العسكرية مع روسيا، إن في اوكرانيا او في الشرق الاوسط، وماذا تريد واشنطن فعلاً وفي العمق والخطوط الحمر الحقيقية التي تفصل عن القرار الجدي.
وكان لافتاً أن تعلن طهران عن تبادل قريب للسجناء بينها وبين واشنطن وعن استمرار التواصل لإنهاء العقوبات، فيما ينفي البيت الابيض وجود اتفاق حول تبادل السجناء ويصفه بالخبر الكاذب. وهذا مؤشر لا بد من قراءة خلفياته الحقيقية. والواضح انّ للتحالف العسكري الروسي – الايراني مترتباته على ساحات الشرق الاوسط، وهو ما بَدا بوضوح. إزاء كل هذه الصورة يمكن مقاربة الملف اللبناني واستحقاقاته وفي طليعتها الاستحقاق الرئاسي. وخلال الايام الماضية اجتمعت الدول الخمس المعنية بالملف اللبناني ولكن بعيداً عن الاعلام، ولهذا الامر أسبابه الوجيهة. فالاجتماع السابق الذي عُقد في باريس جرى تناوله في وسائل الاعلام بكثير من اللغط خصوصاً حيال عدم صدور بيان ختامي. وهذا ما أضعفَ صورة اللقاء، وبَدل ان يشكّل عامل ضغط معنوي كان سَعي لتبرير عدم صدور البيان.
كذلك، فإنّ موضوع التسميات حيال الاستحقاق الرئاسي والتي تستهوي الوسط اللبناني أضَرّ بالرسائل التي حملها اللقاء الخماسي. أضِف الى ذلك انّ المطلوب متابعة ما استجدّ بعد لقاء باريس والتحضير جيداً للقاء الذي سيُعقد على مستوى وزراء الخارجية قبل شهر حزيران المقبل، والذي سيجري في ختامه إعلان الورقة النهائية التي ستحمل بنوداً واضحة.
المصادر المطلعة تكتّمت حول مستوى المشاركة في الاجتماع الاخير، لكنها أوردت نقاطاً جرى التطرّق إليها من جديد، وأهمها التمسّك بالاستقرار الامني على الساحة اللبنانية وسط المخاطر الكبرى التي تضرب الواقعين الاقتصادي والمعيشي في لبنان.
وكذلك إبداء الدعم للموقف السعودي من الازمة اللبنانية، والذي يرتكز على انّ، لدعم لبنان اقتصادياً، شروطاً لا بد من تنفيذها، بدءاً من مطالب صندوق النقد الدولي ووصولاً الى مطالب السعودية بالذهاب الى سلطة لبنانية خارج إطار الاصطفافات الاقليمية.
كما تمسّك الحاضرون بالاستمرار في دعم الجيش اللبناني لضمان استمرار الاستقرار، وكونه سيتولى لاحقاً حماية مشروع إعادة بناء مؤسسات الدولة التي تهاوت وتفككت.
واستطراداً، إنّ النظر الى الاستحقاق الرئاسي من زاوية ضيقة ووضعها في اطار السلوك الذي كان يحصل خلال الاستحقاقات السابقة، يبقى غير واقعي ومبسّط الى حد بعيد.
الواضح ان المنطقة امام إعادة تشكيل خارطتها السياسية، والواضح ايضا ان لبنان ليس جزيرة منعزلة عمّا حوله.
ومن غير المنطقي الاعتبار بأنّ التبدلات الهائلة التي ضربت عمق الساحة اللبنانية خلال السنوات الاربع الماضية، والتي شاركت في جزء اساسي منها القوى الدولية، سيجري القفز فوقها بكل سذاجة للعودة الى ما كانت عليه الصورة سابقاً، وهذا ما يسري على سوريا في الوقت نفسه ايضاً.
ولكن يمكن القول انّ الاتفاق السعودي – الايراني قد يعكس بداية مسار في هذا الاتجاه.
والاعلان الايراني عن تبادل السجناء مع الولايات المتحدة ورَد البيت الابيض اشارة تحمل نكهة سياسية لا بد من قراءتها بِتروٍ، ولو انها ما تزال خطوة اولية وبحاجة لاستكمالها.
فالواضح انّ اي طرف اقليمي لا يريد الانزلاق باتجاه الحرب وهو ما يدفع للاستنتاج بأنّ التسويات هي السبيل المحتوم، ولكن وفق معادلات جديدة ترتكز على توازنات اخرى، فرضَتها حرب اوكرانيا من جهة والضغوط الاقتصادية والمعيشية التي يُفاقم عامل الوقت من حِدّتها.