عماد جودية – النهار
نعم مشكلة غلاة المارونية السياسية منذ الاستقلال إلى اليوم لا تزال هي هي، فقادتها الحاليون كقادتها السابقين، لم يتعلموا من أخطائهم القاتلة وأوصلوا موارنتهم والمسيحيين إلى “مقصلة العدم والموت البطيء” فقتلوا بجهلهم وأنانيتهم وحبّهم للذات ولمصالحهم الخاصّة نخبهم المارونية والمسيحية نتيجة صراعهم السياسي القاتل في ما بينهم على “كرسي الرئاسة” وحوّلوا مناطقهم من محميّة للموارنة والمسيحيين إلى محميّة لإقطاعاتهم ذات العقلية المنغلقة على كل تطور وتقدم، فأرجعوا الموارنة والمسيحيين عشرات السنين إلى الوراء بسبب ذهنية الثأر والاستئثار والقبلية والعشائرية التي تتحكم بتفكيرهم. لهذا قلنا في عنوان مقالنا إن مشكلة غلاة الموارنة واحدة منذ ما قبل الطائف إلى ما بعده وصولاً إلى اليوم. ويبدو أن إلغلاة الجدد يعيدون بأنفسهم تكرار التاريخ نفسه مع رئيس تيار المردة كما كان مع رئيس حزب الكتلة الوطنية زمن غلاة ما قبل الطائف حيث كان يدعوهم للتعقل وعدم أخذ الموارنة والمسيحيين إلى الانتحار وعدم الاستئثار بالسلطة والانفتاح بوعي ومحبّة على شركاء الوطن من الطوائف المسيحية الأخرى والدروز والمسلمين شيعة وسنة والتفاهم معهم على تطوير النظام بدل إدارة الظهر والتصرف وكأن البلد وُجد لهم وحدهم ولا يحق لأحد غيرهم مشاركتهم في حكمه لا مسيحيين ولا مسلمين.
ولهذا كان إده أول المعترضين على محاولات كميل شمعون فرض التجديد لعهده ست سنوات أخرى عام ١٩٥٨ ووقف بوجهه وانضمّ إلى الزعيم الدرزي كمال جنبلاط والزعيم السني صائب سلام في معارضة هذا التجديد. كما كان أول من كشف النقاب عن اتفاق القاهرة وأول من عارضه، الذي كان وقعه قائد الجيش يومذاك إميل البستاني عام ١٩٦٩ مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات برعاية الرئيس جمال عبد الناصر ومباركة الرئيس شارل الحلو وموافقة قطبي الموارنة البارزين شمعون وبيار الجميّل. وعندما بدأت الحرب الأهلية وحمل حزبا شمعون والجميّل السلاح في مواجهة ما سمّياه “محاربة توطين الفلسطينيين” خاطبهم إدّه بعبارته الشهيرة: أنتم أشعلتم الحرب الأهلية بإحضاركم الدب إلى داركم فلتتحمّلوا مسؤولية سقوط الموارنة والمسيحيين والبلد معهم. وعندما زارا الرئيس حافظ الأسد واستنجدا بجيشه لمنع سقوط المناطق المسيحية بيد عرفات وقواته ومقاتلي الحركة الوطنية خاطبهم إدّه مجدّداً بقوله لهم: أنتم مجدداً تستدرجون دبّاً ثانياً إلى لبنان لتحموا مصالحكم لا مصالح الموارنة ولا المسيحيين، وبفضلكم لن يخرج منه كما دخل. وكان محقاً حيث لم تمضِ أشهر على دخول الجيش السوري إلى البقاع ومناطق جبل لبنان وصيدا وصولاً إلى بيروت حتى استعر الخلاف بين قيادته وقطبي الموارنة شمعون والجميّل وحزبيهما ما دفعهما للتوجّه جنوباً باتجاه إسرائيل لمواجهة الأسد وجيشه في لبنان، وعندما نفذت إسرائيل اجتياحها الأول للجنوب عام ١٩٧٨ ومن ثم اجتياحها الثاني له عام ١٩٨٢ وصولاً إلى بيروت قال إدّه عبارته الشهيرة: اليوم استدرجتم الإسرائيلي إلى بيروت بعد استدراجكم للفلسطيني والسوري إليها ولكن هذه المرة الدب الثالث سيضع المسمار الأخير في نعش الوجود الماروني والمسيحي في لبنان بفضل غبائكم وأنانيتكم وطمعكم وعمى بصيرتكم ولهاثكم وراء مصالحكم ولو أدّى ذلك بكم لخسارتكم لبنان.
وعندما تقاتل عون وجعحع وقواتهما في معركة ما سُمّي حرب الإلغاء عام ١٩٨٩ قال إدّه بحسرة مخاطباً إياهما من منفاه الباريسي: بقتالكم أسقطتم الموارنة والمسيحيين كما يسقط الولد لعبته من يديه ويكسرها، متسائلاً هل ستقوم للموارنة والمسيحيين بعد الآن قائمة. وللأسف، تُوفي هذا الزعيم الماروني المشرقي الراقي والحضاري والكبير كحميد فرنجيّة وموريس الجميّل وهو متألم على ما ارتكبه غلاة المارونية السياسية من مآسٍ وأخطاء وممارسات قاتلة ومدمّرة وغير مسؤولة تجاه الموارنة والمسيحيين خاصة وتجاه البلد وأهله عامة. فبدلاً من أن يأخذوا بنصائحه ويعملوا بهديها حاربوه وصوّروه أمام مناصريهم بأنه الزعيم الماروني الضعيف الذي فضّل الهرب من لبنان على البقاء فيه والدفاع عن وجودهم بمواجهة عرفات والقوات السورية ومقاتلي الحركة الوطنية والمسلمين، متناسين أن المأساة التي عاشها الموارنة والمسيحيون منذ أزمة عام ١٩٥٢ (التجديد لبشارة الخوري) وثورة عام ١٩٥٨ (محاولة التجديد لشمعون) مروراً باتفاق القاهرة عام ١٩٦٩ (توقيع إميل البستاني مع عرفات) وبدء الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ وصولاً إلى دخول القوات السورية عام ١٩٧٦ وقوات الاحتلال الإسرائيلية بين عامي ١٩٧٨ و١٩٨٢ إلى لبنان وانتهاءً بحرب عون وجعجع عام ١٩٨٩ وصولاً إلى اتفاق الطائف عام ١٩٩٠ كانت من صنع معظم غلاة المارونية السياسية أنفسهم لا قادة الطوائف المسيحية الأخرى ولا القادة المسلمين. واليوم، من بقي من غلاة المارونية السياسية زمن الحرب ومعهم الغلاة الجدد من القادة الموارنة الجدد الشباب يعيدون الحكاية نفسها التي مارسها من سبقوهم مع إده منذ خمسينيات القرن الماضي حتى وفاته في تسعينيات هذا القرن مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجيّة الذي كنّا وصفناه في مقال نشرناه في العزيزة “النهار” بتاريخ ٣٠/١/٢٠٢٣ بأنه “صوت العقل” الباقي عند المارونية السياسية حيث يدعو هؤلاء الغلاة لمقاربة القضايا الوطنية مع شركاء الوطن من مسيحيين ومسلمين بعقلانية بعيداً عن أي تشنج مذهبي وطائفي ويحثهم على الابتعاد عن طروحات الفيديرالية وغير ذلك من الأفكار التي يمكن برأيه أن تكون قاتلة لمستقبل الوجود الماروني والمسيحي في لبنان لأن تناقص عدد المسيحيين في لبنان قياساً لتزايد عدد مسلميه بحسب اعتقاده لا يسمح لغلاة المارونية السياسية بطرح مثل تلك الأفكار الهدامة لأنها تأخذهم وتأخذ معهم أبناء طائفتهم وباقي المسيحيين إلى “انتحار جديد” قد يؤثر على مستقبل وجودهم الفاعل في لبنان والمنطقة وعلى حضورهم الرسمي داخل الدولة وسلطاتها. وللأسف، يقابل هؤلاء الغلاة فرنجية بتخوينه واعتباره مستزلماً للثنائية الشيعية وملحقاً بمحور سوريا وإيران ويعتبرونه لا يمثل بمواقفه تلك إلا نفسه ويقللون من تمثيله الماروني والمسيحي نظراً لضعف زعامته وحضوره السياسي في المناطق المسيحية بحسب ادعائهم، وبدلاً من أن يتعظوا من أخطائهم وأخطاء من سبقوهم التي لم تجلب على الموارنة والمسيحيين إلا الويلات والنكبات السياسية والعسكرية والتي كان من نتيجتها تراجع الدور الوطني للموارنة وللمسيحيين معاً وإلى ضعف حضور نخبهم إضافة إلى خسارتهم الكثير من صلاحيات رئيس الجمهورية… نعم بدلاً من أن يذهبوا إلى الاتعاظ من مواقف فرنجية، يستمرّون للأسف في تهشيمه وكأنهم أحرص منه على وجود الموارنة والمسيحيين في لبنان، وهم في الواقع يفعلون عكس ذلك كلياً.
أخيراً، جوناثان راندل في كتابه “حرب الألف عام” عن الحرب الأهلية، يصف غلاة المارونية السياسية وأتباعهم بـ”رجال الدم”. لذلك، إن لم يتعظ هؤلاء ويتعلموا من أخطائهم وأخطاء من سبقوهم ويوقفوا مشاريعهم السياسية الانتحارية التي تؤثر على مستقبل وجود الموارنة والمسيحيين في لبنان ويبتعدوا عن قبليتهم وعشائريتهم وصراعهم السياسي القاتل بعضهم ضد بعض فسيصلون إلى يوم لن يكون لهم وطن ولا دولة.