استراح اللبنانيون بعد تأهب دام 3 سنوات وهم يراقبون بحذر التصاعد المخيف لارتفاع سقف الدولار الأميركي والذي لم يكن فوقه “كبير” ولا ضابط لجنونه، وكان أداة طيعة وشهية بيد العواصف السياسية والاقتصادية التي هبت في البلاد. هذه العواصف لم تهدأ بالتأكيد وموعودون باشتدادها قريباً عندما تنتهي فترة السماح المعطاة للبنان لتسيير أموره بالتوافق تماشياً مع الاتفاق الأم بين ايران والسعودية. وللمفارقة جرت العادة أن نقول دائماً عند الأزمات واستحالة التلاقي على حلول، أنظروا الى العلاقة بين طهران والرياض أو بين أميركا وروسيا أو بين الولايات المتحدة والصين أو الاتفاق النووي أو انتظروا ماذا سيحل بزحل والمريخ… ليتبين في كل مرة أن العلة داخلية مهما وجدوا لها من تبريرات.
الأربعاء الكبير طوي، وعادت الاهتمامات الى الهموم الاقتصادية والعفن الذي يصيب البنية التحتية والمؤسسات، والعين على الدولار الذي يعيش زمن الدعم تماماً كما كان على الـ1500 والليرة المسندة بحجر في طريق السقوط ستتهاوى فور أن يزاح عنها، وهذا التوقع لا يحتاج الى خبراء اقتصاديين وماليين فالكل يعرف هذا الأمر وينتظر اللحظة القاتلة عندما يرفع الدعم عن الدولار ونقع في المحظور .
“شو يللي مهدي الدولار”؟ سؤال تتعدد الأجوبة عنه، فمنهم من يعزو الأمر الى أسباب سياسية وآخرون الى أسباب تتعلق بحاكم مصرف لبنان وحساباته الداخلية قبل أقل من شهرين على انتهاء ولايته والتي يسعى فيها الى عدم إحداث أي فوضى فيسلم المصرف بهدوء soft handover ويقول “من بعدي الطوفان”. اما المعطيات السياسية فتؤكد أن هناك اتفاقاً حصل مع الحاكم للمحافظة على الوضع كما هو عليه لفترة زمنية حتى بعد رحيله باعتبار أنه لم يعد أمامه سوى لبنان بعدما أصبح مطلوباً دولياً، ومن مصلحته أن يبقى لاعباً أساسياً بل وحيد بالعملة ويتحول من مطلوب للعدالة الى مطلوب للاستقرار، فينظر اليه الشعب والأحزاب كضرورة وليس كخيار ويعوّم داخلياً بحماية فكرية لدهائه النقدي وألعاب الخفة والسحر التي يمارسها في المصرف والتي يملك وحده مفاتيحها، فيتحول الى حاكم في الظل بغض النظر عمن سيتسلم بعده. هذا في السياسة، اما في العلم فإن استقرار سعر صرف الدولار يعود الى الأسباب التالية:
أولاً: لا تغييرات جوهرية حصلت منذ 4 أشهر الى اليوم في الاقتصاد وهذا يؤدي الى عامل إستقرار مؤقت طالما تضخ الدولارات عبر منصة “صيرفة” لكل الفئات وبمبالغ كبيرة (500 مليون ومليار للفرد وللشركات بحدود الـ10 مليارات) ولو مرة واحدة في الشهر لكنها تساعد في عملية الاستقرار خصوصاً أن جزءاً كبيراً من الاقتصاد مدولر، اذ أصبحت الغالبية العظمى تدفع بالدولار فلا يحتاج البائع أو صاحب المنتج الى أن يبدل العملة الوطنية بالعملة الأجنبية وهذا يخفف الضغط على الطلب بصورة كبيرة في السوق السوداء، ومعلوم أن الشركات الكبرى والمؤسسات هي أكثر من يطلب الدولار الذي يؤثر على سعر الصرف وليس الأفراد، وبالتالي الدولار يدور دورته بين المؤسسات والأفراد وأصبح المتحكم الوحيد بالليرة اللبنانية هو مصرف لبنان الذي يخرج في كل صباح من “المركزي” صناديق مملوءة بالليرة ويسلمها إلى الصرافين لشراء الدولارات من الناس التي تطلب الافادة من “صيرفة” والعملية أصبحت ضمن دائرة تتيح لـ “المركزي” التحكم بها، يبيع الدولارات للصرافين وهؤلاء بدورهم يبيعونها للأفراد وللمؤسسات وبالتالي تمويل الفرق والخسارة بين السوق السوداء و”صيرفة” والذي يتراوح ما بين 8 و10 %، يتحمله مصرف لبنان بالليرة اللبنانية وهذا ما أكده الحاكم في أكثر من اجتماع من أنه يموّل الخسارة من الليرة اللبنانية وليس من الاحتياط بالعملات الأجنبية، أي إذا اشترى الدولار بـ 95 وباعه بـ86 دولاراً يدفع الخسارة بالعملة الوطنية حسب القيمة اليومية، وتقدر الخسارة من 5 الى 10 ملايين دولار بقيمة العملة اللبنانية (لدى المصرف كم كبير من السيولة من العملة الوطنية أصبحت تقارب الـ 85 ألف مليار يحتكرها في المصرف ويضخها في السوق متى يشاء ثم يسحبها، لذلك لا داعي لطباعة عملات إضافية) وهذه العملية يمكن من خلالها السيطرة على سوق النقد ولكن الى حين وليس بصورة دائمة، فطالما يستطيع الحاكم أن يؤمن الدولارات التي يضخها على “صيرفة” يستطيع الاستمرار(مثلاً اليوم اشترى 100 مليون دولار وباع 150 مليوناً يموّل فارق الـ٥٠ مليوناً خسارة من اللعبة نفسها أو من احتياط “صيرفة”، وفي اليوم التالي يمكن أن يشتري 120 ويبيع 90 فيتقلص الفارق الى 30 وهكذا دواليك) خصوصاً أنه حدد “صيرفة” بمرة واحدة شهرياً والدفع بعد أسبوع من اتمام العملية، وهذا يؤدي الى دورة بطيئة تتيح التحكم أكثر برأس المال ما يحد من ارتفاع سعر الصرف، واذا ما أضيفت الى هذا الأمر الدولرة في الاقتصاد والتي أصبحت بنسبة 90% وتشمل كل الخدمات ما عدا ضرائب الدولة، تصبح النتيجة متوقعة.
اذاً، “صيرفة” هي الـ1500 سابقاً وطالما “شغالة” سيبقى سعر الدولار ثابتاً.
ثانياً: يعود السبب الى استخدام منصة “صيرفة” في استيفاء الرسوم الجمركية والـtva وكم كبير من رسوم الدولة.
ولكن الى متى؟
يقول مصدر حكومي لموقع “لبنان الكبير”: ان هذه الاجراءات لا يمكن أن تبقى الى أمد طويل وقد سبق وناقشنا هذا الأمر داخل الحكومة، اذ يمكن تقطيع موسم الاصطياف وما يجلب معه من دولارات فريش ولكن اذا وصلنا الى نهاية العام ولم يكن هناك من حل سياسي واقتصادي وعند استحقاق تسديد الدولة لالتزاماتها الدولارية فستنقلب الصورة ولا نسقط من الحسابات أبداً أنه اذا ما حصلت أي خضة سياسية أو أمنية غير متوقعة فسيحصل الانهيار بلمح البصر لأن وضعنا هش جداً، و”معلقون على قشة” فمجرد أن يعود مصرف لبنان والمصارف الى شراء الدولارات من السوق “العوض بسلامتكن” تصبح القفزة 150 ألفاً أسبوعياً وتفقد السيطرة على سعر الصرف، اما اذا استمرينا بالوتيرة التي نحن فيها يعني مراوحة وتحايلاً وخزعبلات وسيطرة بكلفة يتكبدها المصرف يقفل عامنا على 200 ألف ليرة للدولار.
ويشرح المصدر: نحن ندعم سلعة حالياً بخسارة، هي الدولار وهذا الأمر يتحكم فيه الحاكم، وعند انتهاء ولايته سيصبح القرار بيد خلفه واذا ما قرر فرملة هذه الخسارة ووقف دعم الليرة الذي أدى على مدى 30 عاماً الى ما نحن عليه اليوم فستفلت الأمور، وابرة البنج هذه أبلغ الحاكم المعنيين أنها لا تدوم طويلاً وعليهم البحث عن حلول سياسية واقتصادية فورية علماً أن البنك الدولي وصندوق النقد يرفضان “صيرفة” بالمطلق ويعتبرونها “سياسة تثبيت مقنعة”، وعند نفاذ الاحتياط والاستحواذ على الكمية التي تضخ في السوق تلقائياَ وفي أيام قليلة نصبح أمام سعر خيالي للدولار ولكن ليس الآن لأن الذخيرة لا تزال موجودة.
اذاً، هي مرحلة التثبيت الوهمي مدفوع الكلفة العالية التي أحدثت نوعاً من الاستقرار وهذا الاجراء مؤقت ولن يدوم طويلاً. وقد نصل الى وقت نتوسل فيه الدعاء الى هذا المهندس المالي الذي لا شبيه له في براعته، صحيح أنه يتحمل جزءاً من المسؤولية في الانهيار لكن لا شك أنه يشكل حالياً وحتى برأي معارضيه عامل استقرار ورادع لارتطام الـ system يعرف قيمة نفسه ويتدلل، يجلس خلف مكتبه يدخن السيجار، يضحك ويحدث بعقل بارد ويشرح كيف يمكن انعاش الاقتصاد وانقاذ الوضع.
بحسب معلومات “لبنان الكبير”، الاحتياط حتى 31 أيار بلغ 9 مليارات و340 مليون دولار بفارق 93 مليون دولار عن شهر نيسان مقابل ودائع تقدر بـ90 مليار دولار محجوزة وغير موجودة… و”المركزي” بصدد اصدار مجموعة تعاميم تماشياً مع المستجدات النقدية وخصوصاً تعميم الـ 151 أي الـ 15 ألفاً والذي ينتهي آخر حزيران.
في الخلاصة، نحن أمام استقرار مؤقت مدفوع الثمن، وهذا هو التوصيف الدقيق لوضع الدولار الحالي.
ليندا مشلب