كتبت صحيفة “الديار” تقول:
من الواضح أن الملف الرئاسي أصبح في حالة جمود قد تمتد إلى أشهر وحتى أكثر، بحسب بعض التقديرات. التحدّي الكبير الذي فرضته قوى المعارضة من خلال ترشيح جهاد أزعور، ومحاولة فرضه في آخر جلسة انتخابية من خلال تصويت 65 نائبًا له، والذي باء بالفشل بعد حصول أزعور على 59 صوتًا، جعل من إمكان الدعوة إلى جلسة انتخاب جديدة أمرًا غير محتمل. فالسيناريو هذا قد يتكرّر في الجلسات المستقبلية في حال لم يكن هناك من تغيير في المعطيات، إن من ناحية اتفاق شامل أو من ناحية تغيير في المرشحين.
فــ «القوات اللبنانية»، وعلى لسان النائب نزيه متّى، اتّهم الفريق الآخر بأن هدفه من الدعوة إلى الحوار هو «تخطي دور المؤسسات الدستورية وعلى رأسها مجلس النواب، في محاولة لترسيخ قبضته على مفارق السلطة»، مضيفًا «الفراغ في سدة الرئاسة يبقى… افضل بكثير من انتخاب رئيس من معجن الممانعة، يعيد انتاج عهد الرئيس السابق ميشال عون». هذا التصريح تقابله دعوات لفريق الموالاة بالحوار والتفاهم، فرئيس الهيئة الشرعية في حزب الله الشيخ محمد يزبك دعا الى «المبادرة للخروج من الفراغ الذي لم يعد يطاق، باللقاء والحوار والتفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية، حتى تنتظم المؤسسات وتمسك الدولة بزمام أمرها». بدوره اكد نائب رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله الشيخ علي دعموش ان «اي جهد لا يصب في خانة الحوار والحل الداخلي هو مضيعة للوقت، فالاعتماد على الخارج لا يحل المشكلة، بل يعمق الازمة ويزيد في الانقسام ويكشف البلد امام رغبات الخارج ومصالحه».
اذاً، ومع تمسك كل فريق بموقفه، ومع انقطاع التواصل بين «التيار الوطني الحرّ» وحزب الله، يضحي احتمال الاتفاق على رئيس بمجهود داخلي أمرًا غير ممكن.
مهمة لودريان
من هذا المنطلق، تكسب الزيارة التي سيقوم بها المبعوث الفرنسي الخاص جان ايف لودريان في الأسابيع المقبلة، حيث من المتوقّع أن يدعو إلى حوار للتفاهم على سلّة كاملة تشمل رئيسًا للجمهورية ورئيسًا للحكومة وحكومة، بالإضافة إلى التعيينات الإدارية والقضائية والمالية والعسكرية (أكثر من 60 منصبا شاغرا في الفئة الأولى!). وبالتالي، تستبعد أوساط سياسية أن يقوم رئيس مجلس النواب نبيه برّي بدعوة الهيئة العامة للمجلس لانتخاب رئيس للجمهورية، قبل عودة لودريان إلى بيروت والبحث في مقتراحاته.
وبحسب مصادر مواكبة، لا تزال باريس تدعم ترشيح رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، وأي مقترح سيتم النقاش فيه سيكون حول الشروط المطلوبة من المعارضة والتفاوض عليها، مقابل الإتيان بفرنجية رئيسًا للجمهورية. إلا أن عضو تكتل «الجمهورية القوية» نزيه متّى قطع الطريق على هذا الاقتراح بقوله «إن مثل هذا الحوار لن يُبصر النور، لأنه يختزل الدستور وآليات دستورية واضحة لانتخاب الرئيس. وهذا ما أكّده النائب غياث يزبك الذي قال في لقاء في شكّا « كفى استدراجنا إلى حوارات لا طائل تحتها».
إلا أن المعارضة بشقيها «التقليدي» و«التغييري» عالقة بين المطرقة والسدان. فتعطيل الاستحقاق الدستوري يفرض إعادة تفعيل حكومة تصريف الأعمال، وهو ما تعارضه المعارضة التقليدية، والسير بفرنجية سيحتّم تنازلات من قبلها سيجعلها شبيهة بالمعارضة القائمة على عهد الرئيس ميشال عون.
فراغات بالجملة
هذا التباعد السياسي بين الأفرقاء اللبنانيين، يُظهر إلى الواجهة المخاطر المقبلة من استحقاقين: الأول انتهاء ولاية حاكم المركزي في نهاية هذا الشهر، والثاني انتهاء ولاية قائد الجيش في كانون الثاني من العام المقبل، هذا بالإضافة إلى الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى، أي الفراغ في ثلاثة مناصب حيوية للبلاد.
ولعل الخطر الداهم يأتي من قرب نهاية ولاية حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، الذي يثير المخاوف بخصوص استمرار استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، والذي ينعم به لبنان منذ 22 آذار الماضي. فالحاكم سلامة استطاع وضع آلية نقدية سمحت بامتصاص الفائض من الليرة اللبنانية في السوق، وجعل الدولار يستقر على مستوى الـ 90 ألف ليرة لبنانية لكل دولار. وإذا كانت التوقّعات بصيف واعد يسمح بدخول الدولارات إلى لبنان من باب السياحة وعودة المغتربين اللبنانيين، إلا أن عدم مرور هذه الدولارات في القطاع المصرفي، يجعل الليرة لا تستفيد مباشرة من هذا الأمر. أضف إلى ذلك الحديث عن إلغاء منصّة صيرفة نظرًا للكلفة العالية على «المركزي»، وهو ما سيجعل مصرف لبنان عاجزا عن التدخل عند اللزوم، مما يعني فلتانا نقديا قد يدفع بالليرة إلى مستويات منخفضة تاريخيًا. من هذا المنطلق، تقول مصادر مطلعة ان الأميركيين يمارسون ضغوطات على السلطات اللبنانية، بهدف تعيين حاكم لمصرف لبنان قبل نهاية ولاية الحاكم الحالي نظرًا لحساسية الموقع.
إلغاء المنصّة بحسب الخبراء الاقتصاديين يعني تحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، وبالتالي سيعجّل هذا الأمر من انهيار الوضع الاقتصادي بشكل متسارع يصعب معه الاستمرار في الحال نفسه، مما سيفرض تنازلات من قبل السياسيين لإجراء الإصلاحات، وهو هدف صندوق النقد الدولي.
هذه المخاوف تأتي من أن حاكم المركزي المتربّع على سدّة الحاكمية منذ ثلاثة عقود، يعرف الأسواق جيدًا وهو الذي استطاع ببيان خفض قيمة الدولار في السوق السوداء من 143 ألف ليرة لبنانية في 21 آذار الماضي إلى 110 ألاف ليرة في ظرف يوم! وبالتالي، فإن رحيله وتولّي فريق جديد مهمّة الحفاظ على الثبات النقدي، يجعل احتمالات تفلّت سعر الصرف عالية. من هنا يُطرح جدّيًا في الكواليس استقالة النواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان، على أن تعمد حكومة تصريف الاعمال الى التمديد للمجلس، ريثما يتمّ تعيين حاكم ونواب حاكم جدد. ويعلّل بعض المراقبين خطوة التهديد بالاستقالة الجماعية لنواب حاكم المصرف المركزي، بأنها تذهب في هذا الاتجاه نظرًا لتأزم الوضع.
تقرير صندوق النقد الدولي
على صعيد آخر، لا يزال تقرير صندوق النقد الدولي، الذي صدر الأسبوع الماضي يثير الانقسام حوله. فمن جهة فريق وعلى رأسه نائب رئيس الحكومة، يدافع عن التقرير ويجعل منه إنذارًا للسلطة بضرورة التعجيل بالإصلاحات، ومن جهة أخرى هناك معارضون (خبراء اقتصاد بالدرجة الأولى) يعتبرون أن تقرير صندوق النقد الدولي غير دقيق على صعيد الأرقام، خصوصًا في ما يخص الدين العام الذي انخفضت قيمته أكثر بكثير مما يدّعيه تقرير صندوق النقد. أضف إلى ذلك، يعترض الخبراء على شطب الديون السيادية وديون المصرف المركزي، لأنها ستضرب ودائع المودعين في المصارف، وهو أمر حتمي نظرًا إلى أن المصارف ومصرف لبنان أقرضوا الدولة من أموال المودعين خصوصًا منذ العام 2017.
هذا الرأي واكبه قرار لمجلس شورى الدولة، الذي أبطل قرار حكومة تصريف الاعمال شطب ديونها وديون المصرف المركزي لمصلحة المصارف اللبنانية، بحكم أن الأموال هي أموال المودعين وليست أموال المصارف. وبالتالي، ظهرت تعقيدات جديدة أمام الخطّة الحكومية فرضت معطيات تتعلّق بحماية الودائع. وهنا يرى بعض الخبراء أن هناك استحالة المضي بخطّة الحكومة التي تبنّاها صندوق النقد الدولي، وهو ما يعني أمرا من اثنين: إمّا إعادة التفاوض مع صندوق النقد على خطة جديدة، واما عدم التوقيع مع صندوق النقد على برنامج إنقاذي. ويضيف هؤلاء الخبراء أن خلاص لبنان ممكن بدون توقيع برنامج مع صندوق النقد الدولي، بفضل إصلاحات جدّية ودعم الاغتراب اللبناني، وهو ما يعني شفافية مطلقة وحرب على الفساد بالدرجة الأولى.
في الختام إنها الفوضى بأحلى سماتها، فوضى سياسية ومالية ونقدية وأمنية واجتماعية تجتاح المجتمع اللبناني، تهدف إلى خدمة مصالح الأحزاب والسياسيين، في وقت يقف الشعب متروكًا لمصيره الظاهر أنه مأسوي، بحكم أن الأسوأ لم يأتِ بعد.