أسقطت الضغوط السياسية والاقتصادية العديد من العملات حول العالم في دوامة الانهيار بعدما انعكست بصورة مباشرة سلباً على أداء المصارف المركزية التي أُجبرت على اتخاذ إجراءات غير فاعلة لتتعامل مع هذا الانهيار سواء عبر زيادة الفوائد بأسلوب مفرط أو التدخل في السوق بطريقة غير مستدامة مسببة تراجع الثقة المحلية والخارجية بالعملات الوطنية وتراجعاً حاداً في قيمتها الشرائية.وفي أحدث التصنيفات حول أضعف عشر عملات حول العالم، احتلت الليرة اللبنانية المرتبة السادسة خلف الليون السيراليوني والروبية الاندونيسية، في حين جاء الريال الايراني في صدارة القائمة، وذلك وفقاً لتصنيف Forbes Advisor. الليرة اللبنانية التي تعاني انعكاسات عدة عوامل تسببت بضعف قيمتها وجعلتها من بين أضعف العملات وأسوئها في العالم حالياً، أبرزها الأزمة الاقتصادية والمالية وقلة الثقة بالنظام المصرفي اللبناني وعدم الاستقرار السياسي، إلى جانب معدلات التضخم العالية (350 في المئة خلال عام واحد) وزيادة تكاليف المعيشة وصعوبة تلبية الاحتياجات الأساسية وارتفاع أسعار السلع والخدمات وعجز الميزانية العامة الذي وصل إلى 34,184 مليار ليرة وفق مشروع ميزانية العام 2023، وتراجع الاحتياطي الإلزامي إلى ما دون عتبة الـ 10 مليارات دولار. وإلى جانب تأثيرها المباشر على النظام المالي، أثّر انهيار الليرة من 1500 ليرة مقابل الدولار إلى 93000 ألف ليرة بصورة كبيرة على الأوضاع المعيشية للبنانيين بحيث أصبحت الرواتب والمداخيل الثابتة بالعملة الوطنية غير كافية لتلبية احتياجات الأسر، التي واجهت أيضاً تراجعاً في الخدمات العامة وزيادة تكاليف المستلزمات الأساسية، الأمر الذي أدّى إلى زيادة الضغوط النفسية والاجتماعية.
ومع هذا الانهيار الشامل في الليرة الذي حوّل لبنان من سويسرا الشرق إلى زيمبابوي الشرق، أصبح تحسين قوة العملة الوطنية من أصعب التحديات، لا سيما وأن إعادة الاستقرار إليها واستعادة قوتها الشرائية يتطلب العمل بجهد على تعزيز الثقة بالاقتصاد والقضاء على العوامل التي أدّت إلى التدهور الحالي، أبرزها خفض العجز الحكومي عبر اتخاذ إجراءات حاسمة للحد من العجز وإعادة التوازن إلى الميزانية التي تحقق الاستدامة المالية وتحسين كفاءة الانفاق الحكومي، فضلاً عن استعادة الثقة باالعملة الوطنية من خلال وضع سياسات اقتصادية مستدامة وموثوقة وتطبيقها بصورة صارمة وشفافة سيكون لحاكم مصرف لبنان الجديد دور بارز فيها، ومعالجة الأزمة المصرفية والحد من معدلات التضخم العالي وتعزيز الانتاجية الاقتصادية في مختلف القطاعات وتنمية القطاع الخاص وتعزيز البيئة الاستثمارية في لبنان وتقديم الحوافز والتسهيلات للمستثمرين المحليين والأجانب لدعم النمو الاقتصادي.
في السابق، أسهمت فترات الاستقرار السياسي والاقتصادي والإيرادات السياحية والاستثمارات الأجنبية في تعزيز الليرة اللبنانية، مدفوعة بقطاع مصرفي كان على مر السنوات من أقوى القطاعات في المنطقة العربية والذي جعل من لبنان مركزاً مالياً رئيساً وقوياً قادراً على جذب العملة الصعبة التي تدعم احتياطه الأجنبي. أما اليوم، فإخراج الليرة من مأزقها يتطلب اتخاذ تدابير مناسبة من الحكومة والمصرف المركزي والعمل لمواجهة الضغوط السياسية والاقتصادية التي يعانيها لبنان واستعادة الثقة بعملته الوطنية، بما في ذلك القيام باصلاحات هيكلية يكون عنوانها الرئيس استرجاع قوة الليرة. صحيح أن لبنان لديه احتياط مرتفع من الذهب يجعله في المرتبة الثانية عربياً خلف المملكة العربية السعودية، وتبلغ قيمته بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي، 18 مليار دولار (286.8 طن)، إلا أن ذلك لا يكفي وحده لإنقاذ الليرة خصوصاً وأن الذهب ليس عملة قابلة للتداول المباشر بل وسيلة مساهمة في دعم الاستقرار في النظام المالي والنقدي. وعليه، تبقى الليرة التي تضاعف سعر صرفها من 42500 ألف ليرة إلى 92500 ألف ليرة في غضون 6 أشهر، والتي توسع حجم كتلتها النقدية في السوق إلى حوالي 135 تريليون ليرة غارقة في مستنقع من اللااستقرار في ظل أجواء من الضبابية تتحكم بمسارها في الفترة المقبلة.
هدى علاء الدين