ليست تجارة الأطفال في لبنان مستجدة، بل راجت بشكل خاص في فترة الحرب اللبنانية. ويبدو أن هذه القضية تعود إلى الواجهة اليوم في ظل الأزمة وما ترافقها من فوضى، ومن الحالات ما يخرج إلى العلن عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، ومع ازدياد الوعي في المجتمع، إذ تدفع لهفة الأسر لاحتضان طفل وتربيته عندما يحرمون من حلم الأمومة والأبوة إلى اللجوء إلى أي وسيلة ممكنة لتحقيق هذا الحلم، ولو كانت غير شرعية.
في المقابل، دفعت الأزمة كثراً إلى التخلي عن أطفالهم بسبب الضغوط المادية والاجتماعية. وقد تكررت الحوادث المماثلة التي هزت الشارع اللبناني في الأسابيع الأخيرة، لأطفال وجدوا بين النفايات، وقد تركوا من دون رحمة ولا إنسانية. فإذا بالأبوة والأمومة تمنح لأشخاص غير جديرين بهذه النعمة، في مقابل آخرين يتحرقون لأن يكون لديهم طفل. وأسهم هذا الوضع في جعل أسر تقع فريسة من لا يترددون في الاتجار بالأرواح، علماً أن الأزمات الاقتصادية أسهمت عبر التاريخ في زيادة ظاهرة التخلي عن الأطفال، مما يجعلهم أكثر عرضة لعمليات الاتجار.
اتجار بالأطفال وانتحال صفة
حصلت أحدث عمليات الاتجار بالأطفال أخيراً عبر مجموعة انتحلت صفة الأب مجدي علاوي لإتمام عمليات اتجار بالأطفال، إلا أنه استطاع أن يكشف عنها بالصدفة على أثر تلقيه اتصالاً من سيدة تسأله إذا كان تسلم الحوالة المالية حتى تتسلم الطفل. وعندما طلب منها أن ترسل له المحادثات التي بينها وبينه حول هذه العملية، تبين له أن عمليات اتجار بالأطفال تحصل، ويقوم بها أشخاص مستغلين صفته واسمه، فتقع ضحيتها أسر تشعر بالثقة لأنه المعني بالموضوع ولا تتردد في دفع مبالغ مالية لقاء الحصول على طفل، وفق ما يوضحه في حديثه مع “اندبندنت عربية”، “كان الشخص المعني قد طلب تحويل المبلغ باسمه لصالح الأب مجدي، كما تبين في الإيصال الذي أرسلته إليه. حاولت بعدها الإيقاع بهؤلاء الأشخاص عبر المشاركة في عملية وهمية مع أحدهم من خلال محادثات طلب فيها أولاً 1000 دولار أميركي، ثم 1000 دولار في اليوم الثاني لقاء تسليم الطفل في منطقة الحمرا ببيروت. بلغت القوى الأمنية، فألقت القبض عليه، لكن فوجئت بقرار المدعي العام بإطلاق سراحه في اليوم التالي من دون أن تتضح الأسباب، وعلى رغم أنه من العصابة نفسها”. حرص الأب مجدي علاوي على التأكيد عبر فيديوهات وعبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي بأنه غير معني بهذه العمليات التي تحصل بانتحال صفته، داعياً إلى الحذر، بما أن الشبكة لم تكشف بعد، معتبراً أنه من مسؤولية الدولة لكشف مثل هذه العصابات.
“قرية المحبة والسلام”
وقبل هذه الحادثة بأيام، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بقضية جمعية “قرية المحبة والسلام” التي ختمت بالشمع الأحمر بعد مخالفات فاضحة في حق القاصرين الموجودين فيها من تحرش جنسي واتجار بالأطفال، في وقت كان القضاء اللبناني يودع هذه الجمعية بعض الأطفال لحمايتهم، إلى أن فضحت عمليات الاتجار. وكانت القاضية المنفردة الجزائية جوال أبو حيدر تجري تحقيقات من فترة حول الجمعية، كما أعلنت المحامية ديان عساف في فيديو نشرته على حسابها على “إنستغرام”، وأشارت فيه إلى المخالفات الفاضحة التي ارتكبتها الجمعية ممثلة بمديرتها نورما سعيد. وكان مواطنون قد بلغوا عما يحصل داخل الجمعية حتى قررت القاضية تقصي الحقيقة. وتبين أن الجمعية التي تأسست في عام 2020 لغايات إنسانية وتنموية واجتماعية، تحصل داخلها عمليات تحرش جنسي بالقاصرات وتعنيف جسدي ومعنوي، ويدفعن إلى تعاطي المخدرات وهناك من يوجههن إلى سلوكيات منحرفة، وصولاً إلى عمليات الاتجار التي كشفت. فكانت الجمعية توهم العائلات بأن تبني الأطفال الرضع في الجمعية ممكن، من دون حاجة إلى اللجوء إلى المحكمة بما أنهم موجودون لديها بقرار من المحكمة ذاتها. وزورت المستندات الخاصة بالأطفال بالتنسيق مع مخاتير ومستشفيات، وسلمت طفلتين إلى عائلتين من دون علم المحكمة بعد أن أوهمت المحكمة بأن الطفلتين موجودتان لديها.
ومن القضايا التي أثيرت حولها ضجة أيضاً تلك التي تتعلق بجمعية “رسالة حياة”، وهي الجمعيات الدينية الموثوقة لأعمالها الخيرة ودورها في حماية الأطفال من 20 سنة. فوجئ الرأي العام باتهامات تطاول الجمعية بوجود بمخالفات بحق قاصرات كإرغامهن على مشاهدة أفلام إباحية وسوء المعاملة والتحرش الجنسي والتعنيف، وأيضاً بوجود عمليات اتجار بالأطفال. وداهمت القوى الأمنية حينها الجمعية لتنفيذ قرار قضائي بتسلم الأطفال لديها.
تزوير واستغلال للطفولة
في عام 2019 وثقت جمعية “بدائل” في مؤتمر نظمته بعنوان “التبني الدولي عبر لبنان: سيرة حرب منسية” نحو 3500 حالة تبني سجلت في لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي. وثقت نسبة اثنين في المئة منها بشكل شفاف بحيث تظهر المعلومات حول جذور الطفل بوضوح.
في المقابل، ظهرت عمليات تزوير في الغالبية العظمى من الحالات يقوم بها أفراد ينتمون إلى شبكات واسعة تتغلغل في مؤسسات عدة.
ووفق ما يوضحه مدير الحالات في جمعية “كرامة” وائل غرز الدين ثمة تزايد في حالات الاتجار بالأطفال في السنوات، ويلاحظ أنها حالياً مؤلمة أكثر من السابق. ومع تزايد عدد الجمعيات بطريقة عشوائية، أصبحت نسبة من هذه العمليات تحصل من خلالها، فتعطي نفسها الحق في إيجاد أهل للأطفال المتروكين والموجودين لديها في مقابل مادي. “اللافت في القضية الأخيرة التي أوقفت فيها المسؤولة في الجمعية والأهل بسبب عملية اتجار، أنها المرة الأولى التي تكون المواجهة بهذه الجرأة من دون أي تخوف من المحاسبة. فاكتفت المسؤولة بالتعليق بوقاحة أنها تحتاج إلى تمويل جمعية. هي فوضى مقلقة واستخفاف بالمحاسبة والقوانين والإنسانية”. ومنذ عام 2018، انطلق مشروع الأسر البديلة، بحيث أصبح الطفل المتروك يرسل إلى مؤسسات رعائية أو جمعيات بعد العودة إلى قاضي الأحداث وبإشراف المحكمة. فتقدم الأسرة البديلة طلباً وتخضع إلى تقويم دقيق وتحقيقات ومتابعة نفسية واجتماعية للتأكد ما إذا كانت مؤهلة لتربية الطفل، يمكن الموافقة عليها. فلا يمكن لمؤسسة منح الطفل لعائلة من دون الحصول على موافقة قاضي الأحداث الذي يشرف على الملف، علماً أنه بحسب قانون 482 الصادر في عام 2002 يقرر قاضي الأحداث بأن يولي عند الاقتضاء رعاية الطفل لوالديه أو أحدهما، وإذا تعثر الأمر لأسرة موثوق بها أو جمعية”.
أسهمت هذه الآلية في تنظيم الأمور إلى حد ما، فلم يعد التواصل مباشر بين الجمعية والأسر بوجود آلية تشرف عليها محكمة الأحداث. وعلى رغم ذلك، تستمر التجاوزات وتستمر بعض الجمعيات بالقيام بعمليات اتجار بالأطفال من تحت الطاولة. وبدلاً من اعتماد هذه الآلية لإيجاد طفل يمكن تربيته، تعتبر بعض الأسر المسار طويل والعملية بطيئة ومعقدة، فتفضل التوجه إلى الطرق غير الشرعية التي تحقق هدفهم بوقت أقل، وتعتمد على عمليات الاتجار بالأطفال. وتستغل مجموعات تعمل في إطار جمعيات وهمية أو شرعية، لتتقاضى منهم مبالغ مالية لقاء ذلك.
من المؤكد أن الأزمة كان لها أثر في زيادة معدلات الاتجار بالأطفال عبر زيادة معدلات الأهل غير القادرين على تربية أطفالهم، وغياب الضوابط المطلوبة للوقوف في وجههن، بحسب غرز الدين، مشيراً إلى أن الأطفال هم ضحايا الأزمة وثقافة أهلهم والنزوح، وكل ضحية تولد ضحية أخرى، علماً أن الأطفال المعنيين هم في معظمهم من غير اللبنانيين، وإن كان بينهم لبنانيون أيضاً.
وتشير الأرقام إلى تزايد مستمر في عمليات الاتجار بالأطفال، وفي كل عام تزيد النسبة على العام الذي سبق. وبوجود وسائل التواصل الاجتماعي، تنكشف القصص بمعدلات كبرى. فلم يكن أحد يعرف بهذه العمليات التي تحصل في الجمعيات، فيما تصل قصصهم اليوم إلى الناس كافة.
إجراءات اتحاد حماية الأحداث
وبحسب رئيسة اتحاد حماية الأحداث في لبنان أميرة سكر عند إيجاد طفل لا أهل له على قارعة الطريق، وهي حوادث تكررت أخيراً، يبلغ اتحاد حماية الأحداث ويعين مندوب اجتماعي وتجرى له الفحوص اللازمة بإشارة النيابة العامة التي تتواصل مع قاضي الأحداث. ويوضع الطفل في جمعية بعد خروجه من المستشفى، وتجرى زيارات متكررة إليها للتحقق من أعداد القاصرين لديها وما إذا كان مطابقاً للعدد الأصلي، ومنها زيارات مفاجئة. “أخيراً في إحدى الزيارات إلى الجمعية التي كشفت أخيراً تبين وجود طفلين ناقصين. وبعد تبليغ قاضي الأحداث والتحري بالتعاون مع مكتب الاتجار، ثبت أنها قامت بعملية اتجار وتقاضت مبلغاً مالياً مقابل هذه الطفلين. اعتقلت المسؤولة والأهل الذين حصلوا على الطفلين. ففي كثير من الأحيان، تحصل عمليات اتجار بالأطفال من خلال جمعيات تستغل طابعها الخيري والإنساني ظاهرياً ليقع الأهل الذين يتوقون إلى إيجاد طفل فريسة لها.
قد يستغل البعض الأزمة للقيام بمثل هذه العمليات مع زيادة الأطفال المتروكين، في مقابل الأهل الذين يعتبرون أن عملية اللجوء إلى برنامج الأسرة البديلة تطول، “الطلب على الأطفال موجود من عقود بوجود أسر مستعدة للقيام بأي شيء لتحقيق حلم تربية طفل في كنفها. ما اختلف حالياً، لا يرتبط بزيادة عمليات الاتجار بالأطفال، بل بكونها باتت تنكشف على الإعلام، علماً أن ما يكشف منها، ولو بدا كثيراً ليس إلا جزءاً بسيطاً مما لا يخرج للعلن. من جهة أخرى، زاد الوعي لدى الناس في ظل كل الحوادث التي تجري أخيراً. نشدد على كل أسرة ترغب في احتضان طفل، ولو تطلب ذلك مزيداً من الصبر والوقت، أن تسلك الطريق القانونية حتى لا تقع فريسة شبكات الاتجار بالأطفال، سواء عبر جمعيات أو من خلال أشخاص، وذلك من دون أي مقابل مادي. هي طريقة سهلة وآمنة لتحقيق الحلم من دون استغلال للطفل في عمليات بيع وشراء، علماً أن برنامج الأسرة البديلة لا يركز على الإمكانات المادية. وبعد فترة إذا كان دين الأسرة يسمح بذلك، يمكن متابعة إجراءات التبني بموافقة قاضي الأحداث وعبر اللجوء إلى المحكمة الروحية، وإلا فتعتبر أسرة بديلة بعد التحقق من أنها أهل لتربية الطفل”.
يعد كشف مثل هذه العمليات ممكناً إذا قام كل شخص بواجباته كاملة من ضابطة عدلية ونيابة عامة وقضاء أحداث وكافة المعنيين بوجود برنامج الأسرة البديلة عندما تحصل هذه العمليات من خلال الجمعيات، وإلا فقد يكون من الممكن الكشف عنها عبر إخبار إلى القضاء، وقد حصل ذلك مرة حين بلغت جدة الطفل على العملية، وكان من الممكن كشف عملية تجارة الأطفال كبرى، لكن ثمة شبكات كبرى تغطي الأفراد الذين يقدمون على هذه العمليات وينجزونها بشكل لا يتركون فيه مجالاً للخطأ حتى لا تكشف عملياتهم. وقد تنجز هذه العمليات الكبرى بتواطؤ مع طبيب أو قابلة أو مستشفى أحياناً ومختار، وفق ما توضحه سكر. وتضيف أنه على رغم أن هذه العمليات تحصل من عقود فإن الأرقام الدقيقة غير متوافرة لأن الإحصاءات تمزج بين عمليات استغلال الأطفال عامة، لكن ما يمكن تأكيده أن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وراء هذه الزيادة في كشفها. وتبقى قضايا كثيرة طي الكتمان لأنها مسألة دقيقة تتعلق بالأطفال.
كارين اليان ضاهر – اندبندنت