يشبه الشاعر الألماني هايريش هاينه إيمانويل كانط في كتابه نقد «العقل المحض» بروبيسير المرعب في ضآلة حجمه وجسده، قائلا: ممكن للفرد الألماني أن يغفر لروبيسير قتل الملك وبضعة آلاف من الفرنسيين، لكن كانط قتل الله، ولغم أثمن ما للاهوت من حجج وبراهين. ثم يعلل هايرش هاينة عودة مملكة الله في نقد العقل العملي، إلى أخلاقية كانط ورحمته، عندما رأى خادمه لامبي يبكي بغزارة، فنسمعه ينطق بلهجة فيها من السخرية واللطف: ينبغي أن يكون للامبي إله، وإلا فإنه لن يكون سعيدا.
المعرفة عند كانط
كانت المعرفة قبل كانط تنقسم إلى قسمين في الفلسفة: المذهب العقلاني الذي يرى أن المعرفة هي نتاج عقلي محض، من خلال أفكار فطرية وقبلية يتضمنها العقل، وبالعقل وحده يمكننا تفسير الوجود والواقع، من خلال عملية التفكير ومبادئها الرياضية التي وضعها ديكارت. ومذهب تجريبي حسي كان يرى أن المعرفة تأتي من التجربة والحواس المستنبطة من العالم الخارجي، وإن العقل مجرد أداة فقط تتأثر بالحواس وتنتج لنا المعرفة. جاء كانط ليصهر أسس المعرفة القديمة في قالب خاص، بعد أن مزج المذهبين في فلسفة مستقلة بأصولها وقواعدها العلمية والأخلاقية، فقسم العقل أو الذهن إلى ثلاث ملكات هي: (المعرفة) (الإرادة) (الحكم) وقد خصص لكل ملكة كتابا تناول كل منها في التقييم والتحليل : نقد العقل المحض، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم. إذا كان كانط، قد أقام فلسفته على حقائق لا يمكن إغفالها عند العقلانيين والتجريبيين، فإنه لم ينكر تأثره ببعض الفلاسفة التجريبيين، الذين أسقطوا العقل واهتموا بالعمليات التركيبية للذهن البشري مثل، الفيلسوف الشكاك ديفيد هيوم، وقد قال كانط بعد قراءة هيوم: «لقد أيقظني هيوم من سباتي الدوغماطيقي» فكان هيوم يرى استحالة إي معرفة بشرية خالصة حتى أنه شكك بالعلوم نفسها، وأرجع كل فكرة في الذهن إلى انطباع أولي صدرت عنه في عالم الحواس، وربط تداعي الأفكار بالتجاور والزمان والمكان، ورفض السببية باعتبارها عادة عقلية خاصة لا توجد في الأشياء ذاتها.
يرى كانط في كتابه «نقد العقل المحض» أن العقل البشري يتضمن مقولات قبلية سابقة على التجربة والحس ومن أهم هذه المقولات هي الزمان والمكان، وتكونان سابقتين لكل تجربة، فلا يمكننا تصور أي شيء، وعمل أي شيء في عالم الحس، دون أن يكون هناك امتداد للزمان والمكان في العقل، فلا توجد مادة بلا مكان، ولا يمكننا تصور أي شيء في هذا العالم بلا مكان، أي حسب كانط أن المكان يسبق المادة، وكان لهذه المقولات أساس علمي في ما بعد بنسبية إينشتاين في الزمان والمكان. حتى في ما يخص أحكام الفلاسفة على القضايا الرياضية، فإن كانط خالفهم في مبدأ هذه الأحكام، فكان الفلاسفة يطلقون على كل قضية رياضية تحليلية قبلية، أي أنها ليست مستمدة من الخبرة الحسية، ولا تعطي معرفة جديدة سوى تحليل الموضوع، وإنكارها يؤدي إلى الوقوع في التناقض وضرورتها ليست ابيستمولجية وإنما منطقية بحتة.
يقسم كانط الأحكام إلى أربعة أقسام: أحكام تحليلية قبلية، وتحليلية بعدية، وتركيبية بعدية، وتركيبية قبلية. فالأحكام التحليلية القبلية، هي الأحكام التي يتضمن محمولها تصورا لموضوعها كأن نقول «كل أعزب ليس متزوجا» أو كل جسم ممتد.
والأحكام التركيبية البعدية: هي الأحكام التي تنتج معرفة جديدة من خلال التجربة.
والأحكام التحليلية البعدية.. قد تكون شبه معدومة لأنها توقعنا في التناقض عن طريق تحليل الموضوع خارج خبراتنا الحسية.
يضيف كانط هنا حكما رابعا لم يتوصل إليه الفلاسفة وهو الحكم التركيبي القبلي، والقضية التركيبية القبلية، هي القضية التي يضيف محمولها جديدا إلى تصور موضوعها، ويكون في الوقت نفسه مستقلا عن الخبرة الحسية، وقد اعتبر كانط قضايا الرياضيات ونظريات الفيزياء التجريبية هي قضايا تركيبية قبلية. وفقا لكانط إذا كانت القضية ( 9+9) =18.. نلاحظ أن 9+9 ليست محتوى في 18، وإنما أضاف المحمول شيئا جديدا هو 18. وإننا لكي نحدد هذا العد، يجب أن نخرج من مجال التصورات إلى عالم الحدس الخالص، كأن نفترض 9 كتب أو 9 أقلام.. ففكرة العد هنا تتم في زمن يعتبره كانط العنصر التركيبي في القضية الحسابية.
يذهب كانط في نقده للعقل المحض بالتوليف بين قوانين العقل وخصائص الأشياء في عالم الحس، فهو يرى أن العالم كله انعكاس لتلك القوانين والمقولات العقلية، فنحن لا نرى من الأشياء إلا ظاهرها، أما الأشياء في ذاتها من خصائص وصفات جوهرية، وما تجري فيها من عمليات خفية، مازالت عصية على العقل، لذا رأى أن الله والعالم الميتافيزيقي هو خارج الحس ولا يمكن إدراكه بالعقل ومن هنا قسم العالم إلى قسمين..النومين والفينومين.
ما جاء به كانط هو ثورة كوبرنيكية في عالم الفلسفة، فلا يمكن فهم الفلسفة الحديثة إلا بالرجوع إلى كانط. ولا يمكن للفلسفات أن تدور إلا في الفلك الكانطي، مستمدة شعاعها وديمومتها من هذا اللهيب المتقد في الفضاء الواسع.
القانون الأخلاقي والخير الأسمى
ربما لم تعرف قصة الفلسفة حياة منضبطة وصارمة أخلاقيا كحياة الفيلسوف الألماني كانط، فمنذ ولادته في مدينة كونيغسبرغ في مملكة بروسيا عام 1724 حتى وفاته في المدينة نفسها عام 1804 لم يغادر كانط مدينته أبدا ، ولم ير في حياته جبلا أو بحرا وظل ملتزما التزاما نمطيا في تقسيم وقته منذ استيقاظه في الثامنة صباحا وحتى نومه في العاشرة مساء بجدول أعمال يومي، رافقه طيلة حياته حتى أن سكان المدينة كانوا يضبطون ساعاتهم على مواعيد خروج كانط للعمل أو للتنزه، وكان كانط محبا للعزلة وقليل الكلام، ولم يكن يحب التغيير أبدا في كل شيء، حتى في ما يخص بيته وأثاثه، وكان تغيير أي شيء بالنسبة له ولو كان بسيطا جدا يشعره بالكدر وعدم الأستقرار، رغم ذلك كان محط إعجاب وحب معظم أهل المدينة. ومن هذه المدينة النائية التي صارت بمثابة زنزانة اختيارية لكانط، سيكتب هذا الفيلسوف الصامت إرثا فلسفيا وعلميا، مازال إلى يومنا هذا موضعا للدراسة والبحث المتجدد.
ما جاء به كانط هو ثورة كوبرنيكية في عالم الفلسفة، فلا يمكن فهم الفلسفة الحديثة إلا بالرجوع إلى كانط. ولا يمكن للفلسفات أن تدور إلا في الفلك الكانطي، مستمدة شعاعها وديمومتها من هذا اللهيب المتقد في الفضاء الواسع. في 1788 أراد كانط لفلسفته أن تخرج إلى ميدان العمل في كتابه «نقد العقل العملي» الذي يبرهن فيه عن طريق مجموعة من المسلمات على إمكانية تعيين الإرادة من قبل القانون الأخلاقي، وتكون سببيتها الحرية، أي أن القانون الأخلاقي وحده ما يجعل الإرادة حرة، فهو يتسامى فوق كل شيء حسي. وينطلق كانط مثلما انطلق في كتابه «نقد العقل المحض» من معرفة قبلية يسميها «الخير الأسمى» ويكون هذا الخير معطى للإرادة بصورة قبلية.
والإرادة الحرة هي إرادة خيرة في ذاتها، خيرا غير مشروط، وهي ليست رغبة في الخير، وإنما منبع كل فضيلة وسعادة لا تستمدان من الرغبة، لذا فالعقل الذي يعين هذه الإرادة ينطلق من داخل ذاته، ولا يعتمد على الحواس، ليصبح الفعل الأخلاقي هنا غاية في ذاته، ومنزها عن كل غرض أو منفعة، وليست له علة خارجة عنه، حتى إذا كانت السعادة الشخصية غاية في حد ذاتها في الفعل الأخلاقي، فإنها تتعارض وشروط القانون الأخلاقي، إذن القيمة الأخلاقية لكل فعل يجب أن تكون خالصة من كل غاية ومنفعة، لأن القانون الأخلاقي هو الذي يحدد رغبتنا في السعادة بشروط صارمة فحسب كانط يختلف مبدأ السعادة والفضيلة عن المذهب الأبيقوري، الذي جعل السعادة غاية كل إنسان، إن كانت هذه السعادة نابعة من الفضيلة أو من الحواس، لكن السعادة عند كانط مرتبطة بالواجب الذي يحدده القانون الأخلاقي، والعمل يكون انطلاقا من الواجب، لا وفقا له، فالعمل وفقا للواجب يعني تبعية الإرادة وعبوديتها. إذن فالسؤال الأخلاقي عند كانط في نقده للعقل العملي هو، كيف ينبغي أن نكون جديرين بالسعادة؟ لا كيف أن نجعل أنفسنــا سعداء؟ يرى كانط أن الأخلاق هي التي تؤسس للميتافــــيزيقـــيا، وليس العكس؛ لأن الغاية الأخلاقية في ذاتها والمتسامية فوق كل شيء لا تتحق إلا من خلال مســـلمات تفترض وجود الله وخلود النفس والحرية، ثم تســــامي الإنسان ليصل إلى مرتبة الله الكامل أخلاقيا، فالإله الذي يفترض وجوده كانط هنا، هو مسلمة أخلاقية خالصة، ولا علاقة لها بالإله الخالق للكون والإنسان، أو بوجود ما ورائي خلف عالم الحس والظواهر. كانت الفلسفة بالنسبة لكانط نمط عيش وطريقة في التفكير، ومثلما شيد كانط جدارا راسخا من العزلة حول حياته؛ فإنه جعل للفلسفة حصنا منيعا، وغير قابل للاختراق.
توفي كانط في 12 فبراير/شباط عام 1804، وقد نقشت على شاهدة قبره عبارته الشهيرة المقتبسة من كتاب «نقد العقل العملي» شيئان كلما تأملنا فيهما بإمعان، يملآن الذهن بأعجاب ورعب متزايدين، إنهما السماوات المرصعة بالكوكب من فوقنا، والقانون الأخلاقي في داخلنا.
٭ كاتب عراقي
المصدر : القدس العربي