لم يتفاجأ “حزب الله” عندما تناهى الى علمه ان السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا حملت اول من امس الى رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي إنذارا للحزب بألّا يتورط في أيّ مغامرة على الحدود الجنوبية تفضي الى فتح ابواب مواجهات واسعة هناك ينفلت فيها حبل الامور الى حدّ الخروج عن نطاق التحكم والسيطرة.
فمن المؤكد انه ليس الانذار الاول من نوعه، لكن الحزب يقر بانه الاكثر حسماً وجزماً من انذارات سابقة متتالية، اذ سبقته انذارات مكتومة أتت على شكل نصائح وتمنيات اولاً ثم ارتقت لتمسي تحذيرات مبطنة ولتستقر في نهاية المطاف على صورة انذار قطعي مقرون بدعوات مباشرة للجيش ولقوة “اليونيفيل” ليؤديا دورهما في مواجهة الحزب على الحدود وردعه عن أيّ فعل.
والمفارقة في المشهد المتوتر ان ثمة مَن ينقل ان نبرة السفيرة شيا في الآونة الاخيرة توحي بان الامور بلغت عند ادارتها مبلغا من التأزيم والاحتدام لم يعد يحتمل هذا القدر من اللغة المرنة والليّنة، بل إن الامر يحتاج الى جرعة اكبر من الخشونة والصلابة، خصوصا ان ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن قد حسمت خياراتها نحو تقديم كل أشكال الدعم المكشوف واللامتناهي لاسرائيل.
ومع ذلك كله، كان في طوايا كلام السفيرة شيا ما يوحي بان ثمة فرصة ما زالت سانحة “لكي تتعقل القوة الجامحة، وتعدل عن المضي في المشاركة في المغامرات المجنونة التي تضطلع بها حركة حماس الارهابية، وتمنع نفسها من الانزلاق نحو تفجير الاوضاع على الحدود الجنوبية التي لن تكون نتائجه إلا كارثية على لبنان”.
كان بديهيا ومنتظرا ان لا يتفاجأ الحزب بما حملته السفيرة شيا الى عين التينة والسرايا الحكومية، اذ ان الرسالة تزامنت مع الاطلالة الاعلامية للرئيس الاميركي والتي تمحورت فقط حول الوضع في غزة وحول تأييد اي خيار تلجأ اليه تل ابيب هناك، حتى وان كان اجتياح المدينة وقطاعها برياً، بقطع النظر عن مخاطر مثل هذا الفعل على الاهالي المحاصرين.
فضلاً عن ذلك، الاكيد ان الحزب يعرف ان الادارة الاميركية تدرك تماما انه لاعب اساسي في المشهد الملتهب في المنطقة، وتعرف استتباعا ان حياده أو ولوجه الميدان له تأثير على مجرى التطورات ومآلات الحرب. ومن البديهي ايضا ان الحزب بموقعه المحوري في “محور المقاومة” كان على بيّنة من ان شيا سوف لن تتأخر في حمل الانذار الذي حملته في الساعات الماضية الى كل من بري وميقاتي وذلك بناء على تطورين اثنين:
الاول هو المدى الذي يمكن ان يبلغه مسار المواجهات الدائرة منذ نحو خمسة ايام في غزة و”غلافها “والذي هوعبارة عن مجموعة مستوطنات. فلا شك في ان دوائر القرار في الحزب صارت تقيم على تقدير مؤداه ان امكان ان تشرع القوات الاسرائيلية في تنفيذ اجتياح برّي لغزة خلال الساعات او الايام القليلة المقبلة صار احتمالا واردا بنسبة تتعدى الستين بل الثمانين بالمئة لان الضربات القاصمة التي تلقتها اسرائيل منذ صبيحة السبت الماضي قد عطلت امامها كل الخيارات إلا خيار الاجتياح البري سبيلاً لاستعادة بعض ما فقدته من هيبة وقدرة ردع كات دائما احدى ابرز سمات التفوق عندها.
ولعل عقدة الخوف الكامنة في الوجدان الاسرائيلي، تشكل نقطة ارتكاز وعنصر استقواء ينطلق منها اعداؤها ليمارسوا ضغوطا متنوعة عليها ويستندون اليها كعنصر تحفيز لهم للمضي قدماً نحو هدف ما غادرهم يوما وهو تدمير اسرائيل.
وبناء عليه، تتعزز حسابات “حزب الله” في ان تتطور الامور ليصير المُراد من مسألة الاجتياح البري لغزة انهاء حركة “حماس” وتحويل غزة وقطاعها الى ارض خلاء. ومعلوم انه سبق للحزب ان اعلن مرارا ان اي خيار من هذا النوع لن يبقيه مكتوفا او على الحياد بل سيصير والحال هذه في حِلّ من اي التزام آخر.
الثاني ان الحزب الذي وضع نفسه كشريك مباشر وغير مباشر في معركة “طوفان الاقصى” يمضي قدماً في هذا النهج وفي تنفيذ الالتزامات التي تعهّد بها، وهو يبلغ الى متصلين به انه بناء عليه أعدّ العدة اللازمة لكي يثبت انه عند تعهداته وانه لا يخلف الميعاد كما كان دوما. والامر المستجد في هذا السياق ان الحزب يتعامل مع المعركة الدائرة فصولها حاليا على انها “أم المعارك” التي وعد نفسه وقاعدته بها مع الاسرائيليين منذ ان نشأ وتدرّج. ولأن الحزب يعرف ان الاسرائيلي ومَن أيّده ينطلقون من فرضية ان ليس من مصلحتهم القيام بحرب خارج الحدود لاستعادة المعنويات المهدورة، لذا فان الاسرائيلي بات يستجدي اميركا وفرنسا ودولاً اخرى عربية كي ينأى الحزب بنفسه عن المشاركة في المواجهات الدائرة في غزة. ووفق العميد المتقاعد الدكتور امين حطيط، فان “الحزب يعتمد هذه الواقعة نقطة قوة يرتكز اليها ليمضي في رحلة المشاركة في المواجهة من خلال الآتي: التنسيق الدائم مع حركة حماس والفصائل المشاركة عبرغرفة عمليات مشتركة او بطرق أخرى”، وان الحزب كما يقول احد نوابه ابرهيم الموسوي “له ملء الثقة بالادارة الرشيدة والمجرّبة التي تدير المواجهات ميدانيا وسياسيا، فهي عنده قيادة سبق لها ان خاضت غمارات مماثلة ومرت بتجارب صعبة، لذا فهي ليست من النوع الذي يجزع او يخشى او يتراجع، فهي تنطبق عليها صفة القوة ذات البأس الشديد”.
لذا فان الحزب على ثقة بان “حماس” قد حسبت حسابا لكل الاحتمالات بما فيها احتمال الاجتياح البري، وهو واثق بان هذه القيادة تخبىء المفاجآت الكبرى على غرار مفاجأة السبت الماضي.
ثم ان الحزب في نظر عدد من قيادييه يعتبر ان الامور في بقعة العمليات التي يتحكم بها في المنطقة الحدودية قد سارت وفق تصوراته وخططه، وهو نجح في امرين: الاول ان احدا لم ينزع منه اي تعهد بالبقاء على الحياد مُبلغا كل من راجعه انه لن يكون حارس حدود لاسرائيل. وهو ايضا قدّم خلال الايام الخمسة الماضية نموذجا راقيا في التصرف بموضوعية في ميدانه المتاح والتي انتهت بدخوله مباشرة على الخط. وعموما يعتبر الحزب انه نجح في إشعار الاسرائيليين ومَن والاهم بانه يمسك بزمام الامور على نحو يبعث الخشية والقلق في نفوس الإسرائيليين.
ولا يكتم الحزب ايضا ان في جعبته الكثير من المفاجآت الميدانية اذا ما سارت الامور نحو مزيد من الاحتدام في غزة، ومنها مفاجأة الجبهة السورية التي يمكن ان تنقلب الامور فيها رأسا على عقب.
ابراهيم بيرم – النهار