كتبت باتريسيا جلاد في نداء الوطن: من الآن فصاعداً، إحذروا صداع الرأس لأن مسكّن البنادول مفقود، واحذروا التوتّر ومضاعفات القلب لأن بعض أدوية الضغط والقلب غير متوفّرة…، واحذروا الـ”كريب” من خلال تناول الفيتامينات والفواكه لأن لقاح الإنفلونزا الموسمي غير موجود سوى لكبار السنّ والصغار والحوامل، ويتطلب الحصول عليه معاملة وإبراز الهويّة والحجز مسبقاً. وتفادوا تناول الدجاج والبيض لأنه بدوره غير موجود في كل المحال، “إنت وحظّك”. وحدّث بلا حرج عن منتوجات غير متواجدة في سوق الإستهلاك المحلي. ما السبب؟
يعزو بعض التجار تفشّي جائحة فقدان الأدوية وسائر المواد الغذائية الضرورية، الى تقنين الكميّة الموزّعة في ظلّ الحديث عن رفع الدعم أو ترشيده كما يقال، ما سيرفع الفاتورة من الموزّع، وهكذا يرضى المواطن في ما بعد بتضخّم السعر ولا يرضى بفقدانه بعد أن تذوّق مرارة “الحرمان”… فيما يرمي البعض الآخر الكرة في ملعب مصرف لبنان الذي يتأخّر في فتح الإعتمادات، ويعتكف البعض عن التصدير بسبب شحّ النقد الأجنبي…وهكذا.
بالنسبة الى منتجات الدجاج ومشتقاتها، فقدت من السوق منذ أسبوعين أي بعد فترة من صدور لائحة الأسعار عن وزارتي الإقتصاد والزراعة والتي حدّدت فيها تسعيرة المنتجات المدعومة بأسعار اعتبرها التجار بالمتدنية، فأحجموا عن تسليم الدجاج والبيض المدعوم الى الأسواق، بهدف بيعها بسعر مرتفع على اساس أنها بضاعة غير مدعومة. حتى أنه بات إيجاد صدر دجاج أو فروج بالأمر النادر والصعب ويرسم الإبتسامة على وجه المستهلك الذي يشكر ربّه على تلك النعمة.
“تعليل الزراعة”
اذاً المنتجات ليست مفقودة ولكن مقنّنة، وفي هذا السياق كان لوزير الزراعة عباس مرتضى خلال حديثه مع “نداء الوطن” تعليل زمني تسلسلي آخر، اذ أكّد أن “جائحة” كورونا فرضت معادلة جديدة قوامها الحدّ من استهلاك الفروج والبيض بسبب إقفال الحدود البريّة مع الدول العربية والمطاعم والمرافق السياحية خلال أشهر نيسان، أيار وحزيران. فأصيب المزارع اللبناني بكارثة نتيجة ذلك اذ زاد المعروض مقابل الطلب، وارتفع سعر صرف الدولار أمام الليرة اللبنانية، ما دفعه الى خفض الإنتاج”.
الصوص على سبيل المثال كي يصبح فرّوجاً يستغرق فترة 70 يوماً، علماً أنه لا يمكن إبقاؤه لفترة أطول من دون ذبحه قبل أن يتمّ وضعه بمتناول المستهلك، الأمر الذي دفع بمربّي الدواجن الى خفض الإنتاج.
وفي ما يتعلق بالبيض المفقود بدوره، يوضح مرتضى أن “وقف التصدير أدّى الى زيادة العرض عن الطلب، فتمّ خفض الإنتاج، علماً أن لبنان كان في “أيام زمان” بلداً مصدّراً لتلك المادة الغذائية”. مضيفاً أنه “خلال شهري آب وأيلول عادت الحياة الى طبيعتها في البلاد، ففتحت المطاعم أبوابها، واستعاد المطار حركته ولو بخجل سياحياً وبشكل جيد بالنسبة الى المغتربين، ما يبشّر بأن الحياة تعود رويداً رويداً الى سابق عهدها”. ويشدّد على أنه “خلال شهر أيلول كانت الحياة عادية، مع استعادة حركة الأفراح والحفلات، فنشطت المطاعم ما عجّل حركة الإستهلاك التي عادت بدورها الى الواجهة. هذا الأمر دفع بالمنتجين الى إجراء بعض التعديلات لتلبية حاجات السوق من خلال زيادة الإنتاج”.
لذلك يكشف مرتضى عن سعيه بالتنسيق مع المنتجين والمربين وجمعية دواجن لبنان، للتأقلم مع المتغيّرات ليعود عمل قطاع الدواجن الى طبيعته وزيادة الإنتاج لتلبية الطلب الذي ارتفع مجدداً، فتستقرّ الأسواق ونصل الى مرحلة لا يحقّق فيها مربو الدواجن والتجار أية خسائر ولا يحقّقون الربح الكثير”. مذكّراً يوم كان المزارع ومربو الدواجن يئنّون من زيادة المعروض، كنّا وقتها ندعو المستهلكين لتناول الدجاج دعماً للمنتج المحلّي”. وفي ما يتعلق بعدم رضى مربي الدواجن والتجار على التسعيرة الصادرة عن وزارة الإقتصاد بالتعاون مع وزارة الزراعة والمعنيين والتي يعتبرونها منخفضة جداً، رغم ان الكلفة التشغيلية لا تزال نفسها للمربين، يقول مرتضى إن “تلك الكلفة والتي هي عبارة عن تكاليف المياه وتجهيز المزرعة ورواتب الأجراء تشكّل 24% من نسبة الإنتاج، أما العلف والأسمدة… فتتعلق بالدولار ولو كان مدعوماً على سعر 3900 ليرة”.
مشاكل المستوردين
والفروج والبيض المدعومان ضمن السلّة الغذائية، ليسا هما المادة الوحيدة المفقودة من المحال والسوبرماركات، بل هناك منتوجات اخرى وعديدة لم نعد نجدها على الرفوف رغم أنها مدعومة.
ويعزو التجار هذا الأمر الى عدم إقدام المستوردين على استيرادها بسبب اضطرارهم الى تسديد قيمة الشحنة نقداً فور فتح الإعتمادات، وحول ذلك يوضح رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية في لبنان هاني بحصلي لـ”نداء الوطن” أن ذلك يعود الى الصعوبات التي يواجهها المستورد اذ عليه أن يدفع كل شحنة ثلاث مرات قبل أن تصل اليه علماً أن “الشحنات المستوردة من الصين تستغرق فترة ثلاثة أشهر لتصل الى لبنان، فضلاً عن أنه اليوم وفي ظلّ الحديث عن رفع الدعم من مصرف لبنان، يقف التاجر حائراً حول إقدامه على استيراد تلك البضائع أو التروّي”.
ويعرض بحصلي لآلية الإستيراد والصعوبات التي يواجهها التاجر كما يلي: ان فتح اعتماد بقيمة 100 ألف دولار لشحنة أرز من الصين تعادل 800 مليون ليرة وفق سعر صرف الدولار في السوق السوداء وبسعر 390 مليون ليرة وفق سعر الصرف المحدد لمنتوجات السلة الغذائية للدولار الواحد وهو 3900 ليرة، يتطلب توفير الـ 100 ألف دولار نقداً للمصرف مسبقاً بغية تحويلها fresh money للمصدّرين وفق سعر الصرف في السوق أي ضعف السعر المدعوم قبل عملية الشحن.
ثم يودع التاجر لدى مصرف لبنان قيمة المبلغ وفقاً لسعر الدعم أي 390 مليون ليرة. وبذلك يكون قد دفع قيمة الشحنة 3 مرات قبل أن يعيد مصرف لبنان بعد شهر ونصف أو شهرين قيمة الشحنة لصاحب الإعتماد البالغة 100 ألف دولار، ما يحول دون تمكّن كل التجّار من الإستيراد من الخارج وتسديد قيمة كل شحنة 3 مرات.
ولا تنتهي عملية فتح الإعتماد أو استقدام شحنة من البضائع من الخارج عند هذا الحدّ، بل تتطلب عملية الإستيراد توقيع المستورد تعهدات لوزارة الإقتصاد يحدّد فيها “سعر المبيع والتزامه به”. وفي ما يتعلق بهوامش الأسعار التي تضعها “الإقتصاد” اعتبر بحصلي أنها “ليست واقعية ولا تسمح للتاجر بتغطية مصروفه”.
الى ذلك منعت الوزارة المستوردين من تسليم البضائع لتجار الجملة وذلك للتأكّد من أن المنتجات تباع استناداً الى السعر المدعوم. ووفق تلك المعادلة لا يمكن للتاجر المستورد أن يوزّع المنتوجات الى المناطق البعيدة مثل عكار وسير الضنيّة…، فذلك يتطلب منه استقدام “بيك آبات” وسائقين الأمر الذي لا يمكن تحمّله لذلك لا تتواجد تلك المنتوجات المدعومة في المناطق البعيدة”.
ويشدّد بحصلي على “ضرورة إعادة النظر بمنتوجات السلّة الغذائية المدعومة التي تتضمّن 300 صنف غذائي وتقليصها، مشيراً الى ان نسبة 80% من الأصناف هي عبارة عن مواد اولية مخصصة للصناعة من علف وأدوية زراعية وحليب بودرة…، لا تصل مباشرة الى المستهلك، من هنا اصبح هناك لغط حول مواد تلك السلّة والتي تتحمّل مسؤوليتها وزارات الإقتصاد والصناعة والزراعة”.
فاذا تمّ دعم الأدوية الزراعية على سبيل المثال، كيف سينعكس ذلك على سعر المنتوج النهائي؟ من هنا يقول “تتطلب عملية الدعم دراسة أكثر وتحديد التفاصيل الأساسية. الأمر نفسه ينطبق على دعم البقر الحلوب مثلاً، اذ كيف سيترجم ذلك الدعم عندما يباع الحليب بالليتر ويصل الى رفوف السوبرماركت، يستغرق الأمر فترة عام كامل. من هنا الدعم لا يمكن أن يبدأ في شهر حزيران وينتهي بعد اشهر معدودة، اذ يستغرق لدى الدول التي اعتمدته أعواماً ليسير على الخطّ الصحيح ويجدي نفعاً.
وعن رفع الأسعار من قبل التجار فور ارتفاع الدولار ووفق سعر السوق، علماً أن الكلفة التشغيلية تحتسب وفق السعر الرسمي اي الـ1500 ليرة، يقول بحصلي إن “المنتج يحتسب عادة وفق سعر صرف الدولار في السوق السوداء للبضائع المستوردة من الخارج على أن تبقى الكلفة التشغيلية وضمنها الرسم الجمركي البالغ 30%على اساس سعر الـ1515 ليرة”، مؤكّداً التزامهم عادة بتلك الآلية لكن طبعاً هناك تجاوزات.
الدواء مقنّن
أما على صعيد فقدان الدواء من الصيدليات، فأكّد أحد الصيادلة لـ”نداء الوطن” أن “الدواء ليس مفقوداً بل مقنّناً ومحجوزاً لدى الموزعين في ظلّ الحديث عن رفع الدعم وزيادة الأسعار”. أما نقيب الصيادلة فسبق أن أكّد في تصريحات سابقة أن “السبب الأساسي وراء نفاد بعض الأدوية من الصيدليات، هو الأزمة السياسية وتداعياتها على الدولار، فضلاً عن تأخّر مصرف لبنان بالموافقة على فواتير الدواء لتأمين الدولار لاستيراده بسعر الصرف الرسمي، وتهافت اللبنانيين على زيادة شراء الدواء وتخزينه، بعدما أشيع قبلاً عن أن مصرف لبنان سيتوجه لرفع الدعم عن السلع الأساسية ومنها الدواء.
اذاً تعدّدت أسباب نفاد أو فقدان مواد كثيرة من الأسواق، الأمر الذي كان متوقّعاً منذ أشهر سابقة بسبب ارتفاع سعر الدولار وصعوبة الإستيراد من الخارج وتأمين الدولار الكاش قبل أي طلبية للشحن. والوضع نحو الأسوأ ونحو الجوع اذا ما استمرّت التعقيدات السياسية على حالها في البلاد، من دون أن ننسى جائحة “كورونا” التي تتفشّى أكثر فأكثر لدرجة أنها ستخرج عن السيطرة قريباً.