لطالما دفع اللبنانيون حياتهم ثمناً للفاتورة الصحية يوم كانت “الليرة بخير”، فلا عجب من الحال بعدما تدهورت الليرة وتضاعفت كلفة الاستشفاء، على الرغم من دعم المصرف المركزي للدواء والمستلزمات الطبية، الذي بات من المؤكد أن رفعه ليس سوى مسألة وقت فقط في ظل تآكل احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية وغياب أي خطة بديلة. ولسخرية القدر يخوض القطاع الصحي حرباً تبدو خاسرة مع جائحة كورونا بغياب الأسلحة، ليصبح الموت على أبواب المستشفيات قدراً محتوماً.
في الوقت الذي أعلن فيه وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن أن “زيادة تعرفة المستشفيات ليست مطروحة وكذلك رفع سعر الدواء”، كانت زيادة الكلفة الإستشفائية بالنسبة للمرضى، ولا سيما أولئك الذين يحتاجون إلى المغروزات، قد أصبحت أمراً واقعاً. فمصرف لبنان يدعم إستيراد المستلزمات الطبية على سعر صرف الدولار الرسمي بنسبة 85 في المئة، فيما يدفع مستوردو هذه المستلزمات نسبة الـ 15 بالمئة المتبقية على سعر صرف السوق الموازية. وبعملية حسابية صغيرة يظهر أن كلفة الـ 15 بالمئة، التي يتكبدها المريض في نهاية المطاف، تساوي كلفة الـ 85 بالمئة التي يدعمها المركزي. بعض المستشفيات رفعت أسعار الخدمات الاستشفائية الأخرى أيضاً. “نسبة الإرتفاع تتراوح من 10 إلى 50 في المئة، إلا أنها أقل بكثير من نسبة التضخم وبالتالي لا تغطي العجز”، يقول سامي رزق المدير التنفيذي للمركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية – مستشفى رزق. “فارتفاع الأكلاف أوجب رفع الأسعار ولو بشكل متفاوت”، يضيف رزق. فكلفة الطعام ارتفعت 50 في المئة. كذلك ارتفع سعر قطع الغيار للمعدات الطبية، حيث يتم احتساب الكلفة على سعر صرف الدولار في السوق السوداء. كما ارتفعت أسعار المستلزمات الطبية، في حين أن الدواء حافظ على سعره، حتى الآن، كونه مدعوماً من مصرف لبنان. أكثر المتأثرين بهذه الزيادة هم المرضى الذين يدفعون كلفة العلاج من جيبهم الخاص. “انخفضت نسبة هؤلاء المرضى من 30 إلى ثلاثة في المئة من إجمالي المرضى بعد الأزمات المتلاحقة”، وفقاً لرزق.
قرار رفع التعرفة مؤجل
لا قرار برفع تعرفة الخدمات الاستشفائية في المستشفيات في الوقت الراهن، بحسب سليمان هارون، نقيب المستشفيات الخاصة. ويقول: “الموضوع أعطي أكثر من حجمه”. فقرار المركز الطبي في الجامعة الأميركية باحتساب تعرفة الإستشفاء على سعر 3900 للدولار الواحد هو ما دفع بهذه الإشكالية إلى الواجهة. التسعيرة الجديدة تسري على المرضى الذين يدفعون الفاتورة الإستشفائية من جيبهم الخاص فقط ولا تشمل المرضى الذين تغطي الجهات الضامنة أو وزارة الصحة نفقاتهم الإستشفائية. “فالمستشفيات ترتبط بعقود مع شركات التأمين والضمان الإجتماعي ووزارة الصحة، ولن تستطيع تغيير أي شرط قبل حلول آجال هذه العقود”، يقول رزق.
هذا لا يعني أن المرضى الذين لديهم جهات ضامنة لم يتأثروا بزيادة الأسعار ولو لم ترتفع التعرفة بشكل رسمي. فالمريض الذي يتلقى علاجه على نفقة وزارة الصحة او الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي يدفع فارق الفاتورة من جيبه الخاص. تسعى المستشفيات وعبر مفاوضات مع الجهات الضامنة لتعديل تعرفة الخدمات الاستشفائية رسمياً نظراً لارتفاع الأكلاف. “الوزارة والجهات الضامنة الرسمية غير قادرة على تمويل هذه الزيادة”، يقول هارون. لا سيما أن للمستشفيات مستحقات لدى هذه الجهات. ففي حين أعلنت وزارة المال أنها دفعت مبلغ 213 مليار ليرة لبنانية كمستحقات للمستشفيات الخاصة والحكومية في العام 2020 وليس لديها أي مستحقات إضافية، يقول هارون إن للمستشفيات الخاصة مستحقات بقيمة 700 مليار ليرة لهذا العام، “الأمر الذي يضع استمرارية المستشفيات على المحك، علماً أن المستحقات المتراكمة خسرت 80 في المئة من قيمتها بسبب التضخم”، بحسب هارون. أما الضمان الإجتماعي، ووفقاً لما أعلنه المدير العام محمد كركي، فهو غير قادر على الاعتراف بتعرفة المستشفيات على سعر 3900 للدولار الواحد، كون ذلك يعني رفع التقديمات الصحية التي يدفعها الصندوق من 1200 مليار ليرة إلى 2500 مليار ليرة. وكذلك سترتفع فاتورة الدواء التي يدفعها الضمان من نحو 500 مليار ليرة سنوياً حالياً إلى ثلاثة آلاف مليار ليرة في حال رفع الدعم.
تعرفة الأطباء
أما التعرفة الخاصة بالأطباء فقد ارتفعت بشكل متفاوت أيضاً، وفقاً لرئيس نقابة الأطباء في بيروت شرف أبو شرف. فعلى سبيل المثال، رفع مستشفى الروم تعرفة الطبيب من 75 ألف ليرة أي ما يعادل الـ 50 دولاراً أميركياً إلى 150 ألف ليرة أي ما يعادل 15 دولاراً، وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق الموازية. “رفعت المستشفيات الجامعية تعرفة الأطباء بشكل رسمي في حين عمدت المستشفيات الأخرى إلى رفع التعرفة بشكل غير رسمي”، يقول أبو شرف. ويضيف أن “هذه التعرفة لم تتغير بالنسبة للجهات الضامنة فالمريض يدفع الفارق من جيبه الخاص. هذه الزيادة لا توازي التضخم الحاصل، ما يُنذر بموجة هجرة للأطباء وبالتالي تدني نوعية الخدمات الصحية”.
رفع الدعم
الحديث عن رفع الدعم عن الدواء والمستلزمات الطبية بحلول آخر العام كان كفيلاً بإثارة الذعر بين المواطنين الذين تهافتوا لتخزين الدواء، بعد نفاد بعض الأصناف من السوق. وأول الغيث قرار المصرف المركزي برفع الدعم عن المعقمات التي تستخدمها المستشفيات في “عز تفشي جائحة كورونا”. تصف سلمى عاصي رئيسة نقابة مستوردي المستلزمات الطبيّة قرارات المركزي بـ”الغير المدروسة”. “فهي تُتخذ من دون التنسيق مع المستوردين في ظل غياب أي خطة واضحة لآلية الدعم”. فالمستورد يشتري المستلزمات ويبيعها محتسباً 85 بالمئة من الكلفة على سعر الصرف الرسمي للدولار وينتظر إسترداد الأموال من المركزي.
كورونا
كما تشكي المستشفيات انقطاع الأدوية المُستخدمة لعلاج مرضى كورونا. يقول رزق: “إذا توقفت وزارة الصحة عن تأمين هذه الأدوية لأسباب مجهولة، نضطر لتأمينها من السوق المصرية او العراقية”. ففي وقت ترتفع أعداد المصابين لم يتبقّ سوى 400 سرير متاح لمرضى كورونا، مئة منها فقط للعناية المركزة. وتعجز المستشفيات عن زيادة عدد الأسرّة أو استحداث وحدات لعلاج هؤلاء المرضى نظراً للكلفة المرتفعة ونقص السيولة.
لا يخفي هارون تشاؤمه لما ستؤول إليه الأحوال في المرحلة القادمة “فالدولة عاجزة، والأمل الوحيد هو إيجاد حل سياسي وتشكيل حكومة تمهيداً للحصول على الدعم الخارجي”، يختم هارون.
غلبت وتيرة الأزمات التي تلاحق اللبنانيين كـcovid-19، بسرعة التفشي، ليُضاف الإستشفاء إلى قائمة ما يُحيله اللبناني إلى العناية الإلهية.
نداء الوطن