مجدَّداً يبحر ابن مدينة صور، الروائي اللبناني محمد طرزي، ويسبر الأغوار، محاكياً ماجلان في أسلوبه، وابن بطوطة في شغفه بالاستكشاف، وكريستوف كولومبوس في التغلغل وصولاً إلى خبايا التاريخ والجغرافيا. فبعد روايتيه “جزر القرنفل” و”افريقيا، أناس ليسوا مثلنا” جاءت “ماليندي” لتؤكد عبقرية هذا الكاتب الشاب.
تخاله يكتب متكئاً على المعاجم، متأبطاً المراجع وكتب التاريخ، ولكنه قبل هذا وبعده مخل ٌص أش ّد الخلاص لصنعته الروائية، يعرف كيف يصنع من تلك الوقائع التاريخيَّة منضدة يفلش عليها حبكته المتمحورة حول فكرة واحدة عظيمة لم تأخذ حقها “الوجود العربي في افريقيا”، انطلاقًا من ماليندي تلك المدينة الكينية الواقعة على الساحل الشرقي لافريقيا. مع العلم أن المخطوطات حول هذا الوجود قليلة إلى حدّ الندرة.
أما “ماليندي” الرواية، الصادرة عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، والمؤلفة من 263 صفحة، فهي سفينة تبحر بنا عبر الزمن بين الرواية والحكاية والسرد والخيال والأسطورة والنص والدراما والتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والانتروبولوجيا وعلم البحار والرسم والفن والسحر، أما لغتها الرفيعة فلها من كل ذلك موقع الصدارة، وقد حيكت بأسلوب معجمي جعل منها أيقونة محمد طرزي.
ماليندي كما قرأتها هي رحلة سياحية بنكهة التوابل الهندية مروراً ببطولات الحرب والسحر الافريقي وحكم السلاطين، حلم العربي بالأندلس، وبالحروب والرجال، السلاح والسلام، وشبح الفرس، وأسماء العرب وألقابهم، إلى كروية الأرض وحب الوجود، اللغة العربية بين التأتأة والبلاغة، الحبكة والصورة، عصا موسى مروراً بأورشليم، فمصباح علاء الدين إلى الحبشة وجزيرة العرب، والأساطير عن السمك الأرجواني الذي يمنتج العطور، وحكاية المسامير التي ُدقّت في كفَّي المسيح.
أما حكايا الحب وأغاني ماليندي العاطفية فقد جعلها محمد طرزي ألبومات من صور الخيال: سوط سام الأسود ابن نوح، بني اسرائيل، ونهر ساباكي الذي يصل للحلم الافريقي.
وفي الرواية حكم استوحاها الكاتب من لعبة الشطرنج، مثل: أن يخاف النسان من شرك لا وجود له، وأن حركة خاطئة واحدة تطيح بثلاثين حركة صحيحة، وأن القائد الفذ يحرص على حياة الجند حرصه على حياة الملك، وأن الجميع، وبغ ّض النظر عن هويَّة المنتصر وموقعه، سيوضعون في النهاية في صندوق أسود صغير.
محمد طرزي تحدّث عن الخيانات والوشايات، عندما ينهزم العرب وينتصر الأوروبيون بمعاونة من الوزير اليهودي، وختم روايته بطرح: أنستبدل مستعمراً بمستعمر آخر؟
ماليندي رواية الحلم بإمارة صغيرة حرة وبالعدالة فوق أرض الزنوج.