ليس غريبا على تاريخ الاستحقاقات الحكومية في لبنان تكليفا وتأليفا ان تشهد مخاضات سياسية صعبة وشاقة غالبا ما كانت تترجم في تعقيدات التكليف ومن ثم في طول امد التأليف. ولكنها كانت سابقة نادرة فعلا ان يستبق رئيس الجمهورية ميشال عون امس الاستشارات النيابية الملزمة التي أرجأها من الأسبوع الماضي الى اليوم بإعلانه ما يشبه حربا سياسية على الرئيس الذي سيكلف تشكيل الحكومة العتيدة اليوم، وهو الرئيس سعد الحريري، بعدما تبين على نحو محسوم ان أكثرية نيابية ستسميه بما يطلق استحقاق التأليف.
واذا كان الرئيس عون استند في اطلاق مجمل المواقف السلبية من الحريري، من دون ان يسميه، الى اتهامه ضمنا بعدم القدرة على التزام تنفيذ الإصلاح، فان الغرابة الكبيرة التي اثارت غبارًا كثيفا في وجه عون نفسه تمثلت في نفض مسؤوليته كرئيس للجمهورية وكعهد وضمنا نفض مسؤولية تياره السياسي برئاسة النائب جبران باسيل وكل الوزراء العونيين المتعاقبين على السلطة منذ اكثر من عشر سنوات عن جردة طويلة جدا من الإخفاقات الإصلاحية راميا بمسؤوليتها الكاملة على الطبقة السياسية ومبرئا نفسه وتياره منها حتى في ملف الكهرباء نفسه.
وإذ لم يترك عون أي مجال للشك في انه يستبق لحظة تكليف الحريري رفضا منه لعودته الى رئاسة الحكومة من خلال ما بدا بانه تهويل على الحريري نفسه وعلى النواب، من تبعة ما يمكن ان يحصل في حال فرضت الأكثرية عودة الحريري، بدا واضحا ان السابقة التي جاءت على يد رئيس الجمهورية عبر اعلان رفضه الاستباقي للتكليف المحسوم ستؤدي بطبيعة الحال الى إشاعة الشكوك عما ستكون عليه الفصول التالية من الاشتباك الذي أشعلته رسالة عون ومواقفه قبيل خميس الاستشارات. وإذ تركزت الاجتهادات والمخاوف على الصعوبات التي ستنشأ في طريق الحريري لتأليف الحكومة الجديدة، فان الأهم والأبعد يتصل بالمواجهة الأشد تأثيرا في تجربة التعايش الذي ربما صار بالغ الصعوبة هذه المرة بين عون والحريري بعدما بادر الأول الى شن هجومه الاستباقي. وتطرح في هذا السياق أسئلة قلقة للغاية عما اذا كانت الأيام التي تلي التكليف ستخبىء مزيدا من الأفخاخ وكيف ستتحمل البلاد معركة سياسية ضارية من هذا النوع فيما تضغط الظروف الكارثية التي تطبق على اللبنانيين لاستعجال تأليف الحكومة وتجاوز كل الاشتباكات السياسية واقله تعليقها لتقديم أولوية انقاذ البلاد من الانهيار القاتل النهائي.
اما الجانب الاخر الخلفي الذي لم يكن ممكنا حجبه عقب توجيه عون رسالته، فبرز في الاستغراب الواسع لمبادرته الى هذا التصعيد الذي، وان حاول عبره الإيحاء بامتلاكه أوراقا قوية، شكل انكشافا سياسيا له لكونه ربط موقفه بموقف تياره ولم يتمكن من ملاقاة الدعم الداخلي والخارجي لعودة الحريري. واذا كان الحريري يضمن مبدئيا أكثرية مثبتة لتكليفه فان “حزب الله ” سيماشي التيار العوني والعهد بالامتناع عن التسمية ولكنه سيكون إيجابيا ومتعاونا في عملية تأليف الحكومة. فيما ذكر ان “تكتل لبنان القوي” سيكتفي بإرسال وفد مصغر الى الاستشارات وان رئيسه النائب جبران باسيل سيقاطع الاستشارات.
والواقع ان عون بدا في الرسالة التي وجهها امس كأنه يحاكم الحريري والطبقة السياسية ويغسل يدي عهده وتياره من الانهيارات التي بلغها البلد قبل نحو عشرة أيام من طي السنة الرابعة من عهده. وتساءل “هل سيلتزم من يقع عليه وزر التكليف والتأليف بمعالجة مكامن الفساد وإطلاق ورشة الإصلاح ؟”. وفي ما قرأ فيه المراقبون حضا للنواب المؤيدين لتكليف الحريري على إعادة النظر في حساباتهم خاطب عون النواب قائلا “انتم مدعوون باسم المصلحة اللبنانية الى تحكيم ضميركم الوطني وحس المسؤولية لديكم”. اما اللافت في الرسالة فتمثل في تعداد عون جردة طويلة من عناوين المشاريع الإصلاحية التي لم تتحقق محملا تبعة ذلك “لمن حكم لبنان منذ عقود ولم يزل بشخصه او نهجه يرفع شعارات رنانة بقيت من دون أي مضمون وكانت بمثابة وعود تخديرية “. وبرأ نفسه قائلا “انا لا يمكنني التشريع ولا التنفيذ وقمت بما علي ورغم ذلك يحملونني المسؤولية”. وإذ استوقف المراقبين قوله ” قلت كلمتي ولن امشي” اعلن في الدردشة مع الإعلاميين في القصر انه لا يضع فيتو على احد ولكنه تحدث عن خسارة عهده سنة و14 يوما بسبب تأليف الحكومات السابقة التي كانت برئاسة الحريري. ولم يترك مجالا لاي شك في رفضه الحريري عندما سئل هل يعتبر ان لا قدرة لدى الاخير على تشكيل حكومة إصلاحية اذ قال “كل واحد عندو تاريخه وأنتم تعرفون كمراقبين …وانا تهذيبا عم قول هيك”.
وأشار رئيس الجمهورية الى ان “لا مشكلة له مع الشخص الذي سيكلف فالأهم هو البرنامج الذي ينتظره ومدى قدرته على الالتزام بتنفيذه؟
واوضح انه عندما ارجأ الاستشارات اسبوعاً قال للحريري ان هناك مشكلة مع المسيحيين يجب حلها. الرئيس عون ورداً على سؤال نفى ان يكون الحريري اتصل به عشية الاستشارات “لا قبل الكلمة ولا بعدها”.
وعن كيفية التعاون بينهما في الحكومة المقبلة ، اجاب رئيس الجمهورية زواره: “لا مشكلة عندي في التعاطي فأنا اسبح في الماء البارد كما في الماء الساخن”.
بوانتاج التكليف
وبدا من المواقف الواضحة من الترشيح الوحيد عشية الاستشارات ان الحريري سينال 59 صوتاً مضموناً من الكتل التي اختارت تسميته: فإلى الرئيس تمام سلام ونائب رئيس المجلس ايلي الفرزلي سيسميه ايضاً الرئيس نجيب ميقاتي مع كتلته (4 اصوات)، وكتلة المستقبل (18 نائباً)، وكتلة التكتل الوطني (5 نواب)، وكتلة اللقاء الديمقراطي (7 اصوات)،وكتلة التنمية والتحرير (17 نائباً) ، فيما كتلة الارمن (3 نواب) التي تقول مصادرها انها تتريث بحسم موقفها الى اليوم، الارجح انها ستسميه . اما الكتلة القومية (3 اصوات)، فقررت عدم تسمية احد علما ان النائب اسعد حردان تلقى اتصالاً امس من الحريري .
وفيما تمتنع “كتلة الجمهورية القوية” عن التسمية، فقد ياتي منها النائب جان طالوزيان الى الاستشارات مستقلاً ويحسم قراره صباحاً بشأن تسميته الحريري او عدمها. اما “تكتل لبنان القوي” فلن يسمِي الحريري وقد يودع اصواته رئيس الجمهورية الذي اعتاد ان لا يسمي عن احد.
لودريان: الغرق اكثر
وعشية الاستشارات برز موقف فرنسي جديد لوزير الخارجية جان ايف لودريان الذي دعا لبنان الى الإسراع في تشكيل حكومة جديدة. وحذر امام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الفرنسي من انه “كلما تأخرنا (في تشكيل الحكومة ) غرق المركب أكثر. واذا لم يقم لبنان بالإصلاحات التي يجب القيام بها فان البلد نفسه معرض للانهيار”.
في أي حال لم تغب أجواء الشحن السياسي عن الشارع اذ شهدت ساحة الشهداء في وسط بيروت تظاهرتان تواجهتا على خلفية مناهضة تكليف الحريري لإحداهما وتأييد تكليف الحريري للثانية. وإذ فصلت القوى الأمنية بينهما انبرى أشخاص يستقلون دراجات نارية الى احراق مجسم قبضة الثورة في ساحة الشهداء وسرت اتهامات لمناصري تيار المستقبل بإشعالها. ونفى الاخير أي علاقة له بهذا “العمل المدان” داعيا الى توقيف المرتكبين . كما اعلن المستشار الإعلامي للرئيس سعد الحريري حسين الوجه “ان من قام بهذا العمل الجبان مجموعة مشبوهة ونحن براء منها” داعيا القوى الامنية لملاحقة أفرادها وتوقيفهم وكشفهم أمام الرأي العام.