بروفسور جاسم عجاقة – الديار
حين يكون حقّ الوصول إلى الغذاء حقاً من حقوق الإنسان المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان، وحين يكون الخبز هو العنصر الأساسي في غذاء المواطن، نتفهّم أهمية أو بالأحرى إلزامية – أن يكون هذا العنصر الأساسي في متناول جميع البشر.
النظرية الإقتصاديّة صنّفت السلع والبضائع فجعلت الخبز في فئة المواد الأساسية. وتجنبت بالتالي هذه النظرية وكل الأنظمة العالمية وضع سعر الخبز في بورصة التداول وذلك بحكم وجود مضاربة على الأسعار مما يجعل العنصر الأساسي للإنسان عرضة لجشع المافيات.
ما يقوم به وزير الإقتصاد والتجارة تجاه سعر ربطة الخبز هو عملية لوضع سعر ربطة الخبز على بورصة الدولار. إنها عملية ربط واضحة مما يعني التحكّم بمصير هذا المواطن في أبسط الأمور المُتعلّقة بوجوده. إنها عملية ضرب واضحة للأمن الإجتماعي إذا لا يُمكن بعد الآن أن تستطيع الدولة فرض سعر ربطة خبز على «تُجار الخبز» (بمعناها السيئ) وذلك عملاً بالحجة «الدامغة» التي أرساها وزير الإقتصاد والتجارة بعبارة لن تنساها الأجيال «الخوف من أن يقوموا بتنفيذ إضراب»! هذا الأمر هو مثال على إنهيار مؤسسات الدولة وعلى إرتهان (مقصود أو غير مقصود) من قبل الدولة لمصلحة مافيات قادرة على التحكّم بمصير بلد. فعلاً، لبنان يكتب التاريخ بأسوأ صوره الممكنة!
هناك سؤالان يتوجّب الإجابة عنهما تحت طائلة تسليم هذا البلد بالكامل لمافيات تتحكّم به:
السؤال الأول: هل الزيادة التي أقرّها وزير الإقتصاد والتجارة مُبرّرة؟
السؤال الثاني: لماذا يقبل وزير الإقتصاد والتجارة بإدخال سعر ربطة الخبز إلى البورصة؟
زيادة غير مُبرّرة
في حزيران من العام 2020، صدر قرار عن وزارة الإقتصاد والتجارة برفع ربطة الخبز (900 غرام) من 1500 ليرة لبنانية إلى 2000 ليرة لبنانية، ليصدر بعدها قرار في تشرين الثاني الماضي من العام 2020 برفع سعر ربطة الخبز (900 غرام) من 2000 ليرة إلى 2250 ليرة. وأوّل من أمس صدر قرار عن وزير الإقتصاد والتجارة برفع سعر الربطة إلى 2500 ليرة لبنانية مُعلّلاً هذه الزيادة بإرتفاع سعر طن القمح وإرتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء.
البيانات التاريخية التي إستخرجناها من موقع (investing.com)، تُشير إلى أن سعر العقود الآجلة من القمح في لندن يُتداول على سعر 206 دولار أميركي ولم يشهد منذ شباط 2020 وحتى يومنا هذا تغييرات يومية بأكثر من 5%. وإذا ما قارنّا تغيّرات السعر بين البارحة وأول تشرين الثاني من العام الماضي (تاريخ رفع سعر الربطة إلى 2250 ليرة)، نرى أن السعر إرتفع بنسبة 10% وبين سعر البارحة وأول العام 2020، 39%.
فهل من تبرير لرفع سعر ربطة الخبز؟
المُعادلة الحسابية لاحتساب كلفة ربطة الخبز (900 غرام) هي على النحو التالي:
كلفة الربطة = 0.0009 x [(سعر طن الطحين) + (كلفة نقل طن الطحين) + (سعر طن السكر x 2.6%) + (سعر المتر المُكعّب من المازوت x 12.18%) + ( سعر طن الخميرة x 0.87%) + (سعر طنّ النيلون x 0.125%) + أعباء إضافية].
إستخدمنا هذه المُعادلة لإحتساب كلفة سعر ربطة الخبز في تشرين الثاني الماضي ووجدنا أن الكلفة هي 1614 ليرة لبنانية في حين أن قرار وزارة الإقتصاد والتجارة حدّد سعر 2000 ليرة للربطة الواحدة. وقمنا بفرضية أن سعر طن القمح إرتفع بنسبة 39% (وهو أمر غير صحيح)، فإن الكلفة ترتفع إلى 1899 ليرة لبنانية في حين أن الوزير حدّد السعر بـ 2500 ليرة.
لكن ماذا عن سعر الدولار الذي يدّخل في كل مُكونات الخبز؟ في الواقع قمّنا بمحاكاة تتضمّن عدّة سيناريوهات: إرتفاع في كل الأكلاف بنسبة 10%، 20%، 30%، 40%، و50%. ووجدنا أنه في أسوأ الأحوال لن تتخطّى الكلفة الـ 2083 ليرة لبنانية لربطة الخبز (900 غرام) (أنظر إلى الرسم).
فمن أين أتت الأرقام العجيبة الصادرة في قرارات وزارة الإقتصاد والتجارة؟
ضرب الأمن الإجتماعي
منذ بدء الأزمة في تشرين الأول من العام 2019، ومافيات التجّار تعبث بالأمن الغذائي للمواطن الذي أصبح وحيدًا في مواجهة هذه المافيات نظرًا إلى غياب الرقابة. إلا أن ضرب الأمن الغذائي ومن خلفه الأمن الإجتماعي أتى هذه المرّة من وزارة الإقتصاد والتجارة التي سهّلت للتجار ربط سعر ربطة الخبز بالدولار الأميركي تحت تأثير التهديد الذي قام به هؤلاء بالإضراب في حال لم يتمّ رفع سعر ربطة الخبز! تعديل سعر ربطة الخبز بحسب سعر صرف دولار السوق يعني أن الأمن الغذائي للمواطن أصبح أداة يُتداول بها في السوق السوداء. وهذا الأمر مُخالف لروحية القوانين اللبنانية التي لطالما حافظت على الأمن الإجتماعي منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب وحتى يومنا هذا.
كان من المفروض على وزارة الإقتصاد والتجارة، أن تقوم بشراء القمح على شكل عقود آجلة على البورصة وتؤمّن ثبات سعر ربطة الخبز وتؤمّن الدولارات من قبل مصرف لبنان، وهذه العملية هي من أبسط الأمور التي تقوم بها المصارف في دائرة الخزانة والأسواق المالية في المصارف!
لقد تمّ إستيراد ما يُقارب الـ 2,27 مليار دولار أميركي من المحروقات (من شهر 1 إلى شهر 9 من العام 2020)، مع أكثر من مليار دولار استيراداً للأدوية وقسماً كبيراً منها يتمّ تهريبه إلى البلدان القريبة والبعيدة. إذًا السؤال الأساسي المطروح: لماذا يتمّ الاستخفاف بل إهمال الأمن الغذائي للمواطن؟
ثلاثية ذهبية في أوقات الأزمات
هناك ثلاثية أساسية يجب أن تكون جاهزة لضمان الأمن الغذائي والصحي للمواطن: وزارة الإقتصاد والتجارة لحماية المُستهلك من التجار، وزارة الصحّة لتأمين حاجات المواطنين ومراقبة المستشفيات، ومصرف لبنان لتأمين الدعم بالدولارات. من دون هذه المعادلة، هناك هروب من المسؤوليات وسيحكم التاريخ على المسؤولين الذين أخلّوا بواجباتهم تجاه شعبهم
تعتمد السلطات في الدول في سياساتها الإقتصادية ـ الإجتماعية على مؤشّر سعر الخبز إلى الحد الأدنى للأجور. هذا المؤشّر يسمح للحكومة بقياس قدرة الطبقة الفقيرة وما دونها على تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية. وفي لبنان، إرتفع هذا المؤشّر من 0.022 إلى 0.037 أي ما يُعادل الضعف وذلك منذ حزيران من العام الماضي. وبالتالي وعلى الوتيرة التي تعتمدها الوزارة والتي أصبحت أسبوعية (؟!) قد يتمّ ضرب سعر ربطة الخبز بعشرة أضعاف في الأشهر القادمة علمًا أن رفع سعر الخبز يُسقط حكومات في الديموقراطيات ولدى الشعوب التي تحترم نفسها.
في الختام على معالي وزير الإقتصاد والتجارة أن يعود عن هذا القرار غير الموفق إذ إن المضي بهكذا قرار سيفتح أبواباً أخرى مما حذر منه فخامة رئيس الجمهورية «أعني جهنم العيش في سويسرا الشرق».
حمى الله لبنان!