جوني منير – الجمهورية
ما تزال منطقة الشرق الاوسط ومعها لبنان بطبيعة الحال في قلب المرحلة الصعبة، لا بل هي تزداد تعقيداً وصعوبة. زيارة قداسة البابا فرنسيس الى العراق حملت رسائل مهمة وكان ابرزها على الاطلاق تلك التي تقول: «أنتم جميعاً اخوة واخوات، فلننظر الى المستقبل معاً». وهذه الزيارة التي شكلت مجازفة فعلية، والتي كانت اول زيارة بابوية لبلاد الرافدين، شهدت اول قمة روحية مع مرجع شيعي بهذا المستوى هو السيّد علي السيستاني وهي كانت المحطة الابرز، الى جانب اللقاء العاطفي والمؤثر مع مسيحيي العراق.
لكنّ هذه الزيارة التاريخية لم تحجب التحديات الخطيرة التي ما تزال تتزايد في هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة. فالمفاوضات الاميركية ـ الايرانية المنتظرة، والتي من المفترض ان تشكل منعطفاً مفصلياً وتاريخياً، ما تزال تخضع لتجاذبات ومناورات حادة وصعبة.
واشنطن تريد اعادة كتابة الاتفاق النووي من خلال تضمينه ملحقين، الاول عن الصواريخ البالستية والثاني حول حدود نفوذ ايران في المنطقة.
اما ايران فهي اعلنت على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف انها لا تريد سوى العودة الى اتفاق العام 2015 ومن دون اي تعديل. لذلك سارعت الى تطوير برنامجها النووي بعد انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة الاميركية حين صوّت البرلمان الايراني على الموافقة على تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 %. وبقي ظريف متمسكاً بأن المفاوضات لا يمكن ان تشمل مواضيع اضافية. وارفقت ايران ذلك بهجمات نوعية في مأرب في اليمن، وباستهداف صاروخي بالقرب من البصرة وفي اتجاه مطار اربيل حيث القوات الاميركية. ولكن ادارة بايدن كانت تعمل على إنهاء حملة «الضغط الاقصى» التي اطلقها الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، وفرضت القيود على مبيعات الاسلحة الى السعودية، وشطبت الحوثيين عن لائحة الارهاب، ولكن الهدية الأكبر التي قدمتها ادارة بايدن كانت تشجيع كوريا الجنوبية على وقف تجميد نحو 7 مليارات دولار من الاصول الايرانية تحت ذريعة حض ايران على اطلاق سفينة كورية جنوبية احتجزت في مياه الخليج، اضافة الى اموال من العراق.
وفي نظرة سريعة الى تطورات الشرق الاوسط، هنالك ما يشبه بدء ترتيب الخريطة الجيوسياسية الجديدة للمنطقة، فمثلاً مصر تعمل على إظهار عزمها على اقامة علاقات اكثر دفئاً مع اسرائيل. لذلك زار وزير الطاقة المصري اسرائيل في اول زيارة من نوعها وبعد آخر زيارة لوزير الخارجية عام 2016. وهي ركزت على ربط حقل غاز اسرائيلي بمنشآت في مصر عبر خط انابيب تحت الماء. وفي الوقت نفسه تستعد اسرائيل لضخ النفط من إيلات الى ساحل البحر الاحمر. وهو في نهاية الامر تركيز الانتظام المصري في المحور الاسرائيلي ـ الخليجي في وجه تركيا خصوصاً.
وجاءت حماسة المصريين بسبب قلقهم من نيات بايدن، وبالتالي السعي الى مساعدة اسرائيلية في هذا المضمار. وعند الحدود السورية ـ العراقية، ما يُشبه التسابق الروسي ـ الايراني على تجنيد الشبان خصوصاً في ديرالزور والبو كمال. فروسيا التي تفتقد دائماً للجنود براً تعمل على تعويض هذا النقص من خلال قوى محلية، أما ايران التي تحتسب لاحتمالات اخراج قواتها العسكرية والميليشيا المتحالفة معها من سوريا، فتحضّر لمجموعات سورية بديلة. لكن واشنطن مستعجلة لإقفال ملف ايران قبل التفرّغ لمرحلة احتواء الصين. وطهران التي تدرك ذلك، تعمل على الرهان على عامل الوقت بغية عدم الاقتراب من الملاحق التي ترفضها. بيد انّ ادارة بايدن التي قدمت الاغراءات ليست في وارد التساهل، وهي تستعد لوسائل ضغط جديدة. وقيل انّ خط التواصل بين الاميركيين والايرانيين والمفتوح من خلال سلطنة عمان، شهد تحذيراً من اندلاع عنف على الحدود بين ايران وافغانستان، اي استنزاف مباشر يشبه الى حد ما الحرب الايرانية ـ العراقية في العام 1980.
وفي المقابل، ثمة حلول يجري التداول فيها حول الصواريخ البالستية، كمثل وضع اتفاق يضبط استعمالها، ويضعها في الاطار الدفاعي عن ايران فقط، وهو مستوحى من الاتفاقات التي كانت قائمة مع ترسانة صواريخ الاتحاد السوفياتي في مرحلة الحرب الباردة.
وأخيراً تم ضم سبعة مسؤولين الى فريق الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي لمعاونة بريت ماكفورك منسق المجلس للشرق الاوسط وافريقيا، ومن هؤلاء ماكس مارتن عن لبنان والاردن، وزهرا بيل عن العراق وسوريا. مع الاشارة الى انّ مارتن كان مستشاراً للمبعوث الاميركي السابق الى سوريا، وهو على علاقة جيدة بالاكراد وكان قد زارهم في شمال سوريا في اطار مهماته، كذلك مثّل بلاده خلال اجتماعات الآستانة حول سوريا كما انه يتحدث اللغة العربية بطلاقة.
وفي هذا الوقت تعمل واشنطن على إنجاز تفاهمات واسعة مع موسكو هي اقرب الى الصفقة وتشمل سوريا ولبنان ايضاً. ولا حاجة للاشارة الى ان موسكو تتطلع الى حصة أوسع في ملف استخراج الغاز من البحر اللبناني.
وسط هذه التشابكات الاقليمية الصعبة والخطرة، تتفاقم ازمات لبنان الحكومية والسياسية والاقتصادية وربما الامنية. لذلك تبدو فرنسا قلقة جداً من حشر الحكومة في مطالب ضيقة وصغيرة ما يؤدي الى كشف لبنان امام اهوال كبيرة، وفي لحظة تجري فيها اعادة رسم خارطة النفوذ.
باريس قلقة ايضاً من المستوى الذي بلغه الانهيار الاقتصادي والمالي، وتلاشي القدرة الذاتية اللبنانية في التحكم والتأثير في الاسواق المالية وحماية العملة الوطنية.
وكان متوقعاً ان ينفجر الشارع مجدداً وسط حال التدهور الاقتصادي والمالي والاحتقان السياسي الذي بلغ ذروته. لكن الى جانب انفجار المحتجين في الشارع، كان متوقعاً ايضاً انخراط قوى سياسية في لعبة الاعتراض وتصفية الحسابات ولَي الأذرع. والأهم الحرج الذي ألزم «حزب الله» بالانكفاء لكي لا تنفجر الازمة في قلب بيئته. وليس سراً انّ قوى حزبية تسعى لإسقاط رئيس الجمهورية وتتراوح هذه القوى بين «القوات» و»الكتائب» و»الاشتراكي» و»المستقبل» وحركة «امل»، أضف اليها المحتجّين خارج اطار الانتماء الحزبي.
في المقابل بَدا «التيار الوطني الحر» مربكاً وغير متماسك حين ألغى تحركاً شعبياً كان قد دعا اليه قبل دقائق من موعده، قيل انّ السبب يعود الى عدم القدرة على التجييش. وفي موازاة ذلك، انكفأ «حزب الله» عن اي تحرك، مرة لتجنّب التصادم مع حركة «امل» داخل البيئة الشيعية وهو ما يشكل خطاً أحمر لديه، ومرة اخرى امام غضب الناقمين على تردي الاوضاع المعيشية، فيما لا قدرة لـ»حزب الله» سوى على تأمين جزء من البيئة الشيعية، قد لا يتجاوز نسبة 30 %، أضف الى ذلك، تلك الفوضى التي تعمّ السلطة السياسية وسط تضارب الصلاحيات.
والسؤال الذي يتردد همساً في الكواليس الديبلوماسية: هل ان الانزلاق اكثر فأكثر في مشروع الاهتراء الكامل لمؤسسات الدولة وصولاً الى تفككها تمهيداً لإعادة تركيبها لاحقاً وفق اسس جديدة وصحيحة، قابل للحصول من دون ان يتفكك البلد في حد ذاته وان يتناثر أجزاء؟ والمقصود هنا هل هذه الورشة الخطرة قابلة للحصول من دون ان تتأثر مؤسسة الجيش اللبناني كونها الوحيدة القادرة على ضمان استمرار وحدة البلد واعادة بناء دولته ومؤسساته من جديد؟
خلال الايام الماضية بَدا واضحاً انّ القرار هو بعدم التصادم مع المتظاهرين إلا في حال الاعتداء والقيام بأعمال الشغب، ذلك أن من الخطورة في مكان وضع مواطن جائع في مواجهة جندي تعاني عائلته حياتياً.
لكنّ التركيز تم على وضع مجموعات تدخل بشكل سريع للسيطرة على اي حادث قابل للحصول كل لحظة، وايضاً تركيز قوى اكبر عند الخطوط الفاصلة بين مناطق متنوعة طائفياً. ذلك انّ الحادث الذي قد يحدث هنا قابل للاشتعال بسرعة وبقوة.
وفي مجال ثانٍ تنشيط عمل الملاحقة الامنية للخلايا المتطرفة التي تميل لاستعادة نشاطها ولكن بقرار داخلي ذاتي وليس بقرار إقليمي او خارجي. ومن اجل خلق حاجز امان دفاعي لعائلات الجنود، بدأ العمل على طلب مساعدات غذائية وصل بعض منها من فرنسا وتركيا، واخرى طبية (وصلت طائرة من مصر) لحماية عائلات الجنود وسط الانهيار المريع لقيمة العملة الوطنية. وفي محصّلة العرض، إنّ لبنان سيغرق اكثر فأكثر في الفوضى، طالما انه يجتاز المرحلة الانتقالية انسجاماً مع تطورات المنطقة.