جاء في صحيفة ” الديار ” : المصرف المراسل (Correspondent Bank) هو عبارة عن مصرف أو مؤسسة مالية في بلد أجنبي، يُقدّم خدمات مالية ومصرفية إلى مؤسسة مالية أو مصرف محلّي. وتنصّ مُهمّة المصارف المراسلة على العمل كوسيط أو وكيل عن المصرف المحلّي، وبالتالي تسهيل التحويلات الإلكترونية وإجراء المعاملات التجارية، وقبول الودائع، وتجميع المُستندات وغيرها من الخدمات المصرفية والمالية. وبالتالي فإن عمل المصارف المراسلة أساسي ويؤثر على الأمن الغذائي في البلدان التي تعتمد على الإستيراد لتلبية حاجات الغذاء المحلي. واما بشكلٍ عام، فيتمّ عادة إستخدام خدمات المصارف المراسلة للوصول إلى الأسواق المالية وأسواق السلع والبضائع (تَتْميم الشِقّ المالي) بدلا من أن يقوم المصرف المحلّي في فتح فروع له في البلدان الأخرى.
ومن أهمّ الخدمات التي تقدّمها المصارف المراسلة: تحويل الأموال، دفع الأموال، التحقّق من المقاصة، التحاويل الإلكترونية، شراء وبيع العملات، شراء وبيع أدوات مالية، التحوّط، تأمين الأموال لعملاء المصارف المحلية في حال سفرهم إلى الخارج، إدارة المحافظ…هذه العمليات تتمّ من خلال حسابات مصرفية تفتحها المصارف المحلّية لدى المصارف المراسلة وتُسمّى هذه بحسابات Nostro (حساب البنك المحلي لدى المصرف المراسل) وVostro (حساب البنك المراسل لدى المصرف المحلّي) حيث يحتفظ كلا المصرفين بحسابات لبعضهما البعض بهدف تتبع العمليات المصرفية والديون والإئتمانات بين الطرفين.
تلعب المصارف المراسلة دورًا محوريًا في عالم المال والإقتصاد، إذ أنها توفر وسيلة عملية للمصارف المحلّية للعمل عندما لا يكون لهذه الأخيرة فروع في الخارج. وبما أن العنصر الأساسي في عملية التعاون بين المصارف المحلية والمصارف المراسلة مبني على التحاويل المالية، يتم تنفيذ هذه التحاويل من خلال شبكة الاتصالات المالية العالمية بين المصارف المعروف بنظام SWIFT.
العقبة الأساسية لأي مصرف محلّي لفتح حساب لدى مصرف مراسل تكمن في إستيفاء شروط المصرف المراسل نظرًا إلى أن قسمًا من هذه الشروط ذاتي (له علاقة بالمصرف المحلّي مثل إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) والقسم الآخر له علاقة ببلد المصرف المحلّي (Country Risk). وبالتالي يأتي تصنيف البلد المحلّي ليُشكّل العقبة الأساسية بحكم أن القاعدة في العالم المصرفي أنه لا يُمكن لأي مصرف أو مؤسسة مالية أن يتمتّع بتصنيف إئتماني أعلى من التصنيف الإئتماني للبلد. وتفرض القوانين في العديد من البلدان على المصارف المراسلة أن يكون التصنيف الإئتماني لبلد المصرف المحلّي أعلى من تصنيف مُحدّد يختلف بحسب القوانين ويكون خاضعًا لموافقة مُسبقة من قبل السلطات الرقابية المصرفية.
مخاطر الدولة
تلعب مخاطر الدوّلة (بلد المصرف المحلّي) أو ما يُعرف بالـ Country Risk دورًا أساسيًا في تحديد العلاقة بين المصارف المراسلة والمصارف المحلّية بالإضافة إلى إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. فإرتفاع مخاطر الدوّلة يُصعّب على المصارف المراسلة قبول التعامل مع المصارف المحلّية ويجعله مكلفاً، أو قد يؤدي في بعض الأحيان إلى إيقاف التعامل مع هذه المصارف. هذا الأمر نابع من المخاطر المالية التي يُمكن للمصارف المراسلة تكبّدها في حال تعاملت مع مصارف محلّية في بلدان ذات مخاطر عالية. بمعنى أخر، تواجه المصارف المراسلة معضلة تحقيق التوازن بين الحفاظ على علاقاتها المالية بهدف تحقيق أرباح من جهة، وتلبية متطلبات العناية الواجبة وإرتفاع تكاليف الإمتثال لقوانين بلادها من جهة أخرى. وبالتالي ومع ارتفاع المتطلبات التنظيمية والرقابية على هذه المصارف وإرتفاع تكاليف الإمتثال، تقوم هذه المصارف بعملية تجنّب المخاطر أو ما يُعرف بالـ de-risking، وتحوي هذه العملية على وقف تعاملها مع بعض المصارف المتواجدة في بلاد ذات مخاطر عالية.
وبالتالي تأتي عملية تقييم مخاطر الدوّلة كعنصر أساسي في عمل المصارف المراسلة حيث يتمّ أخذ العديد من الأبعاد في هذه العملية:
أولا – المخاطر الإقتصادية: الثبات والملاءة المصرفية، التوقعات فيما يخصّ الناتج المحلّي الإجمالي، الدين العام نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي، البطالة، مالية الدوّلة، السياسة النقدية، الثبات النقدي، سعر صرف العمّلة، الوصول إلى رأس المال…
ثانيًا – المخاطر السياسية: الثبات الحكومي، الشفافية والحصول على المعلومات، الإرهاب، الجريمة، العنف، البيئة التنظيمية، حرية القوى العاملة، برامج المساعدات الحكومية للشركات، قوانين الهجرة والعمل، السياسات تجاه الاستثمار الأجنبي، قوانين مُكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، قوانين مكافحة الفساد…
ثالثًا – المخاطر الهيكلية وتضمّ الديموغرافية، البنية التحتية والإجتماعية، القوى العاملة، المنافسين، المشاركة في معاهدات دولية، قوانين التصدير، قوانين الاستيراد، فرص الإنتاج المشترك مع دول أخرى…
رابعًا – إدارة الدين العام: إجمالي الدين العام إلى الناتج القومي الإجمالي، نسبة الدين العام إلى الصادرات، نسبة الحساب الجاري إلى الناتج القومي الإجمالي…
عمليًا تعتمد المصارف المراسلة على التصنيف الإئتماني للدولّ الذي يُعتبر مقياسًا فعّالا لمخاطر الدوّلة. من هنا تأتي أهمّية إدارة المخاطر للدوّلة التي من المفروض أنها من مهام الحكومات التي يتمّ مُحاسبتها في الديموقراطيات على الإجراءات التي تتخذها. الجدير ذكره أن عدم مُعالجة المخاطر المُحدقة بالدولة يؤدّي إلى عواقب وخيمة وعلى رأسها الخسائر المالية الفادحة، الضرر الإجتماعي، الدعاوى القضائية، وبالتالي العزلة عن المجتمع الدولي أو ما يُعرف بالإقصاء المالي.
المصارف اللبنانية ومخاطر الدّولة
يتعرّض القطاع المصرفي اللبناني في هذه الأيام إلى إقفال حساباته لدى العديد من المصارف المراسلة نظرًا إلى ارتفاع مخاطر الدولة اللبنانية. وإذا ما قمّنا بتحديد العوامل الأساسية التي لعبت دورًا في ارتفاع المخاطر، نرى أن التخبّط السياسي وإعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز تحتل الصدارة في ظل إستمرار تراكم الخسائر على الدولة اللبنانية.
وبحسب كتاب وجّهه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى القاضي غسان عويدات، أقفل العديد من المصارف المراسلة حسابات مصرف لبنان على مثال مصرف WellsFrago الذي أقفل حساب المركزي بالدولار الأميركي، وHSBC الذي اقفل حسابه بالجنيه الإسترليني، وDanske الذي أقفل حسابه بالكورون السويدي، وCIBS الذي أوقف كل التعاملات مع المصرف المركزي!
وإذا ما نظرنا إلى وجّهة نظر المصارف المراسلة، نرى أن تقيمها للوضع في لبنان أصبح سيئًا لدرجة أنها تُفضّل الخروج من السوق اللبناني وذلك للعوامل التالية:
أولا – إنخفاض ملاءة القطاع المصرفي نظرًا إلى شحّ الدولار وهو ما يرفع من المخاطر الإئتمانية في محفظة المصرف المراسل وبالتالي تُكبدّه خسائر مالية؛
ثانيًا – التخبّط السياسي الذي يمنّع الحلول الإقتصادية والمالية مما يخفّض توقّعات الناتج المحّلي الإجمالي ويرفع من الدين العام نسبةً إلى الناتج المحلّي الإجمالي؛
ثالثًا – تراجع سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء مع ارتفاع الـ volatility وهوما يضرب الثبات النقدي؛
رابعًا – التهجّم على القطاع المصرفي ورفع دعاوى قضائية ضدّه وهو ما يضع المصارف المراسلة في خطرّ تحمّل خسائر مالية نتيجة العلاقة التعاقدية والتشابك الناتج عن هذه العلاقة؛
خامسًا -الضغوطات السياسية الخارجية والتي تؤثّر على توافد الدولار إلى السوق اللبناني وتزيد من القيود على نشاط المصارف اللبنانية؛
الإستيراد في خطر
مع إقفال المصارف المراسلة الواحد تلو الأخر لحسابات المصارف اللبنانية وحسابات مصــرف لبنان، يظهر إلى العــلن مُشكلة إستيراد الســلع والمواد الغــذائية والأوّليــة بحكم أن عمليات الإستيراد تتمّ من خلال فتح إعــتمادات لدى المصارف المراسلة. وبالتالي ففي حال إقفال المصارف المراسلة لحسابات المصارف اللبنانية، هناك مُشــكلة إستيراد ستظهر إلى العلن وسيتمّ ترجمتها بنقص حاد في السلع والمواد الغــذائية والأوّلية في السوق اللبــناني!
عمليًا هذا الأمر يعني أن الأمن الغذائي للمواطن اللبناني أصبح في خطر كبير وهنا يأتي دور القوى السياسية في تحمّل مسؤوليتها بعد شلل الحكومة المُستقيلة. هذه القوى التي تُمعن في عملية تعطيل تشكيل الحكومة تُساهم بشكل أساسي في تدهور الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي والإجتماعي.وبالتالي هناك إلزامية للتعجيل في إيجاد حلول لتشكيل حكومة قادرة على مواجهة الأزمة لأن القطاع المصرفي أصبح عاجزًا عن مواجهة الأزمة وحيدًا.
ماذا إذا إستمرّ التخبّط؟
إذا إستمرّ التخبّط السياسي على ما هو عليه أي أن القوى السياسية لم تستطع تشكيل حكومة، هناك تحدّيات ستواجه القطاع المصرفي وأخرى ستواجه الدوّلة اللبنانية:
على صعيد القطاع المصرفي، التحدي الأول يكمن في الحفاظ على مصرف مراسل على الأقلّ (JP Morgan) وذلك بهدف تأمين إستيراد السلع الغذائية والمواد الأولية بحدّها الأدنى. أما على صعيد الدّولة، فالتحدي يكمن في إيجاد دوّلة تقبل بالإستيراد لصالح لبنان وذلك من خلال فتح الإعتـــمادات لدى المصارف المراسلة لصالح إستيراد السلع والمواد الغذائية وهو ما سيزيد الكلفة طبعًا على لبنان. هذا الأمر يضع لبنان في مستوى الدول الأكثر فقرًا في العالم أجمع ويضعه تحت وصاية دولية إقتصادية ومالية وحتى نقدية.
كما أن هذا الأمر سيزيد من شلل الحكومة المستقيلة، إضافة إلى شلل قوى السلطة الحاكمة، مما يعني الانهيار الكامل للدولة والمؤسسات كافة. وبالتالي يجب على من يملك (إلى الآن) فرصة رفع هذه الكأس المرة أن يبادر قبل أن تخرج الأمور حقيقة عن السيطرة الكلية.
في كل هذا الإطار الأسود، هناك خبر خفف من الضغط على القطاع المصرفي وهو إسقاط القضاء الأميركي للدعوى التي رفعها مودع لبناني وزوجته ضد مصرف لبنان وثلاثة مصارف لبنانية لتحصيل أموالهم من المصارف اللبنانية وتقاضيها في الولايات المُتحدة الأميركية. قرار القاضية الأميركية جاء بتأكيد عدم صلاحيتها في البت في قضايا من هذا النوع.
مع الإشارة إلى أن هذا الأمر لا يعني سقوط الاحتمالات التي سبق ذكرها، وإنما يعني أن الأمر ما زال قابلاً للإصلاح إذا صَلُحَت النوايا.