أنهى جيش الاحتلال الحرب التي أعلنها على غزة رداً على صواريخ المقاومة التحذيريّة دفاعاً عن القدس، من دون أن ينجح في إضعاف القدرة الصاروخية للمقاومة التي بقيت تطلق صواريخها على عمق الكيان بالكثافة والمدى الجغرافي ذاتهما، ومن دون أن يتمكن من التفكير بعملية برية يعرف سلفاً من بعض المؤشرات حجم كلفتها وتداعياتها، حاملاً معه تبعات فشل القبة الحديدية على صورة ميزان الردع الذي كان يدّعيه بوجه محور المقاومة، ووضعاً داخلياً مأزوماً بين خيارات أحلاها مرّ، فمواصلة التصعيد الذي يمارسه المستوطنون بحق الفلسطينيين في القدس والضفة والأراضي المحتلة عام 48، باتت نتائجه شديدة الخطورة يتوقع معها الكثير من الخبراء العسكريين في الكيان تحوّلها الى حرب عربية يهودية يستند فيها الفلسطينيون الى قدرة غزة النارية التي أثبتت فعاليتها بالقدرة على التدخّل، وكبح جماح المستوطنين سعياً لتأمين التهدئة مع الفلسطينيين يهدّد بحرب أهلية يهودية يهودية. وفيما كانت المناطق الفلسطينية بلا استثناء وتجمعات فلسطينيي الشتات ومعهم عواصم عربية وعالمية عدة، تحتفل بالنصر الفلسطيني كان المستوطنون ومعهم جيش الاحتلال يعاودون بعد الظهر الهجمات في القدس بعد هدوء قبل الظهر، لتشتعل المواجهات في القدس والبيرة والعديد من المناطق في الضفة، بينما أعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عزمها على مواصلة جهود التهدئة تمهيداً لإحياء المسار التفاوضي على قاعدة حل الدولتين، الذي سيحمله وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن في جولة قريبة في عواصم المنطقة، والمشكلة التي تنتظر بلينكن هي أن هذا الحل لا يجد تشجيعاً عند الفريقين المتقابلين، كيان الاحتلال وقوى المقاومة، بينما الأطراف التي تتحمّس له لا تملك القدرة على إنعاشه، سواء السلطة الفلسطينية أو العواصم العربية التي شعرت بفقدانها للتأثير في مسار القضية الفلسطينيّة لصالح تعاظم حضور محور المقاومة.
بالتوازي مع المشهد الفلسطيني، تقدّم الملف النووي الإيراني على طريق الوصول إلى اتفاق يضمن العودة الأميركية إلى صيغة تفاهم 2015، كما قالت مصادر روسية وأوروبية وإيرانية في وفود التفاوض في فيينا، متوقعة إنجاز التفاهم مع نهاية الشهر الحالي، بينما تقدّم أيضاً المشهد السوري مع إنجاز سورية للانتخابات الرئاسية في السفارات السورية في الخارج، التي سجلت مؤشرين إيجابيين جديدين، الأول اتساع رقعة العواصم التي سمحت حكوماتها للسفارات السورية بفتح أبوابها للمقترعين، والثاني كثافة حضور السوريين المقيمين في الخارج في السفارات السورية للمشاركة في الانتخابات، وهو ما وضعته مصادر دبلوماسيّة في دائرة التأشير لتراجع المناخات الدولية الممسكة بملف النازحين كرهينة سياسية، متوقعة حلحلة في هذا الملف بعد انتهاء سورية من الاستحقاق الرئاسي، وبدء فتح العديد من السفارات العربية والغربية خلال مرحلة ما قبل نهاية العام.
لبنانياً، تصدّر الأحداث النقاش النيابي حول الرسالة الرئاسية المتصلة بالملف الحكومي، بعد تأجيله من أمس الى اليوم، مع توقعات متفاوتة حول فرص التوصل لصيغ تهدئة تسبق الجلسة أو تحوّل جلسة النقاش الى سجال يرفع منسوب التوتر والتصعيد بين فريقي رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف. وقالت مصادر متابعة للملف الحكومي إن رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي أرجأ النقاش أمس، ورفع الجلسة عندما تلمس مناخاً متشنجاً لن يسمح بتفجير المجلس النيابي بسبب نقاش عقيم حول الصلاحيات والمسؤوليات الرئاسية فى عملية تأليف الحكومة. فالكلام الذي لا يخدم مساعي التأليف يفضل الاستغناء عنه، لأن أولوية بري ستبقى تزخيم عملية التأليف وليس إثبات الأحقية في السجال الدائر بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف.
وفيما انعكس الوقف المتبادل لإطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي إيجاباً على الداخل اللبناني الذي حبس الأنفاس طيلة مدة الحرب ترقباً لتمدّدها الى دول أخرى في المنطقة، ومنها لبنان، عادت الملفات الداخلية الساخنة إلى الواجهة من بوابة مجلس النواب الذي عقد أمس، في قصر اليونيسكو جلسة تشريعية لتلاوة الرسالة التي وجّهها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى البرلمان حول تأخر الرئيس المكلف سعد الحريري في عملية تشكيل الحكومة.
ولم يكد الأمين العام لمجلس النواب عدنان ضاهر، ينهي تلاوة الرسالة، حتى رفع رئيس المجلس النيابي نبيه بري الجلسة وحدد موعداً اليوم لمناقشتها.
وحضر الجلسة الحريري ورئيس التيار الوطنيّ الحر جبران باسيل ولم يسجل أي سلام أو كلام بينهما، في المقابل عقد لقاء بعد الجلسة بين بري والحريري.
ولخصت مصادر نيابية شاركت في الجلسة لـ”البناء” بأن “الجلسة كانت قصيرة جداً وتمت تلاوة الجلسة ورفعها رئيس المجلس إلى اليوم، لكن التوتر كان سيد الموقف إذ بدت أغلب وجوه النواب مكفهّرة وكأنها تتحضّر لنزال سياسي، ولما لاحظ الرئيس بري هذه الأجواء المتوترة رفع الجلسة وأعطى فرصة لمزيد من الاتصالات للتوصل الى توافق على موقف موحد أو توصية ما إزاء رسالة رئيس الجمهورية”، وأضافت المصادر: “لو لم يرفع الرئيس بري الجلسة لكانت انفجرت خلال لحظات”.
وكشفت المصادر النيابية لـ”البناء” أن “الرئيس بري بحث خلال لقائه مع الحريري مخرجاً لهذه الأزمة وأتبع ذلك بسلسلة اتصالات ومشاورات مع رؤساء الكتل النيابية ستستمر حتى موعد الجلسة اليوم في محاولة لإيجاد مخرج، وإلا فإن الأمور ستتجه إلى تصعيد من قبل الحريري الذي حضر رده في تفنيد كل بنود الرسالة ما يستدرج رد فعل من النائب باسيل لتتوالى بعدها الردود والسجالات ونصبح في مكان آخر”.
وفي هذا السياق أشارت المعلومات إلى أن “الحريري أتى من الخارج خصيصاً من أجل حضور جلسة مناقشة الرسالة، كما أن باسيل حضّر كلمة نارية لإعلان موقف التيار الوطني الحر من رسالة الرئيس عون”.
ولفتت قناة الـ”أن بي أن” إلى أنّ “اللقاء الّذي عقد بري والحريري، في قصر الأونيسكو، معطوفًا على ما يمكن أن تشهده الساعات المقبلة من اتصالات لتخفيف التشنّج والتوتّرات وفق صيغة معيّنة، من الممكن أن تُبرّد الأجواء الّتي تسمح بمعاودة التواصل بين أهل التأليف لإنقاذ البلد؛ وكلّ ذلك مرهون بمواقف القوى السياسيّة وعلى رأسها “التيار الوطني الحر” لناحية ردّه على الردّ المرتَقب من الحريري على رسالة رئيس الجمهوريّة”.
في المقابل أكد معاون الرئيس بري النائب علي حسن خليل أن “اتصالات التهدئة لم تفشل”، متوقّعاً “صدور موقف من مجلس النواب وليس قرار أو توصية”.
وأكدت أوساط نيابيّة في كتلة التنمية والتحرير لـ”البناء” أن “الرئيس بري يسعى قدر الإمكان لتهدئة الوضع وسحب فتيل التوتر، وسيفسح المجال لمناقشة هادئة للرسالة وللنواب للإدلاء بدلوهم، لكن لن يسمح بأن تأخذ الجلسة منحى التصعيد والسجالات السياسية والطائفية”. وأوضحت بأن رسالة رئيس الجمهورية موجهة الى المجلس النيابي أي الى كافة الأطراف ولا تستهدف طرفاً معيناً”، متوقعاً “التوصل الى موقف جماعي يحث الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية على التعاون لتشكيل الحكومة”. وعن موقف الكتلة من دعوة جنبلاط للحريري بالتنازل قالت الأوساط: “على الجميع التنازل لمصلحة البلد ومصالح الشعب اللبناني لا سيما المعنيين بتأليف الحكومة لأن الشعب لم يعد يحتمل. فالأولوية عنده باتت لقمة العيش والمطالب الحياتية”.
بدوره لفت عضو كتلة المستقبل النائب محمد الحجار إلى أن “الحريري سيلقي كلمة اليوم ورئيسُ مجلس النواب يلعب دور الإطفائي ودوراً مهماً في احتواء التشنّج والتعنت من قبل فريق رئيس الجمهورية. وما حصل اليوم هو في صلب النظام الداخلي للمجلس”.
وشرح أمين سر تكتل لبنان القوي النائب إبراهيم كنعان أن “هدف رسالة الرئيس تحريك الوضع الحكومي المأزوم لإخراج البلاد من حالة انعدام الوزن. وهذا أهم ما يجب ان تخلص اليه المناقشات النيابية في جلسة اليوم”.
وفي سياق ذلك أشار عضو التكتل الوزير السابق غسان عطالله إلى أن “لا أحد طلب من الحريري الثلث المعطل والوزير جنبلاط اعترف بذلك، ورسالته أمس الأول إيجابية جداً وكلامه كان منطقياً للغاية وهذا الكلام مطلوب اليوم من المسؤولين كافة، وكان واضحاً بألا ثلث معطل وأنّه مع أي تسوية تنتج حكومة ونحن نلتقي معه في ذلك”.
وكشف عطالله بأن “رئيس الجمهورية قد يوجّه قريباً رسالة للشعب اللبناني بعد الرسالة التي وجّهها إلى مجلس النواب، ورئيس التيار الوطني الحر سيضع خلال كلمته في المجلس النيابي النقاط على الحروف وسيكون واضحاً مع الناس، لأن الناس لم تعد تحتمل تدوير زوايا”.
وفيما أفادت بعض المعلومات عن فقدان النصاب القانوني لجلسة اليوم في حال احتدام المناقشات وإذا لم تتوصل الاتصالات الى حل يرضي الاطراف، أكد عضو كتلة اللقاء الديمقراطي النائب الدكتور بلال عبدالله لـ”البناء” أن “أعضاء الكتلة سيحضرون الجلسة ولن ينسحبوا ولن يدعمو أياً من الطرفين”. وأضاف: “نسلم بأن رسالة رئيس الجمهورية تقع ضمن حقه وصلاحياته الدستورية لكنها بلا جدوى وبلا نتائج بل ستزيد الأمور تعقيداً وتترك توتراً طائفياً البلد بغنى عنه وقد ينعكس التوتر في الشارع”.
وشدّد عبدالله على أن “الطبقة السياسية في واد والمواطن في واد آخر، وهمه الوضع المعيشي والصحي ومستقبله في هذا البلد ولا يهمه الصراع على الصلاحيات الدستورية بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، فيما البلد يقترب من الدرك الاسفل من الانهيار وحينها لن يسلم أي من الأطراف من الفوضى والتفلّت الأمني الذي سيجتاح كافة المناطق”. وأضاف: “من هذا المنطق دعا رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط الرئيس المكلف وكذلك رئيس الجمهورية للتنازل وتأليف حكومة بأسرع وقت وفق صيغة الـ 24 وزيراً”. فكلام جنبلاط ليس موجهاً بشكل سلبي للحريري ولا الهدف تحميله المسؤولية بل لا بد من إيجاد الحل ولو كلف ذلك التنازل لمصلحة البلد”.
إلى ذلك تبلّغ الرئيس بري تأييدَ مصر لمبادرته لحل الازمة الحكومية وذلك خلال استقباله في عين التينة، سفيرَ مصر ياسر علوي الذي قال بعد اللقاء “كما تعرفون الرئيس بري هو العنوان الضروري والممر الالزامي للخروج من أي مأزق كبر أو صغر في لبنان، وهو الممر الأساسي للحلول ولديه القدرة على احتواء الازمات وايجاد المخارج منها، وصيانة الدستور الذي هو الشرط الضروري للخروج من هذه الأزمة”. ودعا الى “حل الازمة الحكومية وأن تتألف الحكومة في أقرب وقت ممكن، لكي يتسنى العمل الفوري للمهمة الإنقاذية بكل الدعم العربي وقد أكدت لدولة الرئيس على تجديد دعم مصر المستمر لجهوده لتأليف هذه الحكومة، وفقاً للاصول الدستورية وبما يحفظ الاستقرار لهذا البلد ويجنبه أي منزلقات غير دستورية أو أي مساس باستقراره”.
البناء