سركيس نعوم – النهار
لا شك في أن مجلس النواب يفتقد أحد أعضائه السابقين حسن الرفاعي الذي يسمّيه كثيرون “دكتوراً” في القانون وهو ليس كذلك. السبب دراسته القانونية الواسعة في فرنسا ومطالعاته وعمله في اختصاصه داخل إدارات الدولة وخارجها بعد تخرّجه، وأخيراً في مجلس النواب الذي نجح داخله في تمثيل أبناء بعلبك – الهرمل دورات عدّة وفشل في ذلك دورات أخرى. لكنه بقي في الحالتين مرجعاً قانونياً لا يُشقّ له غبار وحاضراً في ساحته هذه رغم التقدم في السن وما يُصاحبه من مشكلات متسلحاً بذاكرة استثنائية وبتجربة واسعة وبحسّ وطني لبناني نظري وعملي وواقعي في آن وببعد نظر جعل رأيه “الوطني” والسياسي والقانوني صائباً دائماً. ذلك أنه انطلق من العلم والواقع في آن ومن الحرص على صيغة العيش الواحد في لبنان وعلى إقامة دولة المواطن والقانون. السبب في كتابة هذه المقدمة هو استنجاد “الموقف هذا النهار” بالرفاعي عند الحاجة أو تبرّعه هو بالاتصال بكاتبه بغية توضيح أمر قانوني في موضوع مطروح.
آخر إتصال بين الاثنين كان بعد إرسال رئيس الجمهورية ميشال عون كتابه الدستوري في الشكل وغير الدستوري في المضمون الى مجلس النواب عارضاً له مشكلته مع الرئيس المكلّف تأليف حكومة منذ نحو ثمانية أشهر سعد الحريري، ولا سيما بعدما صار حلّها شبه مستحيل لأسباب معروفة، وبعدما صارت الدولة فاشلة والمجتمع المصرفي الرسمي والخاص مفلساً أو على أبواب الإفلاس، وبعدما ساد الفقر غالبية الناس ومعهم نازحو سوريا ولاجئو فلسطين. قال في ذلك الاتصال: “دستورنا مأخوذ من دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا. وكان ينص في الموضوع المُشار إليه أعلاه على أن لرئيس الجمهورية الحق في توجيه رسالة الى مجلس النواب تتناول أي مشكلة يواجهها، وأن للمجلس الحق في تلاوتها في جلسة رسمية. لكن ليس له الحق في مناقشتها وتالياً في التصويت عليها”.
وقال الرفاعي أيضاً في هذا الخصوص أن المادة التي تحكم موضوع الرسالة تعدّلت في الجمهورية الفرنسية الخامسة إذ صارت: من واجب رئيس مجلس النواب تلاوة الرسالة الرئاسية ومن حق أعضائه في الجلسة الرسمية المخصّصة لذلك مناقشتها لكن ليس من حقّهم التصويت عليها. ومن أهم أسباب منع التصويت الحرص على رئيس الجمهورية وهيبته. إذ أن تصويت غالبية المشاركين في الجلسة وبالأكثرية المطلوبة ضد مضمونها يؤثر سلباً على سلطته إذ يفقده ثقة مجلس النواب المنتخب من الشعب. وفي ذلك إساءة كبيرة جداً له إذ أن انتخابه تمّ بتصويت من مجلس النواب. كما فيه إساءة كبيرة أيضاً وإن كان الشعب ينتخبه لأن الشعب نفسه ينتخب أعضاء مجلس النواب.
طبعاً رأي رئيس مجلس النواب نبيه بري ليس مختلفاً في الجوهر عن رأي النائب السابق الرفاعي. لكن في النظام الداخلي للمجلس مادة تبيح التلاوة والمناقشة وأمراً ثالثاً هو اتخاذ قرار يتعلّق بالمضمون أو توصية أو… وهذا أمرٌ يحتاج الى تصويت. لا يستطيع بري وربما لا يريد تعديل النظام الداخلي المذكور وخصوصاً في المرحلة الحالية الصعبة. لكنه تصرّف أكثر من مرة على نحو يؤكد حرصه على عدم الإساءة الى رئيس الدولة، وعلى عدم السماح لأي رسالة رئاسية بالإمعان في تعميق خلافات الداخل ولا سيما الطائفية والمذهبية وخصوصاً بعدما تحوّلت شخصية. كان قراره دائماً إما طي الرسالة بعد تلاوتها وإما السماح بمناقشة مضبوطة لها، وإما تصويت هدفه طيّها أكثر منه إثبات صوابية مضمونها أو عدم صوابيته، وخصوصاً إذا كان الهدف منها خرق الدستور أو تعديله. هذا أمر لا يقبله بري ولا غالبية أعضاء المجلس.
ما هي دوافع رئيس الجمهورية لتوجيه الرسالة؟ يجيب متابع دقيق للحركة السياسية في البلاد ولأقطابها بالقول: “فكّر الرئيس عون في توجيه رسالة كهذه الى مجلس النواب بعدما تعذّر على الرئيس المكلّف تأليف حكومة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من تكليفه جرّاء خلافات حادّة بينهما. ثم وضع له مستشارون يثق بهم نصّها وأعدّها للإرسال ممهداً لذلك بتسريبات لوسائل الإعلام المتنوّعة. لكنه أحجم عن إرسالها في حينه بعد نصائح عدّة تلقّاها من حليفه الأول “حزب الله” نظراً الى إنعكاساتها السلبية والى تمسّك الأخير بترئيس الحريري الحكومة الجديدة.
لكنها بقيت تراوده. وفي عيد الفطر الأخير إتصل عون ببري مهنئاً في اليوم الثالث للعيد وفتح معه سيرة الرسالة مبلغاً إياه أنه سيرسلها إليه. طبعاً أعطاه رئيس المجلس رأيه غير الموافق أو بالأحرى غير المحبّذ خطوة من هذا النوع. لكن سيّد قصر بعبدا تمسّك بموقفه وأرسل الكتاب الى المجلس النيابي. بدأ بري يفكّر في طريقة لمواجهة هذا الأمر وتفادي سلبياته الكثيرة. أراد تحديداً تفادي مشكلة طائفية كبيرة مع المسيحيين ومشكلة مماثلة مع المسلمين السنّة علماً أن موقفه من الرسالة معروف وجوهره أنها تنطوي على طلب تعديل للدستور مباشرة أو مداورة. علماً أن الرئاسة ليست الجهة الصالحة لذلك وليس بهذه الطريقة على الأقل. وأكد لكل المتصلين به وللفاعليات النيابية التي تشاور معها أنه ليس في وارد تعديل الدستور. وقد غطّى نفسه بالتشاور مع حليفه وحليف عون و”تياره” “حزب الله” وأيضاً مع حليفه الدائم الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط ومع جهات سياسية ونيابية أخرى.
فأوفد الى جنبلاط مستشاره ووزيره السابق علي حسن خليل إذ خشي أن تدفع المواقف التي أعلنها من البرنامج التلفزيوني للزميل مارسيل غانم يوم الخميس الماضي وفيها من الواقعية والإعتراف بسلبية العلاقة مع الحريري الى اتخاذ موقف يصعّد ويعرقل مصير جلسة الرسالة. فأكد له جنبلاط أنه ليس في هذا الوارد، وأنه ليس مع تعديل الدستور رسمياً أو ضمناً، وأن القطيعة بينه وبين الحريري لن تغيّر موقفه، وأنه لن يساهم في تأجيج خلاف عون – الحريري. طبعاً أطلع خليل بري على ما سمع فاتصل بالحريري وحضّه على الاتصال بسرعة بجنبلاط لتطرية الأجواء بينهما من أجل إمرار جلسة “الرسالة الرئاسية”. ماذا حصل بعد ذلك؟