السبت, نوفمبر 23
Banner

من مواطن مُنتج الى “متسوّل”… هكذا قضت السياسات الحكومية على ‏المُجتمع اللبناني

من المعروف في الديموقراطيات، أن الحكومات تتشكّل على أساس برنامج كامل يحتلّ فيه الشق ‏الاقتصادي حصّة الأسد. وبالتالي تأخذ هذه الحكومات ثقة المجلس النيابي بناءً على برنامج (البيان ‏الوزاري) الذي يكون خارطة عمل الحكومة ويتمّ مُحاسبتها بناء عليه وعلى طرق التطبيق المتبعة‎.‎

البرنامج الحكومي، في العالم المتحضر، يفرض رؤية وإستراتيجية معقولة تتمّ ترجمتهما إلى خطوات ‏عملية على أرض الواقع من خلال مشاريع قوانين تقوم الحكومة بتقديمها إلى المجلس النيابي لإقرارها. ‏ولعل أهمّ قانون على هذا الصعيد هو قانون الموازنة العامّة السنوي الذي يُجسّد الإدارة المالية للدوّلة ‏والخطّة الإقتصادية للبلد بما فيه مصلحة المواطن الذي وبحسب فلسفة الديموقراطيات، يأتي على رأس ‏أولويات العمل السياسي، إذ المواطن عماد الوطن وعلّة وجوده.‏

أرست الدراسات العملية والممارسات التطبيقية النظّرة الأساسية لعمل الحكومات، حيث ترتكز هذه ‏النظّرة على إكفاء حاجات المواطن بحسب ما أرساه هرم أبراهام ماسلو الذي صنّف حاجات الإنسان على ‏شكل هرم من خمسة طوابق تبدأ فيه الأولية من الأسفل إلى الأعلى: الإحتياجات الفزيولوجية، إحتياجات ‏الأمان، الإحتياجات الاجتماعية، الحاجة للتقدير، وتحقيق الذات. كل ما يطال الإنسان في حياته موجود في ‏هذا الهرم وبالتالي يُقاس مدى نجاح السياسات الحكومية بحسب وضع المُجتمع في هذا الهرم.‏

اليوم المُجتمع اللبناني موجود في أسفل الهرم، إذ تُظهر البيانات على الأرض أن المواطن اللبناني أصبح ‏عاجزًا عن تأمين أبسط الأمور التي يحتاجها للعيش الكريم (!!!) ولهذا الأمر سبب رئيسي ألا وهو فشل ‏السياسات الحكومية في لبنان على مدى عقود.‏

لبنان ما قبل الحرب الأهلية كان مُزدهرًا ومُنتجًا، فقد بلغت نسبة الصادرات إلى الإستيراد 67% لتنخفض ‏إلى 15% بعد الحرب الأهلية حتى نهاية العام 2019. وهذا يعني أنه قبل الحرب الأهلية كان اللبناني ‏يُصدّر بـ 67 دولار أميركيا لكل 100 دولار إستيراد حيث كان الفارق يُعوّض بالتدفقات المالية التي كانت ‏تأتي إلى لبنان مع قطاع مصرفي وسياحة مزدهرة.‏

عمليًا بعد الحرب الأهلية التي دمّرت نصف الماكينة الإقتصادية (الناتج المحّلي الإجمالي إنخفض إلى ‏النصف بعد الحرب نسبة إلى ما كان قبلها)، كان من الطبيعي أن تنخفض الصادرات وترتفع الواردات ‏‏(أي الاستيراد) بحكم أن هناك عجزاً عن سدّ حاجة السوق الداخلي. المُشكلة التي ظهرت لاحقًا تمثّلت في ‏أن شبح الحرب الأهلية لم يغب عن المشهد السياسي وبالتحديد الحكومي حيث تمّ خلق مبدأ الديموقراطية ‏التوافقية والتي قضت بدون أدنى شك على أي أمل بوضع سياسات إقتصادية مسؤولة شفافة تصبّ في مصلحة المواطن اللبناني.‏

كل الحكومات التي توالت على الحكم منذ الطائف وحتى اليوم، لم يتمّ مُحاسبتها على بيانها الوزاري. ‏وبالتالي أصبح البيان الوزاري هو خطاب يُلقيه رئيس الحكومة في جلسة الثقة ويأخذ الثقة من دون أن ‏يكون هناك أي مُحاسبة من قبل المجلس النيابي للحكومة نظرًا إلى أن قرارات الحكومات المُتعاقبة كانت ‏تُؤخذّ على أساس توافق بين المكونات السياسية في الحكومة والتي هي صورة مُصغّرة عن القوى السياسية ‏في المجلس النيابي، مما يستحيل معه تطبيق مبدأ فصل السلطات الذي يعتبر أساس النجاح المؤسساتي ‏والحوكمة الرشيدة والعمل التنظيمي.‏

الأعوام التي شهد فيها لبنان نموًا مُرتفعًا تراوح بين الـ 7% والـ 10%، كان سببه بالدرجة الأولى تدفقات ‏الأموال من الخارج وإزدهار قطاع الخدمات وبالتحديد التجارة والعقارات والمصارف. من جهة ‏القطاعين الأوّلي والثانوي، تراجعت مُساهمة هذه القطاعات في نموّ الناتج المحلّي الإجمالي لصالح ‏التجارة التي كانت الأرباح فيها خيالية.‏

فقد كان الإزدهار في قطاع الخدمات على حساب القطاعين الأوّلي والثانوي، مع العلم أن كلّ وظيفة في ‏القطاع الصناعي مثلا، تخلق ما بين 3 إلى 5 وظائف في القطاعات الأخرى. ومن جهة أخرى تمّ ‏الاستغناء عن الزراعة في العديد من المناطق نظرًا إلى توجّه العمّال إلى قطاع الخدمات والتي كانت فيها ‏المداخيل أكبر وأقلّ عرضة للمنافسة الخارجية خصوصًا مع معاهدة التيسير العربي ومُعاهدة التبادل الحرّ ‏مع الإتحاد الأوروبي.‏

وأما الفساد في خضم الأرباح الخيالية، فقد لعب دورًا محوريًا في تركيب هيكلية إقتصادية ظرفية – إن لم ‏تكن وهمية – وأقلّ ما يُقال عنها في النظرة الاقتصادية المستقبلية: “هدّامة”؛ إذ جعلت المواطن اللبناني ‏يتعلّق بالخارج في كل إحتياجاته اليومية. فبدل أن يكون هناك سياسات إقتصادية توجّه الإستثمارات نحو ‏القطاعين الأولي والثانوي، كان التُجّار يحصدون حصّة الأسد مع غطاء من قبل أصحاب النفوذ. عمليًا ‏الإستيراد الذي كان يُغطّي أكثر من 85% من الإستهلاك المحلّي، كان محصورًا بـ 80 شركة تتمتّع ‏بحماية قانونية من خلال قوانين أعطتهم حصرية الإستيراد وحرمت المُستثمرين في القطاعين الأولي ‏والثانوي من أبسط الحمايات القانونية (المنافسة الخارجية) أو الحماية المالية (ضرائب وقروض مدعومة ‏من خزينة الدولة).‏

عملية تثبيت سعر صرف الليرة التي هي حق كل مواطن لبناني نظرًا لأهميّتها في الأمن الاجتماعي ‏خصوصًا في الأنظمة التي لا ثبات سياسي وأمني فيها، حوّلها الفساد لخدمة الإستيراد الذي إستهلك أكثر ‏من 300 مليار دولار أميركي منذ العام 2001 وحتى نهاية العام 2020 (أرقام المركزي العالمي ‏للتجارة) مقابل 60 مليار دولار أميركي تصدير! – أي خمسة أضعاف (!)‏

من هنا يُمكن القول إن السياسات الحكومية كبّدت المواطن اللبناني خسائر بقيمة 240 مليار دولار ‏أميركي كانت لتُحوّل لبنان إلى ماكينة إقتصادية بناتج محلّي يفوق الـ 200 مليار دولار أميركي لو تمّ أخذ ‏القرارات المُناسبة آنذاك. لكن وخلافًا لما نصّ عليه أفلاطون في جمّهوريته الفاضلة بأن النخبة التي تحكم ‏تُدير مصلحة عامة الشعب، أصبح المواطن اللبناني مُعلّقًا بالإستيراد بكل ما يستهلكه وبالأحرى أصبح ‏مُعلّقًا بالدولار الأميركي الذي وعند أول مواجهة سياسية مع المُجتمع الدوّلي، فُقد من السوق وتزعزع ‏الثبات النقدي وأصبح لبنان رهينة سوق سوداء تُديرها عصابات محميّة من نفس المجموعة.‏

من خلال نظرة علمية تحليليّة، يمكن القول إن الإنهيار الفعلي بدأ في العام 2015، وإستحكم أكثر في ‏العام 2017 مع إقرار سلسلة رتب ورواتب أقلّ ما يُقال عنها أنها كانت أكبر كذبة في التاريخ اللبناني. ‏هذه السلسلة جاءت لتدّك الهياكل المالية للدوّلة اللبنانية ومعها القطاع المصرفي المُنغمس في ديون ‏الدولة. والضربة القاضية أتّت مع وقف دفع سندات اليوروبوندز التي قطعت عن لبنان آخر مصدر ‏للدولارات وبالتالي ضربت الليرة اللبنانية ومعها الإستيراد الذي يتعلّق به المواطن بشكل مُريب!‏

الأصعب في الأمر هي سلسلة الإجراءات التي أخذتها حكومة الرئيس حسان دياب والتي تصر إلى الآن ‏على اتباعها مع تأكد فشلها وتحقق نتائجها السلبية الكارثية على الواقع اللبناني، فمثلاً بدلاً من أن تقوم ‏بخطوات لدعم الماكينة الإقتصادية، توجّهت نحو حلول مالية خاطئة منها وقف دفع سندات اليوروبوندز، ‏وإلزام مصرف لبنان توزيع 200 دولار لكل مواطن، إضافة إلى بدعة البطاقة التموينية التي تُحاول ‏فرضها وبالعملة الأجنبية، مما سينتج آخر المطاف – إذا ما تم تطبيقها – ديوناً إضافية على دولة في عملة ‏أجنبية هي في الأصل عاجزة عن أداء ما قد استقر إلى الآن في ذمتها، مما يعني التحضير لمزيد من ‏التضخم والعجز.‏

الـ”‏Social Dumping‏” الذي نتجّ عن سياسات الحكومات مردّه إلى ضعف النظر، والمصالح الضيّقة ‏وغياب العلم عن عمل الحكومات. وهذا المواطن الذي كان قبل عامين يعيش بدخل سنوي يُقارب الـ 14 ‏ألف دولار أميركي سنويًا كمعدّل عام (أي ما يُقارب الـ 40 دولارًا في اليوم)، أصبح اليوم يعيش مع أقلّ ‏من 4000 دولار أميركي سنويًا كمعدّل عام (أي أقل من 11 دولار في النهار). بالطبع هذه الأرقام هي ‏معدّل عام فالمعروف أن أكثر من ربع الشعب اللبناني أصبح يعيش بأقل من 1.9 دولار أميركي في النهار ‏‏(الفقر المُدّقع) وأكثر من 55% يعيش بأقل من 3.4 دولار في النهار (الفقر العام).‏

الخروج من الأزمة لا يُمكن أن يتمّ إلا بإجراءات تطال الماكينة الإقتصادية وبالتحديد القطاعين الأولي ‏والثانوي. لا يُعقل أن لبنان كان قبل الأزمة يستورد أبقارا حيّة ولحوم أبقار بقيمة 540 مليون دولار ‏أميركي! لا يُعقل أن الصناعات الغذائية الموجودة في لبنان تعتمد على إستيراد المنتجات الزراعية لبلدان ‏أخرى (مثلا الحمّص والذرة)! لا يُعقل أن لبنان يستورد عبوات المياه البلاستيكية من الصين وهو قادر ‏على إعادة تدوير البلاستيك الموجود في لبنان من خلال مصانع محلّية يُمكن إنشاؤها! لا يُعقل أن لبنان ‏يدعم إستيراد القمح وهو كان في الماضي مركز إهراءات أوروبا! لا يُعقل… لا يُعقل… فأين لبنان اليوم ‏من لبنان الأمس؟

لقد حوّلت السياسات الحكومية المُتتالية المواطن اللبناني من مواطن مُنتج يعمل في الصناعة والزراعة ‏إلى مواطن يحتاج إلى بطاقة تموينية تُموّل من ديون من البنك الدولي، لكي يأكل ويشرب! هذه السياسات ‏الخاطئة كلها حوّلت المواطن الذي يبرع في الخارج إلى مواطن “متسوّل” في بلده! وهذا الأمر سيزداد ‏سوءاً مع تفاقم الأزمة السياسية وإنهيار كل القطاعات الحيوية للمواطن اللبناني.‏

قولنا الاستدانة المنتجة مبني على أصل استعمال المديونية؛ فالمديونية عامل مساعد في نهضة الاقتصاد ‏إذا ما تم استعمالها على النحو القويم لا خبط عشواء بلا تخطيط أو حد مرسوم سواء على صعيد الفرد أم ‏المؤسسة أم الدول. وهي في أصل استعمالها وضمن إطار العلمية الإقتصادية وسيلة مهمة ومحفز ‏للنهوض ولذا عرفت في العلوم المالية بالرافعة (‏Leverage‏). إلا أنه عندما يستعمل الأمر في غير ما ‏وضع له تنعكس النتائج وتظهر المشاكل، ومن أمثلة ذلك أن تتخذ المديونية لتغطية المديونية مما يؤدي إلى ‏تسلسلها وخلق ما يعرف بـ (‏Ponzi Scheme‏) أو ما يُعرف بـ “لحس المبرد” عند العوام، وهذا ما ‏يمكن توصيفه في حالة تغطية عجز موازنات الحكومات المتعاقبة. وعليه، فكل مشروع إستدانة لتغطية ‏نفقات غير منتجة يرسخ دعائم هذه المعضلة ويجعل الخروج منها أصعب فأصعب.‏

لماذا لا يُحرّك المواطن ساكنًا؟ العديد من المراقبين يُعطون تفسيرًا من باب الفلسفة أو علم الإجتماع ‏‏(متلازمة ستوكهولم، الإنقسام الطائفي…)، ولعلّ قول كارل ماركس هو الأكثر إنطابقًا على حالة لبنان: ‏‏”الفقر لا يصنع ثورة، وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة”.‏

الديار

Leave A Reply