سابين عويس – النهار
بحذر شديد مصحوب بإنعدام كامل للثقة، تلقف اللبنانيون اقتراح حاكم المصرف المركزي رياض سلامة عزم المصرف المباشرة اعتباراً من نهاية حزيران الجاري دفع مبالغ تصل الى ٢٥ الف دولار أميركي نقداً. مرد الحذر وغياب الثقة عدم وضوح الآلية او البرنامج الذي سيتم من خلالهما الافراج عن جزء من ودائع اللبنانيين المحتجزين منذ تشرين الاول ٢٠١٩ في المصارف من دون أي مسوغ قانوني، بل بسبب عدم توافر السيولة لدى هذه المصارف لسداد الودائع بغير العملة اللبنانية.
منذ التاسع من أيار الماضي، تاريخ إطلاق سلامة مبادرته، لا يزال الغموض يكتنف الآلية، في ظل عدم توصل الحاكم الى تفاهم مع المصارف على مصدر التمويل، بعدما رفض أركان القطاع ان يتم التمويل مناصفة بين المركزي والمصارف. علماً ان نسبة الخمسين في المئة التي سيتحملها المركزي ليست في الواقع الا من أموال المصارف الموجودة لديه ضمن الاحتياطات الالزامية لديه.
الخلاف بين الجانبين لم يصل الى نتيجة فورية كما كان الحاكم يرغب بهدف ضخ جرعة من الثقة في السوق المحلية يستفيد منها الحاكم في الدرجة الاولى، الذي يتعرض منذ عامين الى حملة استهداف واسعة إعلامية وسياسية وقضائية على خلفية اتهامات بالفساد واختلاس أموال، كما تستفيد منها المصارف العاجزة عن تقديم اي مبادرة إنقاذية لمؤسساتها والصناعة المصرفية المهددة بخسارة دورها وموقعها في الاقتصاد وعلى الخريطة الخارجية.
عجزت المصارف عن تلقف المبادرة. وبدلا من ان تعمل لأن تكون “ام الصبي”، فتجهد لتأمين مصادر تمويل لإعادة ما تيسر للمودعين من اموالهم الخاصة، التزمت الرفض على قاعدة عدم قدرة عدد كبير منها على تأمين التمويل المطلوب، ولا سيما بعد التزامها تطبيق التعميم ١٥٤، من حيث زيادة رأس المال وتأمين ما نسبته ٣ في المئة من مجموع ودائعها سيولة في الخارج.
والواقع ان الخلاف كان في الدرجة الاولى على حجم المبلغ المطلوب، وليس على المبدأ، بحسب ما تقول مصادر مصرفية مطلعة. فالمصارف ليست راغبة في ان تستمر في حال الشلل وانعدام الثقة التي تعاني منها منذ اندلاع أزمة السيولة، بل تسعى الى استعادة دورها وثقة زبائنها. وترى ان توظيفاتها لدى المركزي ضمن الاحتياطي الإلزامي هي حق للمودعين، ويمكن للمركزي ان يحررها لحساب هؤلاء بدلا من هدرها على دعم غير مجدي ولا يصل في معظمه الى المواطنين.
في العرض الذي قدمه الحاكم الى المصارف، ان يصار الى دفع ما مجموعه ٥٠ الف دولار لكل مودع تبلغ وديعته هذا السقف في حد أقصى، نصف القيمة اي ٢٥ الف دولار بالدولار، والنصف الثاني يحول الى الليرة ويدفع وفق سعر المنصة الجديدة، على ان يتم دفع هذه الأموال مناصفة من السيولة الجاهزة من ودائع المصارف لدى المركزي اي الاحتياطي الإلزامي، ومن ودائع المصارف في الخارج.
بحسب التقديرات،فان الكلفة المقدرة لهذه العملية تصل الى نحو ٧،٥ مليارات دولار يتم تقسيطها على ٣ سنوات، بحيث يتحمل كل جانب ما مجموعه مليار و٢٥٠ الف دولار سنوياً.
وبحسب تقديرات المركزي، يستفيد من هذه العملية نحو ٩٠٠ الف مودع يشكلون ما نسبته ٧٥ في المئة من مجموع المودعين.
هدف المركزي بات واضحاً من هذه العملية، ويتمثل في الاستعاضة عن هدر الاحتياطي على دعم غير مجدٍ، بتوفير المال لاصحابه. تتراجع النقمة على الحاكم، بعد ان يرضي النسبة الأكبر من المودعين الصغار الذين سيستعيدون ودائعهم، ويجنبهم التعرض لعملية اقتطاع قسرية تعرضوا لها على مدى ما يقارب العامين في ظل الأسعار المتعددة للدولار والقيود غير القانونية على السحوبات والتحويلات.
لن يكون في مقدور اي فريق سياسي ان يهدد الحاكم او يضغط عليه للاستمرار في الدعم كما هو الحال الآن، لان جزءاً اساسياً من الاحتياطي لديه سيعاد الى أصحابه. وبهكذا عملية، سيتم خفض نسبة الاحتياطي بالعملات الأجنبية، طالما ستتراجع قيمة الودائع، بما يسمح للمركزي ان يمول حصته.
ولكن ماذا عن المصارف؟
المعروف ان ثمة مصارف كبرى قادت منذ الإعلان عن الاقتراح حملة ضده. قلة من المصارف وافقت على السير فيه، وفق اجواء الحاكمية، بعضها ممن تمكن من بيع بعض الأصول في الخارج فكون سيولة تتيح له الدفع. وفي تقديرات الحاكمية ان لدى المصارف في الخارج ما بين ٤ الى ٥ مليارات دولار يمكن التصرف بها.
المصارف ترفض هذا الكلام وترى فيه تجنياً، وتؤكد مصادرها انها تبدي كل استعداد للدفع للمودعين ضمن خيارين يفرضهما واقع الأمور التي بلغتها أزمة السيولة: اما من حساباتها الجارية لدى مصرف لبنان، وهي منفصلة عن الاحتياطي، وأما بالليرة اللبنانية وفق سعر المنصة الرسمية. وأي كلام آخر عن دفع بالدولار، لن يجد له سبيلاً حسب هذه المصادر التي تجزم بأن السيولة النقدية بالدولار بين أيدي اللبنانيين تفوق السيولة المتوافرة في نيويورك!
ولا تخفي في هذا المجال ان عبقرية التحقيقات القضائية مع شركة مكتف أدت الى شُح في عمليات تسليم الدولار النقدي، بعدما خفضت هذه الشركة حجم أعمالها.
إذن مصير ال٢٥ الف دولار نقداً لن يكون أفضل من مصير قرار مجلس الشورى الأخير القاضي بسقاط العمل بسعر المنصة اي ٣٩٠٠ ليرة والعودة الى السحب بعملة الحساب.
والنتيجة مزيد من التخبط والدوران في حلقة مفرغة يزداد تفاقمها بسبب انعدام الثقة، ما يجعل كل القرارات والاقتراحات طبخات بحص لا تؤدي الا الى مزيد من الاقتطاعات لاموال المودعين، ولا سيما الصغار منهم الذين بدأوا يتبددون يوماً بعد يوم نتيجة سحب ودائعهم بأقل من قيمتها الحقيقية!