خالد ابوشقرا – نداء الوطن
حوّل فساد الطبقة السياسية المتحكمة بمقدرات اللبنانيين الحديث عن احتياطي الذهب إلى “تابو”، فيما لا يختلف إثنان على أنه ثروة محفوظة لمواجهة الأيام العجاف. هذا الخط “الأصفر” الذي يرفض البعض تجاوزه، بغض النظر عن مدى كون الإستعمال مبرراً، قد يطفئ “إشعاعه” جزءاً مهماً من الأزمة في حال أحسن توظيفه، أو قد يلهبها أكثر في حال تبذيره. الفرق بين الخيارين مفصول بـ”شعرة” الحكمة والأخلاق، الدقيقة.
درجت العادة مؤخراً على احتساب مخزون الذهب مع احتياطي العملات الأجنبية، مع أن الفرق بينهما كبير جداً. فالذهب هو ثروة عامة وطنية، واحتياطيات العملات الأجنبية، ومن ضمنها التوظيفات الإلزامية، ملك خاص للمودعين والمصارف. وبحسب القانون 42 الذي صدر عن مجلس النواب اللبناني في العام 1986، فانه لا يجوز استعمال هذه الثروة المقدرة بـ287 طناً بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلاّ بنصّ تشريعي يصدر عن البرلمان. ومنطق الأمور يفترض أن يكون تسييل الذهب للضرورات القصوى وبما يخدم الوطن والمواطن وليس الإحتفاظ به لـ”الديكور”.
القطاع الإستشفائي ينازع
اليوم وصل لبنان إلى المفترق الأخطر، فإما يجترح الحلول سريعاً، وإما تنطلق شرارة “الإبادة الجماعية”، من العجز عن تقديم الخدمات الطبية والإستشفائية. “فالمستشفيات تلفظ أنفاسها الأخيرة، والقطاع الصحي ينزف خيرة طاقمه البشري”، يقول عضو مجلس الإدارة في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، والخبير في مجال التأمين أنطوان واكيم: “12 في المئة من الأطباء غادروا لبنان، وترك نحو 15 في المئة الجهاز التمريضي للعمل في الخارج. النقص في الأدوات والمعدات الطبية مخيف. المختبرات عاجزة عن تأمين الكواشف المخبرية ومحاليل الفحوصات الضرورية. المستشفيات غير قادرة على إجراء الصيانة الدورية على معداتها وغرف عملياتها ومستلزماتها الصحية”. وبحسب واكيم فان “النظام الطبي كان مبنياً على دخل قومي يقدر بحسب البنك الدولي بـ11400 دولار في العام 2019، تراجع إلى حدود 3 آلاف دولار حالياً، وهو يستمر بالإنخفاض الحاد يومياً. ما وضع الجهات الصحية أمام خيارين أحلاهما مر: إما رفع التعرفة الإستشفائية إلى سعر صرف السوق وعندها تفلس الجهات الضامنة، ويعجز 90 في المئة من المواطنين عن الإستشفاء وينهار القطاع. وإما الإبقاء على سعر يتراوح بين 1515 و3900 ليرة مقابل الدولار، وبالتالي العجز عن تقديم الخدمات والوصول إلى نفس النتيجة في غضون فترة قصيرة.
ولعل أخطر ما يواجهه القطاع الصحي هو وضع “حبل” نزيف الأدمغة وأصحاب الإختصاص على “جرار” الهجرة في القطاع الصحي ومختلف القطاعات المهنية. الأمر الذي لا يشكل خطراً على الواقع الحالي فحسب، إنما يهدد مستقبل البلد وصورته المشرقة في العالم العربي ويفقده القيم المضافة التي لطالما تميز بها كمستشفى الشرق الأوسط وجامعته ومختبره ومطبعته ومعقل الفكر والإبداع فيه.
تسييل 5% من احتياطي الذهب
هذا “المَحِل” في القطاع الصحي الحيوي، ليس هناك من طريقة لتمويله إلا بـ”رهن 5 في المئة من احتياطي الذهب الذي تتجاوز قيمته اليوم 18 مليار دولار”، برأي واكيم، “إذ إنه أمام إفلاس الدولة والمصارف والمودعين، وانتظار المجتمع الدولي إصلاحات لن تأتي، وإن اتت فسيكون بعد فوات الأوان، فان الإنهيار المتسارع في قطاع المستشفيات لم يعد مسألة شهور بل أسابيع وربما أيام. من هنا فان “تسييل” 900 مليون دولار، يؤمن الدعم للمستشفيات بشقّيها العام والخاص ويساعدها على الصمود في هذا المأزق العصيب. على أن تستلم المهمة لجنة موثوقة، مطعمة بأشخاص من الخارج لضمان استقلاليتها وتحت إشراف مؤسسة دولية متخصصة. تقدم هذه اللجنة كل الأرقام بالتفصيل في نهاية كل فترة زمنية معينة وتعلن عن أسماء المستفيدين والمبالغ التي استفادوا منها. نجاح هذه التجربة التي من المفترض أن تظهر نتائجها بعد 6 أشهر، يمكن تعميمها على التربية بتخصيصها بـ 2.5 إلى 3 في المئة من الإحتياطي، ولإعادة إعمار بيروت والمرفأ بتخصيصهما بنسبة 10 في المئة. وبإمكاننا تأمين الكهرباء لكل لبنان من خلال رهن 5 في المئة وشراء معملين لتوليد الطاقة”.
الإنقاذ العام واستمرار النظام
هذا الطرح المنطقي في الشكل، يحمل بحسب العديد من معارضي استخدام الذهب في ظل وجود هذه السلطة، مخاوف جدية من تغذية الفساد واستمرار هدر المال العام. خصوصاً في حال استمرار الأزمة وتجدد الحاجة إلى التمويل بعد فترة قصيرة. فالإنقاذ العام Bailout عبر تسييل جزء من الذهب ينقذ المرضى والقطاع الصحي، إلا أنه يؤدي إلى استمرار المنظومة نفسها. إذ لا يخفى على أحد حجم التضخم المرضي في القطاع الإستشفائي والأدوية، ومثلهما في التعليم والمصارف وغيرها الكثير من المرافق. فصحيح أن لبنان طالما اعتبر رائداً في المنطقة في الخدمات الطبية، إلا ان بعض التكاليف غير مبررة. حصة الفرد اللبناني من الدواء تبلغ 350 دولاراً سنوياً، في حين أنها لا تتجاوز 180 دولاراً في المملكة العربية السعودية. ويوجد في لبنان 67 مركزاً لتمييل القلب، في حين لا تتعدى الحاجة 12 مركزاً، كما يوجد 24 غرفة لعمليات القلب المفتوح، بما يوازي المتوفر في كل فرنسا. وتتواجد مختبرات للتصوير الشعاعي والفحوصات المخبرية أكثر من أي دولة في العالم بالنسبة إلى حجم البلد وعدد السكان. من هنا فان الخوف أن يلغي الإنقاذ العام فرصة التصحيح المأمولة.
استعمال “الفرع” قبل ضياع “الأصل”
في المقابل فانه مع وصول البلد “المنتحر” إلى مرحلة النزاع الأخير، أصبح المطلوب حلولاً سريعة وعملية، و”من بعدها ننتقل إلى تنفيذ الإصلاحات”، من وجهة نظر واكيم. فعدم الإستفادة من “فرع” الذهب في هذا الوقت بالتحديد، قد لا يؤدي إلى انهيار المستشفيات والتسبب بفوضى عارمة، إنما يهدد بضياع “الأصل” أيضاً. و”الشواهد من التاريخ الحديث في لبنان وعالمنا العربي كثيرة التي أدت إلى ضياع وسرقة الثروات المكدسة عند اشتداد الأزمات وانتشار الفوضى”. “في العراق على سبيل المثال نهب أكثر من 20 مليار دولار من المصرف المركزي والقصور الرئاسية عندما انهار النظام. وفي لبنان تم السطو مطلع الحرب الأهلية في العام 1976 على فرع البنك البريطاني في منطقة باب ادريس، الذي يحتوي على أكبر عدد من الخزنات الشخصية، وذلك بعدما دكت جدرانه بنيران المدفعية ونهبت أموال المودعين والمؤسسات والشركات والأفراد. أكثر من ذلك فان سويسرا وعظمتها دفعت في الحرب العالمية الثانية مليار فرنك لإخراج ألمانيا النازية من دون شروط، كما دفعت فرنسا خمسة مليارات فرنك ذهبي لتحرير باريس المحاصرة من ألمانيا وبروسيا في عام 1871. ألا تستأهل هذه الأزمة الطاحنة التي نمر بها اقتطاع 5 أو 10 في المئة عبر الرهن وليس البيع، لـ”نحرر” شعبنا من الجوع ونؤمن أبسط الخدمات الطبية؟”، يسأل واكيم، “خصوصاً أن الإستفادة من جزء بسيط من ثروة الذهب، قد يجنب البلد خضات إنسانية وأمنية وإجتماعية خطيرة جداً”.
بين العار من عدم استخدام سبائك الذهب لوقف انهيار أحجار “دومينو” الإقتصاد، وبين الخوف من تضييع “التركة” على “طاولة قمار” الرهانات الخاطئة، يبقى المشرك واحد: سلطة سياسية فاسدة تحول كل الثروات إلى بؤس بسبب انعدام الثقة بها.