ذوالفقار قبيسي – اللواء
في أول كانون الثاني من العام ٢٠٢٠ بلغ ما ضخّته مصارف لبنان بالدولار بشكل تسليفات للقطاع الخاص نحو ٥١ مليار دولار وللقطاع العام نحو ٣١ مليار دولار وللبنك المركزي ٥٤ مليار دولار (مما يسمّى «فجوة مصرف لبنان» خارج الاحتياطي الإلزامي) بما بلغ مجموعه ١٣٦ مليار دولار من أصل ما تدفق الى المصارف من ودائع اللبنانيين المقيمين والمغتربين والعرب والأجانب بالعملات الأجنبية.
وقد عاش الاقتصاد اللبناني في أجزائه الثلاثة: القطاع الخاص والدولة اللبنانية واحتياطيات البنك المركزي على هذا الكم الكبير من الدولارات التي تزيد عن ٧٠٠% من حجم الناتج الإجمالي اللبناني السنوي المقدر من قبل صندوق النقد الدولي بنحو ١٨ مليار دولار. وبعض هذه الأموال يصعب استرداده مثل بعض القروض المتعثرة للقطاع الخاص أو الجزء الأكبر من القروض المقدمة للقطاع العام، إضافة الى الجزء الأكبر من الفجوة المقدرة لدى مصرف لبنان، ليبقى عندها أسئلة في غاية الأهمية:
بعد أن ضاقت السبل أمام مصارف لبنان من حيث توقف تدفق الدولارات بشكل ودائع جديدة، وازدياد الحاجة الى تسديد أجزاء من الودائع القديمة لا سيما بعد طلب مصرف لبنان الى المصارف إعادة جزء من ودائع الى المودعين بمعدل ٤٠٠ دولار شهريا من حوالي مليون حساب على مدى ه سنوات، الأمر الذي – إذا نفّذ! – سيستنزف ما تبقّى من سيولة لدى المصارف – إذا وجدت! – لا سيما أمام صعوبة استرداد المصارف ما لها من قروض على الدولة أو ما لها من قروض متعثرة Bad Debts على القطاع الخاص، وفي هذه الحالة سيكون من الصعب ان لم يكن من شبه المستحيل أن تتمكن المصارف بعد الآن ضخ مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد الخاص والعام، أو لتمويل استيراد مختلف أنواع السلع المعيشية والضرورية وحتى الكمالية، ومختلف أنواع القروض السكنية والصناعية والزراعية والسياحية والتعليمية والعلمية والخدماتية (والمساحيق التجميلية – ! – التي وحدها بين سائر المواد لم يتراجع استيرادها عكس كل المواد الأخرى التي تراجع استيرادها دون إستثناء!!).
والمحصلة النهائية
… ان تراجع هذا الدفق من الدولارات الى ما يشبه الجفاف بسبب فقدان الثقة بالايداع والاستثمار في لبنان وتوقف القروض والتسهيلات والمساعدات والهبات بسبب العوامل السياسية المحلية والاقليمية والدولية، سوف يزيد أكثر فأكثر معدلات الفقر في لبنان بكل ما لهذه المعدلات من صلة ليس فقط بالوضع الأمني وإنما أيضا بأي محاولة لمكافحة الفساد الذي زاد واستشرى في زمن البحبوحة فكيف الآن وقد دخل الفقر (والجوع!) الى منازل نحو ٦٠% من اللبنانيين، وتراجع الحد الأدنى للأجر الشهري في لبنان الى ٥١ دولارا مقابل ٩٥ دولارا في بنغلادش و٦٢ دولارا في سريلانكا، وبات البلد الأكثر فقرا بين البلدان العربية بإستثناء اليمن والسودان حيث الحد الأدنى للأجر ٣٥ دولارا و١٢ دولارا على التوالي. حتى ان الحد الأدنى للأجر في كل من المغرب والأردن يفوق ستة أضعاف الحد الأدنى للأجر في لبنان مقابل أكثر من ضعفين الحد الأدنى في مصر والجزائر وموريتانيا.
والمشكلة ان تراجع ضخ الدولار لا سيما في بلد ٨٠% من اقتصاده مدولر مثل لبنان، يشلّ الاستثمار ويزيد في الفقر والبطالة، فإذا تآلف ذلك مع درجة قياسية عالية من الفساد تحوّل الوضع الى «حلف جهنمي» يجهز على مقومات البلد على الصورة المروّعة التي وصف فيها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان العلاقة بين الفساد والاقتصاد في قوله: «الفساد مدمر للأسواق، مقوض للرخاء، والبوابة الرئيسية للجريمة، وأخطر ما يهدد أمن البشرية وازدهارها». فماذا وقد حلّ لبنان في «مرتبة عالية جدا» في درجة الفساد حيث نال الدرجة ١٤٩ بين دول العالم حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية عن درجة الفساد العالمية للعام ٢٠٢٠. ولم تعلُ على «مرتبة» الفساد في لبنان بين الدول العربية سوى ٧ دول هي: العراق وليبيا والسودان واليمن وسوريا والصومال في الدرجات ١٦٣ و١٧٣ و١٧٤ و١٧٦ و١٧٨ و١٧٩ على التوالي.
ويضاف الى تأثيرات الفساد على الاقتصاد لجهة تراجع الثقة وتوقف الايداعات والاستثمارات ما يؤدي إليه من انخفاض واردات الدولة ودورها في حفظ الأمن مما يثير الفوضى والاضطرابات الاجتماعية. كما يضاف خصوصية مستجدة في حال لبنان هي تأثير ضياع ودائع الناس وحرمانهم من أموالهم على همّتهم ورغبتهم وقدرتهم على العمل والانتاج على الصورة التي عبّر عنها ابن خلدون في هذه العبارة التاريخية: «إعلم ان العدوان على الناس بأموالهم ذاهب بآمالهم في اكتسابها وتحصيلها لما يرونه من ان غايتها ومصيرها انتهى بها من أيديهم!. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا من السعي في الاكتساب».
حتى كأن عالم الاجتماع العربي الكبير يرسم صورة دقيقة عن أحوال اللبنانيين اليوم في أموالهم المنهوبة وطاقتهم المهدورة!