السبت, نوفمبر 23
Banner

كأنها “جريمة حرب”: إتلاف حليب الأطفال ولا بيعه رخيصاً

خضر حسان – المدن

صورة المواد الغذائية المرمية أرضًا بعد انتهاء صلاحيتها، شكّلت صفعة قوية لجَمْعٍ كبير من اللبنانيين الراكضين بحثًا عمّا يمكن شراؤه بكلفة مقبولة، وسط غلاء أسعار لا يجد أمامه إلاّ طريق الارتفاع. والمشكلة الأكبر هي تلف حليب الأطفال في وقتٍ يعزُّ إيجاد علبةٍ منه في الصيدليات.

إتلاف قانوني

اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بصورة المواد الغذائية المتلفة. فانهالت التعليقات الرافضة لتخزين البضائع بانتظار رفع الدعم والاستفادة من تحليق الأسعار. هي الصورة الأقرب إلى الحقيقة، لأنها مرتبطة بواقع التخزين والاحتكار الذي يلفّ قطاعات المواد الغذائية والأدوية والمحروقات، وتؤكّده عمليات الدهم التي تقوم بها وزارتا الاقتصاد والصحة، رغم محدوديّتها وتسرّب رائحة الشعبوية والرقابة الفلكلورية منها. كما أن المشاهدات اليومية للمستهلكين، تؤكد وجود عمليات التخزين وحرمان الناس من حقّهم الأساسي في الوصول إلى المواد الغذائية.

المقاربة الأوّلية لعملية التلف، خلصت إلى أن الشركة المعنية فضّلت تخزين المواد لفترة زمنية طويلة، عوض عرضها في السوق. لكن الشركة التي اتّضح أنها شركة Vivacity and Prodigy الموزعة لمنتجات الأغذية في لبنان، كانت قد “سحبت هذه المنتجات من السوق قبل ثلاثة أشهر من تاريخ انتهاء صلاحيتها، ليتم تلفها وفق الأصول المتبعة الخاضعة لمعايير سلامة الغذاء، وبعد الحصول على موافقة كل من مجلس الإنماء والإعمار ووزارة المالية”، وفق ما أوضحته الشركة في بيان لها يوم الثلاثاء 15 حزيران.

أي أنه استنادًا لتبرير الشركة، ليس في عملية التلف أي تخزين للمواد بهدف مراكمة الأرباح وبيعها بسعر أعلى. فالتلف تقرر سابقًا، لكن عملية الحصول على موافقة الجهات المختصة “أخذت أكثر من سنة، بسبب عدة عوامل، أهمها الإقفال التام للبلد بسبب جائحة كورونا، وغيرها من العوامل المرتبطة بالوضع العام للبلد”.

ذريعة السلامة العامة

يوضح روجيه ميغيرديتشيان، الشريك الإداري في الشركة، أن سحب المنتجات المنتهية الصلاحية من السوق يُعَدّ “جزءًا لا يتجزأ من ضمان سلامة الغذاء الكاملة للمستهلكين”.

يصحّ هذا التوصيف إن كان انتهاء الصلاحية أمرًا عرضيًا لا ارتباط له بجشع التجّار. ومن هنا، على وزارة الاقتصاد مسؤولية أساسية في كشف حقيقة التلف. فانتهاء صلاحية تلك المواد، يعود بحسب ميغيرديتشيان إلى “عامي 2018 و2019 وأوائل عام 2020، أي قبل البدء ببرنامج دعم منتجات الأغذية في لبنان”.

انطلاقًا ممّا تقدّم، تتناقض الوقائع. فالحصول على موافقات التلف، أخذت أكثر من سنة، وهي عبارة فضفاضة قد تعني سنتين أو ربما عشر سنوات، ولم توضح الشركة حقيقتها. لكن “بعض تلك المواد تعود إلى العام 2018″، أي يمكن الركون بالحد الأدنى إلى أن العام المذكور هو عام المقارنة. فهل انتظرت الجهات المعنية نحو سنتين ونصف لإعطاء الموافقة؟

بين العامين 2018 و2019، لم يكن فيروس كورونا قد انتشر، كما أن الوضع الاقتصادي والنقدي لم يكن قد انفجر، ما يعني أن الأمور كانت منتظمة ولا مبرر للتأخير سوى الإهمال والفساد، معطوفًا على خيار التخزين وعدم خفض الأسعار، وإن ساهم ذلك في تسريع عملية الاستهلاك قبل انتهاء الصلاحية. وهذه المعوقات، تنفي النية الحسنة المتعلقة بضمان سلامة الغذاء.

ويضيف انفلات الرقابة في ظل الأزمة وارتفاع موجة التهريب، مغريات إضافية لتخزين البضائع وتغيير تاريخ صلاحيتها، وتهريبها إلى سوريا أو بيعها في المناطق الفقيرة والمخيمات الفلسطينية ومخيمات اللاجئين السوريين، حيث تنعدم الرقابة مقارنة مع بضع جولات تجريها وزارة الاقتصاد على بعض المراكز التجارية للتأكد من صلاحية البضائع المباعة لديها.

بين القانون والأخلاق

بيع المنتجات بأقل من سعر الكلفة، أمر ممنوع لضمان عدم المضاربة. ويوجب القانون تلف البضائع المنتهية الصلاحية بطريقة مدروسة. وإن كانت ملابسات القضية الراهنة ما زالت مبهمة وتحتاج لإيضاحات وتحقيقات، إلا أن البُعد الأخلاقي هو الأهم.

فإن كان البيع بأقل من سعر الكلفة ممنوعٌ، فالبيع بهامش ربح ضيّق، مسموح، وهو المخرج الآمن الذي يمكن اعتماده لبيع المنتجات قبل انتهاء صلاحيتها، من دون الحاجة لتلفها بعد تلك المدّة.

ما يمنع البيع بأسعار أقل، هو الحفاظ على سعر السوق وعدم فضح هامش الربح الواسع الذي يعتمده التجار في ظل ما يسمّى بالاقتصاد الحر. إذ يفضّل التجار رمي جزء من المنتجات لضمان السعر، وهو ما تقوم به الكثير من الدول مع منتجات تمسّ الأمن الغذائي العالمي، كالقمح مثلًا. وما قامت به الشركة المذكورة، وغيرها من الشركات التي لم تُسلّط عليها الأضواء، “هو فعل قانوني في الأحوال العادية، لكننا اليوم في ظروف خاصة، يتحوَّل معها تلف المواد الغذائية إلى فعل يمسّ الأمن القومي، انطلاقًا من بوابة الأمن الغذائي”، وعلى حد تعبير مصادر اقتصادية.

وتوضح المصادر في حديث لـ”المدن”، أن ركون الشركة إلى الحصول على الموافقات القانونية للتلف، قد يكون قد جاء بعد موجة الرقابة التي كثّفتها وزارة الاقتصاد والجهات المعنية بحماية المستهلك، فخافت الشركة افتضاح امر تخزين مواد منتهية الصلاحية، فأعلنت عنها ضمن إطار تلفها، فلا يسهل تصديق وجود كميات مخزّنة من العام 2018 من دون الحصول على إذن لتلفها. فهذا التصريح يعني وضع وزارة الاقتصاد موضع الاتهام بالتقصير.

إلى حين حسم ما هو مبهم في هذه القضية، توضح المصادر أن البضاعة المتلفة لا تعني تسجيل خسائر على الشركة، فهي استعادت كلفة البضاعة وربحها من خلال الأسعار المرتفعة التي بيعت وفقها باقي الكمية بعد انتاجها أو استيرادها وطرحها في السوق.

الاحتمالات مفتوحة بانتظار التحقيقات الرسمية. هذه هي الخلاصة المنطقية. لكن بأي منطق تغض الدولة الطرف عن التهريب والتخزين والاحتكار المقونن عبر الوكالات الحصرية والمرافق للاحتكار المغطّى سياسيًا؟ توسيع الهوّة بين القانون والمنطق والأخلاق، يدفع للاعتقاد أن سوء النية في القضية الراهنة، هو الأصل، وليس البطء في إتمام الاجراءات القانونية.

Leave A Reply