نبيل هيثم – الجمهورية
كانت الطائرة في أحلى حالاتها، أقلعت بركابها بسلام واطمئنان، واستقرّت على ارتفاع شاهق، وصارت تتعرّض بين حين وآخر لمطبّات هوائيّة «ترجّها»، ومن ركابها مع كل مطبّ من «يبسمل» ويتلو آيات من القرآن، ومنهم من يصلِّب، ومنهم من يمارس في سرّه طقوس ديانته، حتى تعبر الطائرة تلك المطبات بسلام.
فجأة، يُصاب الطيار بنوبة قلبية قتلته على الفور، مساعد الطيار رأى الطيار منقطع النفس وقد «دكى» رأسه ولواهُ نحو كتفه، فأرهبه هذا المشهد، حاول أن يشغّل الطيار الآلي، فإذا به معطّل، ومن شدّة ارتباكه وهلعه، تعاجله نوبة قلبية ومات هو الآخر.
«فِلتِتْ» الطائرة في الجو، صارت قمرة القيادة فارغة، والمضيفات أتخذت كل منهن زاوية، وشرعن في الولولة والندب من شدّة الخوف، والركاب صاروا لوحدهم؛ صراخ، عويل، وفوضى، و«دبكوا» مع بعضهم البعض.. فيما الطائرة تهوي بهم نزولاً الى الارتطام الكارثي.
هذه الصورة المرعبة، يعرضها مرجع مسؤول، وينطلق منها ليقول إنّ حال لبنان يشبه حال تلك الطائرة السيئة الحظ؛ أزمة تخنق لبنان اقتصادياً ومالياً وتهدّد بمحوه وإفناء شعبه، وقمرة قيادة البلد فارغة، وليس فيها من هو قادر على قيادته وتخليصه من الارتطام.
فرئيس الجمهورية موجود، لكنه لا يملك ان يقود وحده، ويحكم وحده، والحكومة التي يُفترض ان تتولّى القيادة، غير موجودة، او ممنوع عليها ان تُشكَّل لتقود، والرئيس المكلّف مقيّد، لا يمتلك اي صلاحية تقريرية صدور مراسيم الحكومة، وحكومة تصريف الاعمال تشبه ذاك الطيار الآلي المعطّل. اما المكونات السياسية فمنصرفة الى مصارعة بعضها البعض على قشور وسطحيات وحسابات سياسية وشعبوية وانتخابية، غير عابئة بلحظة الارتطام القاتل والدمار الرهيب التي تدنو.
تلك الطائرة سترتطم بالارض حتماً، وكل ركابها ذاهبون مع ارتطامها الى مصير مشؤوم، ولبنان البلا حكومة تتولّى القيادة والزمام، لن يكون مصيره مختلفاً عن مصير تلك الطائرة. وساعتئذ هل ستبقى هذه المكوّنات، وإن بقيت، هل سيُبقي الارتطام لها شيئاً تختلف عليه؟
10 اشهر من الفراغ الحكومي، ومن الدوران الفارغ في ما باتت تُسمّى «مهزلة التأليف»؛ الحكومة ومعها البلاد والعباد، معلّقة على شجرة التعنّت المتعمّد، الذي يبدو انّ ثمة «قراراً» بالمضي فيه حتى النهاية، والشريكان الطبيعيان في التأليف يتبادلان الاتهامات والضرب السياسي فوق الزنار وتحته، فيما الأزمة تستفحل اكثر فأكثر وتحفر عميقاً في اوجاع اللبنانيين.
المشكلة الكبرى، أنّ هذا التعنت لم يعد مجرّد تكتيك لشدّ العصب الطائفي، انطلاقاً من السردية الجوفاء بشأن صلاحيات الرئاسات، أو ما يتمّ تسويقه عونياً حيال ما يسمّونها «حقوق المسيحيين»، بل تعدّاه ليصبح بكل بساطة تصفية حسابات شخصية مع سعد الحريري، وهو أمر لم يعد يستفز او يغيظ الرئيس المكلّف وحده، بل وسطاء الداخل والخارج، وحتى أقرب حلفاء «التيار البرتقالي»، الذي بات مع رئيسه الفعلي رئيس الجمهورية ورئيسه بالإنابة جبران باسيل، متهماً في نظر هؤلاء جميعاً، بالإصرار على التعامل مع الأزمة الوجودية التي يعاني منها لبنان، باعتبارها فرصة لتحقيق مكاسب سياسية، حتى وإن كان ذلك على حساب اللبنانيين، أو حتى على حساب الاستمرارية الكيانية للبنان.
الجلي في ازمة التأليف، هو انّ القصد من هذا التعنّت، هو بلا ادنى شك، وسيلة لإعادة انعاش الذات واسترداد حيوية سياسية وشعبيّة مفقودة او متآكلة، عبر محاولة رفع منسوب الاستقطاب الحاد في المجتمع اللبناني، وخصوصاً بعد التراجع المريع الذي ضرب اصحاب هذا النهج. وهي محاولة تصطدم بحقيقة أنّ نهجاً كهذا في بلد مثل لبنان لا يمكن أن يكون مجرّد ترف في المناورة السياسية، بل يهدّد بانهيار شامل، ليست الأزمات المعيشية التي يعيشها اللبناني، في البنزين والغذاء والدواء، إلا مقّدماتها.
المشكلة الكبرى، تكمن في أنّ المعجبين بنهج التعطيل يتجاهلون حقيقة أنّ النهج نفسه قد ينتهي بانتحار سياسي، لا سيما أنّ المخاطر المترتبة عليه، هي أقرب إلى المقامرة بـ»الصولد» السياسي. وإذا كان يمكن تفهم ذلك، وتمريره او تبريره، من زاوية انّ تداعيات هذا «الصولد» تقتصر على المقامر نفسه، الّا أنّ ما يجب ان يكون في حسبان هؤلاء هو أنّ المقامرة بلقمة عيش اللبناني ودوائه، ترقى إلى مستوى الجريمة ضدّ الانسانية.
بهذا المعنى، تُرتكب جريمة موصوفة بحق اللبنانيين في كل ساعة تعطيل للتشكيل الحكومي، الذي باتت كل المكونات مجمعة على أنّ عِقده موجودة فقط في بعبدا والبياضة، خصوصاً وانّ الاطراف الأخرى جميعها ارتضت بتقديم ما أمكن من تسهيلات وتنازلات، بمن فيها سعد الحريري، الذي لا يزال حتى اليوم حريصاً على عدم «كسر الجرّة» بشكل نهائي، بدليل تريّثه في إعلان الاعتذار عن عدم التشكيل، حرصاً على إعطاء مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحيّز الكافي لإحداث اختراق في «جدار برلين» الحكومي.
على هذا الأساس، يبدو أنّ كلّ المقترحات التي تقدّم بها الرئيس بري لمدّ جسور التفاهم على حكومة لم تصل الى نتيجة حتى الآن، رغم أنّ مبادرته تحظى بمروحة واسعة من التأييد الداخلي والخارجي، باعتبارها الأكثر جدّية والفرصة الاخيرة، التي تسمح للجميع بتجاوز العِقد الأساسية، والمضي قدماً في تشكيل الحكومة الجديدة على قاعدة «التوازن والشراكة .. «لا غالب» فيها الّا الإنقاذ الذي ينتظره اللبنانيون، و«لا مغلوب» إلّا التعطيل الذي بات لعنة على لبنان، اللّهم الّا اذا كان من عقد العزم على حمل لواء التعطيل في المقلب الآخر، من يعتبر انكسار التعطيل وفتح الباب امام حكومة برئاسة سعد الحريري، هزيمة لهم، يراهنون بكل شيء، حتى بالبلد وامنه واستقراره لتجنّبها.
في الواقع، لا يمكن قراءة البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية بالأمس، الّا استكمال للمنحى الهجومي في كل الاتجاهات، علماً انّ خصوم الرئيس وصهره يدرجون هذا البيان ضمن السياق التعطيلي، وافتعال صدام مع الجبهة السياسية العريضة التي تحمل لواء تسهيل التأليف. ولا سيما أنّ هذا البيان أتى بعد تسريبات أفادت بأنّ الرئيس المكلّف يعدّ العدّة لتقديم تشكيلة حكومية ضمن صيغة الثمانينات الثلاث، على ان يسمّي هو الوزيرين المسيحيين من دون أن يكونا مستفزين للعهد او لرئيس الجمهورية، علماً أنّ الصيغة، وعلى ما تؤكّد مصادر مقرّبة من الحريري، هي أقصى ما يمكن تقديمه من تنازلات.
ومع ذلك، فإنّ هذه الصيغة، وبالتأكيد، لا ترضي فريق عون – باسيل، الذي بات ينظر الى أي مبادرة على أنّها محاولة لإحراج رئيس الجمهورية، لوضعه في موقع المعطّل امام الرأي العام المحلي والمجتمع الدولي، ما يعني أن لا حل حكومياً بحسب منطق دوائر بعبدا- البياضة الّا بالشروط المستحيلة التي يمكن تلخيصها بمبدأ «إما كل شيء، وإما لا شيء»!
هذه الحقيقة يمكن تلمّسها في بيان رئاسة الجمهورية، الذي تعمّد هذه المرّة التصويب على مبادرة الرئيس بري، عبر الحديث عمّا سمّاها « معطيات برزت خلال الايام الماضية تجاوزت القواعد الدستورية والاصول المعمول بها»، واعتباره أنّ «المرجعيات والجهات التي تتطوع مشكورة للمساعدة في تأليف الحكومة، مدعوة الى الاستناد الى الدستور والتقيّد بأحكامه وعدم التوسع في تفسيره لتكريس اعراف جديدة ووضع قواعد لا تأتلف معه».
وتبعاً لهذا البيان، قد يبرّر البعض لرئيس الجمهورية انّه يمارس هجوماً وقائياً لتحصين دفاعاته، امام جبهة سياسية عريضة تطوّقه وتفرض عليه تخفيض سقف شروطه. لكن في المقلب المعارض للمنحى الذي ينتهجه عون في تأليف الحكومة، تبرز اسئلة كثيرة حول ما اذا كان العهد قد اختار المضي قدماً نحو تسريع لحظة الارتطام الكبرى التي يخشاها الجميع، لا سيما أنّ موقفاً سلبياً كهذا يعني أنّه حتى مبادرة الرئيس بري، بما تمثله من فرصة وحيدة متاحة حالياً بعد فشل كل المبادرات السابقة، باتت مهدّده بعقلية لن تتأخّر في قيادة الجميع نحو انتحار جماعي، عبر اقفال الأبواب أمام الحلول الوطنية، التي من شأنها أن تشرّع الأبواب أمام سيناريوهات متطرفة في الداخل كما في الخارج.
في العموم، لا يزال الأمل قائماً على مبادرة الرئيس بري، طالما أنّ رئيس المجلس لم يعلن بنفسه فشلها، اذ انّها ما زالت تشكّل الفرصة لقلب المشهد الحالي، الذي هو عبارة عن لوحة سوداء، تحول فيها الشعب بأكمله الى حطب في معركة سياسية – الغائية مفتوحة، لن يسلم منها أحد!