نبيل هيثم – الجمهورية
يمكن افتراض أنّ قلّة من اللبنانيين تابعت الكلمة الأخيرة لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، الذي دوماً ما يختار موعداً لها يوم الأحد، ويحاول فيه الناس أن يأخذوا قسطاً صعباً من الراحة من كوابيسهم اليومية، على محطات الوقود وأبواب الصيدليات وجنون الأسعار في المتاجر.
هذه القلّة تتوزّع نظرياً بين 3 فئات: إمّا يائس يبحث عن بصيص أمل في النفق السياسي اللبناني المظلم؛ وإمّا مناصر متشدّق إلى ما يغذي غريزته الطائفية؛ وإمّا مضطر بحكم مهنته لقياس ما وصل إليه الإفلاس السياسي، كما هي الحال مع كاتب هذه السطور.
في الواقع، باتت إطلالات باسيل أقرب إلى محطة تذكيرية دورية بأن لا تسوية حكومية من شأنها أن تخرج لبنان من الحلقة المفرغة، التي لا يمكن كسرها من وجهة نظر باسيل إلا بخطوة ملموسة تُعيد ترميم فرصه الرئاسية التي هَوت إلى ما دون الصفر منذ 17 تشرين الأول 2019.
بهذا المعنى فقط، يمكن فهم الرسالة التي دحرجها باسيل في اتجاه «حزب الله»، والتي تتجاوز البعد الحكومي، لتتصل إلى ما هو أهم بالنسبة إلى رئيس تيار العهد، أي البُعد الرئاسي، الذي بات القاصي والداني يدركان أنه المحرّك الأساسي لكل ما يدور في ذهن صاحب الاطلالات.
هناك مؤشرات عدّة تلمّسها كثيرون ممّن يهوون رصد السلوك الباسيلي منذ بداية العهد العوني، وقد أمكَن تكريسها في خطابه الأخير، وهي أن عقدة «الصهر» تتمثل في أنّ «حزب الله» لم يمنحه الميزة التي تسلّح بها ميشال عون في معركته الرئاسية الطويلة، وهي إبداء الدعم الواضح لترشيحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو أمرٌ غالباً ما يدفع بباسيل إلى التأرجح بين المداهنة السياسية التي يسعى من خلالها دوماً إلى التركيز على سردية مَتانة التحالف مع الحزب على قاعدة تفاهم مار مخايل، وبين الابتزاز السياسي الذي يذهب فيه باسيل بعيداً في مقاربته للصراع «غير الايديولوجي» مع إسرائيل…
لكنَّ الثابت في سلوك باسيل، والذي تبدّى بشكل لا لبس فيه في إطلالته الأخيرة، يتمثّل في محاولته الهروب إلى الأمام من تهمة التعطيل، التي بات الكل مدركاً أنّه الفاعل والمحرّض والمسهّل لها، باتجاه الأساطير المؤسسة للمارونية السياسية، والتي يفترض أنها باتت منتهية الصلاحية، منذ اللحظة التي اختار فيها المسيحيون والمسلمون – في ما عدا ميشال عون حينها – الدخول في عقد سياسي جديد، تحت مسمّى اتفاق الطائف.
لو أراد المرء أن يلخّص مضمون الخطاب الأخير لباسيل، لاختزله بمقولة تنتمي إلى كلاسيكيات المارونية السياسية «كلّ ما لنا لنا وحدنا، وكل ما لكم لكم ولنا… هذا إن لم يكن لنا وحدنا». ولكن الـ»لنا» والـ»لكم» هذه المرّة ليست مجرّد مقايضة بين طائفة يدّعي باسيل احتكار تمثيلها، وبين طوائف أخرى، بل هي مقايضة بين تيار سياسي لا يجادل اثنان في أن له حيثية سياسية (وإن كان حجم تمثيلها قد هوى نزولاً) وبين الجميع!
بهذا المعنى، فإنّ تمترس جبران باسيل خلف العصبيات الطائفية والمذهبية في مقاربته للملفين الحكومي والرئاسي، وإن سَلّم البعض جدلاً بأنها تندرج في سياق الدفاع عن حقوق المسيحيين، إلّا أنّ الحق هنا كلمة يُراد بها باطلاً، طالما أنّ المنطق الذي يقارب من خلاله التيار البرتقالي القضايا الأكثر إلحاحاً في الوطن هو منطق إلغائي، وإن حاول باسيل «مَكيَجته» بمساحيق سياسية يعتبرها كل الآخرين منتهية الصلاحية.
المشكلة الكبرى في الخطاب الباسيلي – والخطاب العوني بشكل عام – تكمن في ارتداء العفة السياسية، التي تصل إلى حدّ التوهّم بأنّ الكل مخطئ، فيما العونيون معصومون عن الخطأ. وعلى هذا الأساس، تُرفض كل المبادرات، سواء تلك المصنوعة في لبنان، أو المستوردة من وراء البحار، لا بل يتم وَسمها بنعوت مصمّمة على قياس الطموحات الرئاسية لـ»صهر العهد»، ضمن سردية غير واقعية عنوانها التعدّي على حقوق المسيحيين، وهي عبارة باتت تنزل على مسامع اللبنانيين بالقدر نفسه من الازعاج الذي يمكن أن يشعر به المرء حين يسمع شريط «كاسيت» اهترأ من كثرة الاستخدام.
أيّ عاقل في هذه العصفورية اللبنانية العابرة لحدود الطوائف والمناطق لا بد أن يطرح أسئلة أكثر تناغماً مع معطيات الحاضر:
أليس الذل اليومي الذي يعانيه اللبنانيون على اختلاف انتماءاتهم أمام محطات الوقود وعلى أبواب المستشفيات والصيدليات تعدّياً على حقوق المسيحيين؟
أليس تعطيل كل فرَص الحل للوضع الاقتصادي – الاجتماعي المزري الذي وصل إليه لبنان جرّاء الطموحات الرئاسية تعدّياً على حقوق المسيحيين؟
أليست موجة الهجرة التي دخلت بازار تجارة مراكب الموت عبر البحر تعدّياً على حقوق المسيحيين؟
بالطبع، الإجابة حاضرة لدى جبران باسيل، وعنوانها «العفة السياسية»، التي جعلته في يوم من الأيام يرى أنّ التظاهرات التي كان يُشتم فيها شخصياً «ليست موجهة ضدنا» وأنها «تقوّي موقف الرئيس وموقفنا وموقف كل الاصلاحيين»!
السؤال الذي يمكن أن يطرح بعد سماع كلمة باسيل: ماذا بعد؟
رمى رئيس التيار البرتقالي الكرة في ملعب «حزب الله»، بعدما صوّر أنّ كل الآخرين يتآمرون عليه. من المؤكد أن ّ»حزب الله» لا يمكن أن يقدّم له المزيد. في السابق، كانت وجهة الحزب أنّ وزراءه يمكنهم أن يؤمّنوا لجبران باسيل الثلث الضامن. ولكن وفق سردية «ما لنا لنا وما لكم لكم ولنا»، يبدو أن رئيس تيار العهد يريد ما هو أكثر بكثير، ليس في ما يتصل بالحصص الوزارية فحسب، بل في محاولة جعل «حزب الله» متراساً يتلطّى خلفه في أحدث معاركه العبثية مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، قافزاً بذلك حول حقائق بديهية، يدركها كل من يدرس ألف باء السياسة اللبنانية، وهي أنّ متانة التحالف بين «حزب الله» وحركة «أمل» لا يقوى عليها أي إسفين.
بهذا المعنى، يمكن افتراض أنّ خطاب باسيل الأخير كان نذيراً باستمرار التعطيل إلى أجل مسمّى… وهو لحظة الارتطام الكبير التي ستحلّ عاجلاً أم آجلاً طالما أنّ ثمة مَن اختار وَأد أي مبادرة للحل!
ولكن ماذا بعد الارتطام المشؤوم؟
الجواب سيتبدّى طبعاً، عندما يسقط الهيكل على رؤوس الجميع، ويبدأ الصراخ يتعالى من البشر والحجر معاً، وساعتئذ لن يبقى في هذا الركام لا الذي لنا… ولا الذي لنا ولكم؟!.. وهذا الجواب لناظره قريب!