في الحد الأدنى لا حكومة قبل فجر الأربعاء وفي الحد الأقصى قد يكون مسار تأليف الحكومة منزلقا نحو ازمة مفتوحة وقد يكون الاحتمال الثاني هو الأرجح. هذه الخلاصة الخاطفة تختصر الجمود الحاصل منذ ثلاثة أيام وتحديدا عقب ما تجمع العديد من مصادر المعلومات والجهات السياسية المطلعة على مجريات مسار التأليف، على وصفه بانقلاب رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل على اكثر من 75 في المئة من بنود التوافق الذي كان يجري استكماله بين رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون.
ويبدو ان باسيل نجح مجدداً في إطاحته واضعاً موقع رئيس الجمهورية مرة جديدة في مكان شديد الحرج ومهددا بتعطيل مسار تأليف الحكومة الجديدة المنتظرة. واذا كان ستار الكتمان الذي فرض على مجريات الاجتماعات الأربعة التي عقدها الرئيسان عون والحريري في قصر بعبدا لا يزال وحده البند الذي يجري “التزامه” منهما، فان ذلك لا يعني حجب انكشاف الانقلاب الذي تعرض له الرئيس المكلف بعدما جرى التراجع من القصر فجأة عن معظم النقاط والأسس التي كان عرضها الحريري تباعا في اللقاءات الأربعة التي عقدها مع رئيس الجمهورية، فاذا بلقاء عون وباسيل قبل أيام يشكل الانكاسة الكبيرة التي بدا من خلالها ان ثمة قطبة مخفية دفعت الرئاسة الأولى الى الالتفاف على التوافقات السابقة وسرعان ما انكشف الامر عن جملة حقائق. ذلك ان ما كان تم التوافق عليه بين عون والحريري حول حجم الحكومة من 18 وزيرا اطيح به وعاد الضرب على وتر حكومة من 22 او 24 وزيرا بما ترجمه علنا بيان التيار الوطني الحر السبت الماضي من رفضه لإعطاء وزير اكثر من حقيبة. ثم اسقط أيضا تفاهم آخر أساسي يتصل بالمداورة بين الحقائب مع استثناء حقيبة المال التي اقرت للشيعة بموافقة عون والافرقاء السياسيين الاخرين، ولكن “الانقلاب” كشف ان باسيل رفض التسليم بمداورة تستثني المال والا فلن يتنازل عن حقائب سابقة كانت بحوزة وزراء للتيار. الامر الثالث الأساسي الذي جرى تجميد البحث فيه يتصل بحقيبة الطاقة التي فشلت محاولات الحريري في الوصول الى تفاهم مع عون حيال تسليمها لوزير مستقل متخصص لا يحسب على احد نظرا لخطورة ملف الكهرباء في البرنامج الإصلاحي الذي تلحظه المبادرة الفرنسية، وتبين ان ثمة معاندة في اخضاع الحقيبة لمفاصلات وإملاءات سياسية من جانب القصر والتيار سواء بسواء من خلال طرح اسم مستشار حالي في الوزارة لتسلم الحقيبة وهو محسوب على باسيل. اما الامر الرابع الأساسي أيضا الذي أصابه الشلل بفعل الانقلاب التعطيلي لمسار التأليف فيتصل بالفيتوات الهابطة على الحريري فجأة حيال توزيع حقائب خدماتية أساسية على الشركاء السياسيين الاخرين كرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية في حين جرى “تفريخ “مفاجئ لما سمي العقدة الدرزية التي اريد من خلالها مقاسمة جنبلاط الحقيبتين اللتين كانتا يجب ان تذهبا اليه باعتبار انه رافعة التكليف والتأليف فيما النائب طلال أرسلان رفض تكليف الحريري وقاطع الاستشارات، فاذا بالقصر ينبري لإعطائه حقيبة وزارية ورفع عدد الوزراء لتمكينه من هذا الهدف .
واذا كانت هذه بعض الوقائع المباشرة التي تكشف أسباب تعطيل مسار التأليف وإعلان ولادة الحكومة التي كانت متوقعة اليوم كما كشف رئيس مجلس النواب نبيه بري لـ”النهار”، فان ثمة دلالات تبدو ابعد من مجرد خوض معركة محاصصة قسرية لجعل سعد الحريري يسلم بسقوط مشروعه الأصلي تماما القائم على تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين وعندما يرفع الراية البيضاء لفارضي الشروط الانقلابية يكون قد انتحر سياسيا فعلا. هذا البعد كشفه مصدر سياسي بارز لـ”النهار” ويتمثل في اندفاع فريق رئاسة الجمهورية و”التيار الوطني الحر” الى الاستئثار بالحقائب الأمنية والقضائية الثلاثة أي الداخلية والدفاع والعدل على خلفية ان تأليف الحكومة الجديدة متى تعرض لتبديل المعايير التي يطرحها الرئيس الحريري من منطلق تحديد مهمتها زمنيا بستة اشهر كحكومة انقاذية فقط، فربما تكون حكومة ما تبقى من العهد أي لسنتين. وهو الامر الذي يقول المصدر انه جعل الفريق الرئاسي وتياره يحاولان تطويب الحقائب الثلاث لهما للشروع من الان في الإمساك بالأوراق الأساسية التي تتيحها لمصلحة “التيار” هذه الوزارات تحضيرا للانتخابات المقبلة.
بري… والراعي
في غضون ذلك وفي ما يؤكد ضمنا دوران المأزق في دائرة التعقيد قال الرئيس بري لـ”النهار” ان لا مشكلة لديه في عدد أعضاء الحكومة سواء كان 18 او 20 موضحا ان هذه النقطة تعود للرئيس المكلف ورئيس الجمهورية . وأضاف: من جهتنا لا مشكلة عندنا على الاطلاق كنا ولا نزال في مقدم المستعجلين لتأليف الحكومة والتوصل الى التشكيلة غدا( اليوم ) على ابعد تقدير”. كما رفض بري أي ربط لتأليف الحكومة بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري غدا الثلثاء . وفيما بدا واضحا ان رهان بري على اعلان الحكومة اليوم لم ينطبق على مجريات التعطيل المفاجئ، لم يخف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي معالم الإحباط من تعقيد تأليف الحكومة بل ذهب لليوم الثاني الى رفع الصوت بقوة ضد تعطيل التأليف وتأخيره. وسأل امس “الى متى يتمادى المعنيون من مسؤولين وسياسيين ونافذين وأحزاب وباي حق في عرقلة تشكيل الحكومة الجديدة ؟ الا يخجلون من الله والناس وذواتهم وهم يعرقلون تمسكا بمحاصصتهم والحقائب الطائفية فيما نصف الشعب اللبناني لا يجد حصة طعام ويوضب حقائبه ليهاجر”. ودعا الراعي جميع الأطراف “ليوقفوا ضغوطهم على الرئيس المكلف”لافتا الى ان “ما رشح عن نوعية الحكومة العتيدة لا يشير الى الاطمئنان”.
إقفال لا اقفال!
وبعيدا من تعقيدات مسار تأليف الحكومة تعيش البلاد أجواء الانتشار الكارثي لوباء كورونا وسط تخبط مخيف في القرارات الرسمية والطبية والاستشفائية المعنية باحتواء الكارثة علما ان الجدل المتصاعد حول اجراء الاقفال الشامل للبلاد بلغ ذروته في الساعات الأخيرة من دون أي حسم . وفيما كانت الأوساط الطبية تعول على تأليف سريع للحكومة الجديدة علها تباشر اتخاذ إجراءات مختلفة وفعالة في احتواء الانتشار الوبائي في كل المناطق اللبنانية عاد التأخير في تأليف الحكومة يرخي بثقله على حكومة تصريف الاعمال التي تتخبط القرارات عشوائيا فيها بين وزارات الداخلية والصحة والتربية.