نبيل هيثم – الجمهورية
على قدر فجور أهل التعطيل يأتي الذلّ الذي يعانيه الناس. تلك حقيقة باتت راسخة في يوميات اللبنانيين، الذين بات يومهم موزّعاً بين ساعات الانتظار في طوابير محطات البنزين، وبين «ماراثون» البحث عن الدواء بين الصيدليات، وبين تحمّل صدمات هستيريا الأسعار في المتاجر، بعدما لامس سعر صرف الدولار الأميركي عتبة الـ18 ألف ليرة. حتى المتنفس الوحيد الذي يتيح للبناني فرصة للاستراحة من سباقات البحث عن البنزين والدواء والغذاء، انعدم تماماً، حيث أصبح التقنين في المنازل تقنينين: واحد لمعامل الكهرباء وبواخرها، وآخر للمولّدات!
لا يشعر المعطّلون بذلك. هم في وادٍ والشعب في وادٍ آخر. لا بل هم في وادٍ ودولتهم نفسها في وادٍ آخر. يمكن افتراض ذلك بكل بساطة، حين تُقارَن فاجعة انقطاع الحبر في الدوائر الحكومية، بسيل الحبر المسال في حرب البيانات التي بات هدفها واضحاً، وإن أنكره المعطّلون: ثلث معطّل، أو بالاحرى ثلث عاطل، ومحاصصة وزارية، تُسخّر في خدمة الطموحات الرئاسية لصهر العهد، حتى وإن اقتضى الأمر أن يصبح رئيساً من غير جمهورية!
كل شيء يشي بأننا بتنا في جهنم التي بشّرنا بها رئيس الجمهورية. هي «جهنم العهد القوي» الذي بلغ فيها لبنان بالفعل مرحلة الانهيار الشامل، فلا يكاد المواطن يهرب من نيران أزمة، حتى تشتعل أخرى، فيما القائمون على شؤون البلاد يكتفون بالترقيع، الذي بلغ حدّ الفجور، المتمثل في سرقة أموال المودعين لتمويل ما اقترفته أيادي الفساد السوداء، مع أنّ البدائل موجودة، ولا ينقصها سوى تخلّي المعطّلين عن سلوكهم المدمّر، عبر حكومة إنقاذ، وحدها الكفيلة بإخراج لبنان من الدوامة الجهنمية التي يدور فيها.
الخطير في ما يجري اليوم، أنّ الأزمة استنفدت كل جرعات التفاؤل، فلم يعد أمام اللبنانيين إلّا تجرع كأس السمّ، بعدما وضعتهم الطبقة الحاكمة أمام خيار من اثنين: إمّا أن تقبلوا بمزيد من السلب لحقوقكم… وإما فلتتحمّلوا الإذلال اليومي!
بهذا المعنى فقط يمكن فهم قرار تمويل اعتمادات استيراد الوقود على أساس التسعيرة الغريبة للدولار الأميركي. في ذلك، كأنّ هناك من لم يكتف بأمر المنظومة السياسية باستنزاف أموال المودعين، بل أضاف إليها عملية سلب موصوفة للجميع، على قاعدة ظلم في السوية عدل في الرعية. لا يقتصر الأمر هنا على صفيحة بنزين هنا أو قارورة غاز هناك… هي سلسلة متكاملة ستُلهب أسعار السلع الاستهلاكية المرتبطة عضوياً بتوفّر البنزين او المازوت، ما يضع المواطن أمام رفع فعلي للدعم، حتى من دون إقرار البطاقة التمويلية، التي شأنها شأن كل مبادرة في لبنان، مرشحة للتحول إلى بطاقة انتخابية، يُشترى فيها الصوت الانتخابي بأقل من 100 دولار.
كل ذلك يجري فيما الشارع يسير نحو المجهول. أهل الحراك فشلوا في تنظيم صفوفهم على مدار السنتين الماضيتين، وباتت الكلمة للفوضى الغوغائية التي بدأت تطلّ برأسها من الشمال إلى الجنوب، ممهدة لحالة الفوضى الشاملة التي لن تتأخّر في الانفجار، تزامناً مع لحظة الارتطام الكبير التي باتت، من الناحيتين النظرية والعملية، متوقعة في أي وقت.
لا يغيّر في الأمر هنا الانتصارات التي يسعى البعض لترويجها. حتى انتخابات نقابة المهندسين، وعلى أهميتها، لا يمكن اعتبارها مؤشراً الى أنّ تغييراً حقيقياً سيحدث في البلد. فقد درجت العادة على أنّ انتخابات النقابات شيء، والانتخابات البرلمانية شيء آخر. في الأولى، ثمة نخبة تمتلك نخبة الاختيار. وأما في الثانية، فالكلمة ستكون لصناديق «الإعاشة» وكوبونات البنزين والمال الانتخابي سواء المباشر أو المقنّع.
كل ذلك يندرج في إطار العبث الوطني، الذي لا يمكن توصيفه إلّا بكونه عملية تخريب متعمّدة، تترك الجميع لمصيرهم الأسود، في سياق صراعات سياسية تافهة، تارة على حصص وزارية، وطوراً على مقاعد نيابية، تعيد انتاج النظام السياسي نفسه الذي يمهّد لإدخال لبنان في النفق المظلم ذاته، هذا إن بقي شيء من لبنان حتى موعد الاستحقاق السياسي، الذي بات الكل يقاربه بمنطق لعبة «بوكر» على قاعدة «صولد وأكبر».
الأدهى أنّ الكل يغسل يديه من دماء الشعب؛ ميشال عون وجبران باسيل يلقيان الأزمة على «فاسدين» مجهولين، هما بمنأى عنهم بين هلالين، رئيس حكومة تصريف الأعمال يبرئ ذمته من مسؤولية الانهيار، سعد الحريري يلمّح، عبر أوساطه، أنّه استنفد كل وسائل التأليف، أهل الحراك يخوضون معارك دونكيشوتية لتعويض فشلهم في حشد الشارع، الأحزاب على اختلاف احجامها وتوجّهاتها تلعب دور الضحية… إلى آخر هذه السلسلة المترامية من أشكال العبث في عصفورية الـ10452 كيلومتراً مربعاً!
أمام هذه الصورة، ومع العقليات السياسية الشوهاء، هل ثمة سبيل للخلاص؟
بالتأكيد لا .. وما على اللبنانيين في هذه الحالة سوى أن يحضّروا أنفسهم لوداع وطنهم الذي يحتضر!!