المشهد الداخلي ينطق بحقيقة واحدة، خلاصتها، ان شُكِّلت الحكومة الجديدة او لم تُشكّل، وان قرّر الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري أن يتصالحا ويتفقا على حكومة، وإن استمرا في خلافهما وصراعهما من الآن وحتى نهاية العهد. وإن قررت حكومة تصريف الاعمال ان تمضي في فشلها في ادارة الدولة ولو ضمن الحدود المتاحة لها، او تسلك مساراً معاكساً ولو متأخّراً، او تواظب أو لا تواظب على عقلية الولدنة السياسية التي تجلّت في “فضيحة السرايا” بسقوطها المدوّي في الامتحان الديبلوماسي، واستجلبت تقريعاً فرنسيّاً تستحقه، فكلّ ذلك يعادل صفراً في اهتمامات اللبنانيين. فلقد قطعوا الأمل نهائياً، في كل من ليس في وجهه ذرّة حياء، وكل من أفقرهم وجوّعهم وأوجعهم، وباعهم مجاناّ في سوق مصالحه وحساباته الشخصية، ويعبث بحاضرهم ومستقبلهم على منصّة الغباء الفاضح والمُحرج في تصريف الاعمال.
مسخرة التأليف
الحقيقة الساطعة امام المواطن اللبناني هي انّ البلد صار يتيم المرجعيّة التي تقوده بحكمة ودراية في الاتجاه الذي يبقيه على قيد الحياة، وتنأى به عن الإرتطام الكارثي الذي يتهدّده. وما هو أسوأ من هذا اليُتم، هو إنكاره المفجع من المنظومة القابضة على السلطة والحكومة والقرار، ودورانها في صراع لا نهاية له؛ عشوائي، عبثي، شخصاني بغيض، على ما باتت تُعرف بـ”مسخرة التأليف”.
مسلسل التنكيل
ومع هذا اليّتم، تكبر مصيبة المواطن، صار عاجزاً، لم يعد يقوى حتى على الصراخ، لا يسأل عن سلطة ميتة، بل هي لم تعد تعنيه على الاطلاق، لا يشغل باله بما يُحكى عن اتصالات تجري لتدوير زوايا العِقد المانعة للتأليف، فيما هي باعث للملل وتتنقل من فشل الى فشل، هكذا على المنوال نفسه منذ تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة. سمع الكثير عن ساعات حاسمة، او أيام حاسمة او افكار حاسمة او قرارات حاسمة، او اعتذار الرئيس المكلّف او لا اعتذار الرئيس المكلّف.. وما الى ذلك من كلام فارغ لا يسدّ جوعاً ولا يبلسم جرحاً، بل خطوات اضافية نحو الأعماق. لا يعني المواطن كل هذا السيلان المقرف، ما يريده فقط هو أن يعرف متى يتوقّف مسلسل التنكيل المتمادي به، بحرمانه دوائه وخبزه واساسيات حياته، واغراقه في العتمة ورصّه لكيلومترات في طوابير الإذلال أمام محطات المحروقات.
مبادرة بري .. ضرورة
في هذه الاجواء، تؤكّد الأجواء الطاغية على الملف الحكومي، بأنّ حركة الاتصالات التي تواصلت في الساعات الماضية على أكثر من خط معني بملف تأليف الحكومة، أنّ الحديث عن خرق حكومي في هذه الآونة ليس واقعياً على الاطلاق، وخصوصاً انّ طرفي الاشتباك الحكومي لم يقدّما ما يمكن اعتبارها تسهيلات او تنازلات تفضي الى فتح ثغرة في الجدار الحكومي المسدود، بل على العكس، فإنّ منسوب التصلّب زاد بدرجات عمّا كان عليه في السابق.
ولفتت المصادر، الى انّ الرئيس نبيه بري ما زال يدفع في الاتجاه الذي يبقي باب التواصل مفتوحاً وبوتيرة مكثفة استناداً الى مبادرته المطروحة، باعتبارها صارت اكثر من ضرورة ملحّة في هذه الفترة، درءاً للمخاطر التي تتفاقم بصورة مريعة، وكسبيل للخروج من الأزمة ووقف مسلسل الانهيارات الداخلية والمعيشية على أكثر من مستوى، ما دفع لبنان أكثر الى حافة السقوط في محظور لا يبقي شيئاً، وسيندم عليه الجميع بسقوط الهيكل على رؤوس الجميع.
اعتذار .. لا اعتذار
الى ذلك، الأجواء رمادية في “بيت الوسط”، وأوساطه تعتصم بالصّمت إنفاذاً لقرار للرئيس المكلّف بعدم المقاربة العلنية لموقفه، وعدم الإنجرار إلى ايّ سجال يسعى البعض الى جرّ الرئيس المكلّف اليه. في وقت تؤكّد مصادر قريبة من القصر الجمهوري ان لا جديد يُذكر على خط الاتصالات، وما زال رئيس الجمهورية يؤكّد انّ الاولوية هي لتشكيل حكومة سريعاً، وهو بالتالي ما زال ينتظر ما سيقرّره الرئيس المكلّف، ليُبنى على الشيء مقتضاه.
وبحسب مصادر موثوقة، فإنّ الحديث عن اعتذار الرئيس المكلّف عن تشكيل الحكومة، مصدره منصّات اعلامية وغير اعلامية، بدت في الآونة الأخيرة وكأنّها متخصّصة في قياس المسافات، فتارة تقول انّ الحريري صار على بُعد قريب من قرار الإعتذار، وتارة أخرى تقول انّ اعتذار الرئيس المكلّف او عدمه، لا يزالان على بُعد متساوٍ. وفي الوقت نفسه تختلق سيناريوهات افتراضية أو بالأحرى تضليليّة لحوارات لم تحصل، وخصوصاً بين الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، توحي وكأنّ مروّجي هذه السيناريوهات او الحوارات، كانوا طرفاً مشاركاً في لقاءات بعضها حصل بشكل مغلق لا ثالث معهما، وبعضها لم يحصل.
ورداً على سؤال عمّا يُحكى عن اعتذار وشيك للرئيس المكلّف، قالت المصادر الموثوقة: “من بداية الامر، حينما تصاعد الصراع بين الحريري وعون ومن خلاله جبران باسيل، سمعنا من مقرّبين من الحريري كلاماً يفيد بأنّ اعتذاره مطروح على الطاولة الى جانب مجموعة من الخيارات الاخرى. ويبدو انّ موقف الحريري ما زال متساوياً حيال تلك الخيارات كلها”.
اضافت المصادر: “لا نريد ان نستبق موقفه بحسم الاعتذار او عدمه، ولا نريد ان نتحدث عمّا في النيات، فحتى الآن لم نسمع منه أنّه حسم قراره وسيعتذر، نسمع عن ذلك فقط في الاعلام ومن بعض خصوم الحريري. علماً انّه لو كان قد حسم خياره بالاعتذار فلماذا لم يعتذر بعد؟”.
واستدركت المصادر قائلة: “نفترض انّ خيار الاعتذار على طاولة الحريري، فلو انّ مفاعيله ستكون ايجابية على الرئيس المكلّف، فبالتأكيد هو لن يتوانى على اتخاذ هذه الخطوة، ولن يتأخّر فيها. اما اذا كانت مفاعيله سلبية، فالامر البديهي انّه سيتريث، ولن يتسرّع في اتخاذ خطوة من هذا النوع. وفي أي حال فلننتظر ما ستحمله الايام المقبلة، وفي ضوء ذلك يتحدّد الخيط الابيض من الخيط الأسود”.
واكّدت المصادر انّ التواصل بين الرئيسين بري والحريري مستمر منذ عودة الرئيس المكلّف من سفرته الخارجية، وللبحث صلة بينهما في ضوء حركة الاتصالات التي تجري على أكثر من خط، وخصوصاً بين “حزب الله” وفريق رئيس الجمهورية، وكذلك على مستوى الثنائي الشيعي، وكذلك على بعض الخطوط الديبلوماسية، التي نشطت بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وعلى مسافة ايام قليلة من الاجتماع الثلاثي بين وزراء خارجية الولايات المتحدة الاميركية انتوني بلينكن، وفرنسا جان ايف لودريان والسعودي فيصل بين فرحان.
الحريري: كل الخيارات
الى ذلك، علمت “الجمهورية”، انّ الرئيس الحريري اجتمع بكتلته النيابية، ووضع اعضائها في ما آلت اليه تطورات الملف الحكومي.
وبحسب المعلومات، فإنّ الحريري عرض وجهة نظره من ملف التأليف، مؤكّداً انّ الامور ما زالت مقفلة بسبب تعنت رئيس الجمهورية ومن خلفه جبران باسيل.
وقال الحريري لنواب كتلة “المستقبل”، انّه التقى الرئيس بري الاثنين الماضي، “وقد تكلمنا في كل شيء”.
ولفت الحريري الى “اننا عندما قبلت المهمّة بترؤس حكومة، قبلتها لأنّه كان لديّ تصوّر حول كيفية الخروج من الازمة التي دخل فيها البلد”. وبعدما اشار الى التعقيدات والتعطيل المتعمّد من قِبل عون وباسيل، قال: “انّ في كل الأحوال لن اقبل في ان اكون على رأس حكومة كيفما كان”.
اضاف: “انطلاقاً من كل ذلك، فأنا لديّ امامي مجموعة اقتراحات، اقوم بدراستها من جديد، ومن ضمنها موضوع الاعتذار”.
وخلص الحريري الى الطلب من كتلة “المستقبل” بأن تبقي اجتماعاتها مفتوحة، معلناً في الوقت ذاته انّه سيعكف في هذه الآونة على عقد اجتماعات على مستوى قيادة واركان تيار “المستقبل” والمكتب السياسي، للتداول في هذه التطورات والتأسيس لما يمكن اتخاذه من خطوات.
التلاعب بالدولار
في سياق متصل، وفي خطوة مريبة، دخلت الغرف السوداء على الخط الحكومي من جديد، من خلال بث شائعات اعتباراً من بعد ظهر امس، حول انّ الرئيس المكلّف قد اعتذر، وانّه سيترك لبنان ويسافر. وترافق ذلك مع ارتفاع في سعر الدولار تجاوز سقف الـ18 الف ليرة.
السفيرة الاميركية
في هذا الوقت، برز تطور ديبلوماسي لافت، تمثل في توجّه السفيرتين الأميركية دوروثي شيا والفرنسية آن غريو الى السعودية اليوم، في زيارة مرتبطة بالملف اللبناني.
وقالت السفارة الاميركية في بيان، انّ ” هذه الزيارة تأتي عقب الاجتماع الثلاثي بشأن لبنان لكل من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الخارجية الفرنسي جان- إيف لودريان ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود.
واشار البيان، الى انّ السفيرة شيا ستبحث خلال اجتماعاتها في المملكة العربية السعودية خطورة الوضع في لبنان، وسوف تؤكّد على أهمية المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني، فضلاً عن زيادة الدعم للجيش وقوى الأمن الداخلي. هذا، وبالشراكة مع نظيريها الفرنسي والسعودي، سوف تواصل السفيرة شيا العمل على تطوير الاستراتيجية الديبلوماسية للدول الثلاث، التي تركّز على تشكيل الحكومة وحتمية إجراء الإصلاحات العاجلة والأساسية التي يحتاجها لبنان بشدة.
الخارجية الأميركية
توازياً، قال المتحدّث بإسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس في مؤتمر صحافي أن وزارة الخارجية الأميركية تؤكد أنّ “على القادة اللبنانيين إظهار ليونة لتشكيل حكومة تُطبق إصلاحات لإنقاذ الإقتصاد المتدهور”.
السفيرة الفرنسية
بدورها اعلنت السفارة الفرنسية في بيان، بذات روحية بيان السفارة الاميركية، “انّ هذه الزيارة تأتي امتداداً للقاء الثلاثي”. مشيرة الى انّه “سبق للودريان وبلينكن أن أشارا معاً في باريس في 25 حزيران، إلى عجز القادة السياسيين اللبنانيين، حتى الآن، عن تغليب المصلحة العامة للبنان على مصالحهم الخاصة. كما واتفقا على ضرورة أن تعمل فرنسا والولايات المتحدة معاً لإخراج لبنان من الأزمة”.
وقال البيان، انّ “السفيرة غريو ستشرح خلال لقاءاتها، بأنّه من الملح أن يشكّل المسؤولون اللبنانيون حكومة فعّالة وذات صدقية، تعمل بهدف تحقيق الإصلاحات الضرورية لمصلحة لبنان، وفقاً لتطلعات الشعب اللبناني. وستعرب مع نظيرتها الأميركية عن رغبة فرنسا والولايات المتحدة في العمل مع شركائهما الإقليميين والدوليين، للضغط على المسؤولين عن التعطيل. وستشدّد أيضاً على ضرورة المساعدات الإنسانية الفرنسية المقدّمة مباشرة للشعب اللبناني وللقوات المسلحة اللبنانية ولقوى الأمن الداخلي التي ستستمر فرنسا والولايات المتحدة بدعمها”.
فلنرصد الرياض
وربطاً بخطوة السفيرتين، اكّدت مصادر سياسية مسؤولة لـ”الجمهورية”، انّ زيارة السفيرتين تؤشران الى خطوات تنفيذية اميركية – فرنسية بالشراكة مع الجانب السعودي، لفرض تشكيل حكومة في لبنان، ما يعني انّ علينا ان نرصد الرياح من الرياض.
ورداً على سؤال عمّا اذا كانت الزيارة تمهّد لحكومة جديدة، يسبقها اعتذار الرئيس الحريري، قالت المصادر: “الفرنسيون والاميركيون مغتاظون من معطّلي تشكيل الحكومة، اي انهّم لا يمانعون تشكيل حكومة برئاسة الحريري، والزيارة الى السعودية ينبغي قراءتها من هذا الجانب. علماً انّه لو كانت ثمة رغبة في حكومة جديدة برئاسة شخصية سنيّة غير الحريري، لكان تمّ التعبير عن هذه الرغبة بأية طريقه، ولكان هذا الشخص البديل قد عُرف، وكلنا نعرف “انو ما في سرّ بلبنان”.
غوتيريش
في سياق اممي متصل، اعرب الامين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن قلقه حيال الوضع في لبنان. وعكس غوتيريش في اتصال من الوزيرة زينة عكر اهتمامه بلبنان، مشدّداً على ضرورة تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن للحفاظ على إستقرار وأمن لبنان.
الراعي
الى ذلك، حضر الملف الحكومي، في زيارة قام بها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى القصر الجمهوري ولقائه الرئيس عون، حيث قال بعد الزيارة: “انّ الهدف كان وضع الرئيس عون في جو لقاء الفاتيكان مع البابا، ويجب على الجميع العمل لتطبيق نداء البابا”.
وأشار الى أنّ “البابا فرنسيس يحمل القضية اللبنانية في أعماق قلبه، وعلينا في لبنان ان نبني بيتنا الداخلي” وأضاف: “المسؤولية تقع على الجميع، ويجب التكاتف والتضامن لحل الأزمات”.
ورداً على سؤال حول تشكيل الحكومة قال: “لم نتناول الحديث التقني عن تشكيل الحكومة. والجميع يعرف أنّ المطلب الوطني هو حكومة إختصاصيين”. وطالب الرئيس المكلّف “بالإسراع في تشكيل الحكومة بالتشاور مع رئيس الجمهورية ووفقاً لروح الدستور”. وختم: “ما أوصلنا الى هذه المرحلة هو عدم تشكيل الحكومة. ولا يمكن التأخّر ولو لربع دقيقة بعد عن التشكيل”.
لغز ارتفاع المحروقات
بعد مرور بضعة ايام على وعود بالحلحلة في أزمة المحروقات، يتبين اليوم انّ المشكلة تزداد حدّة، والطوابير تزداد طولاً، والمحطات تحذّر من انّ المخزون ينضب وقد تُقفل واحدة تلو الأخرى. وكأنّ مصيبة اللبناني في ملف فقدان المحروقات لا تكفي، حتى تُضاف اليها عمليات التشاطر التي تقوم بها وزارة الطاقة، وآخرها رفع سعر المحروقات امس من جديد وفق جدول تركيب الاسعار الاسبوعي. وهنا، يُطرح سؤال عن سبب رفع اسعار المحروقات ما دامت صيغة الدعم الجديدة تعتمد تسعيرة موحّدة لدولار بـ3900 ليرة، ويسدّد مصرف لبنان الاعتماد بالكامل. فيما في السابق، كان يتمّ رفع الاسعار انطلاقاً من ارتفاعها عالمياً، وعلى أساس انّ المستورد يدفع بالدولار نسبة 15% من الفاتورة، في حين انّ الصيغة الحالية تنص على ان يدفع المركزي كامل الفاتورة، بما يعني انّ السعر ينبغي ان يبقى ثابتاً بصرف النظر عن تغيّره عالمياً. فما الذي جرى لتبرير الزيادة امس؟
في الموازاة، سُجّل امس تسريع لوتيرة ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي وصل الى 18 الف ليرة، وسط كلام عن ترجيح استمرار ارتفاعه في الساعات المقبلة، بما يعني تآكلاً اضافياً في القدرات الشرائية لكل المواطنين الذين باتوا يقفون على عتبة الفقر المدقع.
الجمهورية