خضر حسان – المدن
يحاول مصرف لبنان عدم القَطع نهائيًا مع المصارف، برغم ما شاب العلاقة بينهما من ضبابية تطوّرت لمعركة إعلامية وتراشق للاتهامات، ليعود المركزي إلى لملمة ما تبقى من ودٍّ مع المصارف، ويُشرِكها في منصّة لتداول الدولار على غرار التي استحدثها للصرافين. فكانت منصّة “صيرفة” وسيلة لإدخال الدولارات إلى المصارف، وبابًا لتشريع تحكّم المصارف بسعر صرف الدولار في السوق السوداء. على أنَّ التبرير الظاهري للمنصّة هو تمكين التجار والأفراد من الحصول على الدولار المدعوم من مصرف لبنان، بسعر أقل من سعر السوق السوداء وأعلى من السعر الرسمي، لتتوازى عملية العرض والطلب في أكبر قدر ممكن.
عدم الصمود
لم تصمد المنصة لأكثر من نحو شهرين بعد إطلاقها في منتصف شهر أيار الماضي. حين بدا واضحًا تراجع حجم تداول الدولار عبرها، بالتوازي مع ارتفاع أسعاره من نحو 12 ألف ليرة إلى نحو 15 ليرة. فضلًا عن انحسار الفئات المستفيدة من الدولار. فبعد أن كان التداول مفتوحًا في مرحلته الأولى لجميع التجّار، على أن يُفتَح للأفراد، تقلَّصت الدائرة لتقتصر على مستوردي الأدوية وحليب الأطفال. فيما لم يعلن مصرف لبنان صراحةً عدم نيته التوقف عن دعم باقي المستوردين، لكن التأخير المتعمّد في قبول طلبات الاستيراد، يوضح الهدف المطلوب.
كما أن المركزي أبلغ المصارف بوجوب وضع المستوردين في صورة عدم توفير الدولارات، وبالتالي ضرورة سحبهم المبالغ الموضوعة بالليرة والمطلوبة كتغطية للحصول على الدولار. ما دفع التجار للتوجه نحو السوق السوداء لتأمين الدولار للاستيراد، فارتفع الدولار في السوق السوداء إلى حدود الـ19500 ليرة، فيما مستوى أسعار السلع فاق الـ20 ألف ليرة.
وهذا التراجع في دعم تأمين الدولار التُمِسَ من خلال الأرقام التي اعلنها المركزي حول حجم التداول. إذ فاقت الدولارات المؤمّنة في الفترة الأولى لاطلاق المنصة، الـ30 مليون دولار أسبوعيًا، لتسلك درب الانحدار نحو الـ20 مليون دولار مطلع شهر تموز الجاري، بسعر تدخّل بلغ 12 ألف ليرة للدولار، وصولًا إلى 5 مليون دولار يوم الجمعة 9 تموز، بسعر تدخّل بلغ 15200 ليرة. وبمعنى آخر، فإن حصول المستوردين على الدولار بسعر 12 ألف ليرة، قابله ارتفاع الدولار في السوق السوداء إلى ما يزيد عن 15 ألف ليرة، فيما وصول دولار المنصة إلى 15 ألف ليرة، رافقه قفز الدولار فوق الـ19 ألف ليرة. وبما أن سعر التداول بالمنصة متحرّك، فإن ارتفاع السعر سيترافق مع تحليق للدولار في السوق السوداء، بمعزل عن حجم التداول والفئات المستفيدة من الدولار.
مَن يدفع الثمن؟
عندما ابتدع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منصة صيرفة، لم يبتدعها ليلجم سعر صرف الدولار في السوق السوداء، فهو يعلم تفاصيل الأزمة وعقم المحاولات المماثلة، مهما تعددت وجوهها. وهدف إفادة المصارف وازاه خدمةٌ للرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري. ظنَّ سلامة أنه من خلال تهدئة سعر الصرف قليلًا، يوحي للناس بأن الاتيان بالحريري رئيسًا للحكومة سينعش الأوضاع.
انهار كل شيء من تحت أقدام سلامة. لا الخدمة للحريري نفعت ولا استفاد الناس من استيراد السلع بأسعار مخفَّضة. ولم يبقَ أمام سلامة سوى الإعلان الرسمي عن موت المنصة والتوقف عن استعمالها. وهو ما لن يحصل لسببين أساسيين. أولًا، عدم القدرة على الاعتراف بالفشل. وثانيًا، لما لذلك من تأثير سلبي على سعر الصرف. وبالتالي، أحيلت المنصة للتقاعد الهادىء على غرار منصة الصرافين التي يفترض نظريًا انها تشتري الدولار على سعر 3850 ليرة وتبيعه على سعر 3900 ليرة، وهو أمر غير موجود واقعيًا.
على أحدهم دفع ثمن الخطأ فيما لو حصل تطوّر ما يستدعي ذلك. ولجنة الرقابة على المصارف حاضرة لتكون الشماعة التي سيلقي عليها الحاكم خطأه. فاللجنة هي الإطار الذي لا يرأسه الحاكم في مصرف لبنان، وهي المقارع دومًا للمصارف، والكثير من السجالات المحتدمة حصلت بين المصارف واللجنة، فوق الطاولة وتحتها. واللافت أن الحاكم وبعض قنواته، يستهدفون اللجنة عبر التساؤل عن موقعها من ارتفاع سعر صرف الدولار وعدم إجراء الرقابة على المصارف التي تمر عبرها عملية الاستفادة من المنصة. وفي الواقع، لا علاقة للجنة الرقابة بسوء تنفيذ المنصة. فالحاكم يصدر التعميم الموجب لإنشائها، ويحدد آلية عملها ومن المستفيد منها، وما على اللجنة سوى مراقبة التنفيذ ضمن الشروط المرسومة، وحسب المعلومات المقدّمة من المصارف والتي يقول الحاكم أنها كافية لاجراء الرقابة.
وسبب استهداف اللجنة هو إعلانها منذ إطلاق المنصة، أنها قاصرة عن القيام بدورها، استنادًا إلى الآلية التي وضعت خلالها، وطبيعة عملها وطريقة ربط المصارف بها، وصولًا إلى انعكاس السوق السوداء عليها لما للسوق من حجم وتأثير قادر على ابتلاع المنصة. بالإضافة إلى علاقة المصالح المتينة بين الحاكم والمصارف، والتي لا تسمح بوصول التحقيقات والرقابة إلى خواتيمها الصحيحة.