خضر حسان كتب في المدن: يمكن القول: حفلة جنون تدور في هذا البلد. يُقنعُ السياسيون أنفسهم أنَّهم يُديرون دولةُ، فيما الدولة تسير كآلة وُضِعَت يوماً على سِكَّةٍ، وتتحضَّر بفعل سوء الإدارة للخروج عن السِّكة والتَّحطُّم بما فيها. أمّا الفرامل التي رَسِمَت على هيئة سعد الحريري الذي طرح نفسه منقذاً ومُفَرمِلاً للانهيار، فلا تعدو كونها فرامل صدئة، لا حلَّ لها سوى بالرَمي جانباً.
وسط الجنون المستفحِل، يرفع بعض السياسيين شعار إقفال البلاد تحت وطأة ضغط انتشار فيروس كورونا. هو مطلب حقٍّ فيما لو كانت الحكومة تعمل بجدٍّ لاحتواء الأزمة، وتُقدِّم لمواطنيها ما تقوى عليه لمساعدتهم على احتمال الوضع. لكن في ظل الاستهتار المصحوب بوقاحة تفجير مرفأ بيروت بفسادٍ من طِرازٍ أمونيَوميّ، يُصبح الإقفال لزوم ما لا يلزَم. فالمحظور الذي يخشاه المستهلكون وأصحاب القطاعات الاقتصادية، قد وَقَع، فيما يبحث كلُّ طرفٍ عن سُبُل النجاة. المستهلكون يبحثون عن أسعار منخفضة وأصحاب القطاعات يريدون الاستفادة من كل لحظة إشغالٍ يُرمِّمون بها ما تصدَّعَ على مدار أكثر من عام. وما بينهما يُعلِن الدولار عن أسعارٍ مزاجيّة تستفيد من توتُّرِ الأجواء السياسية والاقتصادية.
رفض الإقفال
واصَلَ النشاط التجاري انزلاقه إلى مستوى يتراوح بين 70 و90 بالمئة، بحسب القطاعات، وهو ما أجبَرَ “ثلث المحال والمؤسسات التجارية على الإقفال”، وفق تقديرات رئيس جمعية تجّار بيروت نقولا شمّاس، الذي يعكس رأي أصحاب القطاعات في ما يجري على مستوى البلاد عموماً، وتحديداً حيال أسلوب تعامل الدولة مع الإجراءات الوقائية المرتبطة بكورونا وآثارها على القطاعات الاقتصادية.
الرفض هو لسان حال أصحاب القطاعات. فمهما اختلفت أساليب التعبير، إلاّ أن الإصرار على مواصلة العمل هو الحل الوحيد لتفادي المزيد من الخسائر في ظل اقتصاد لم يعد قادراً على إحصاء أرقامه السلبية. وهذا التعارض بين قرار السلطة المتَّجهة إلى اعتماد خيار الإقفال لمدّة لا تقلّ عن أسبوعين، وبين أصحاب مصالح لا يجدون مَن يعوِّض خسائرهم المتراكمة.
وحتى اللحظة، لم تحسم الحكومة خيارها المتعلّق بالاقفال، إذ نَفى وزير الداخلية محمد فهمي التوصُّل إلى قرار بإقفال البلاد لمدة 18 يوماً. وبعيداً عن مدّة الإقفال وتوقيت إبتدائه، فإن اعتراض القطاعات الاقتصادية سابقٌ له.
خيبة الأمل بالدولار
تَعَلَّقَ اللبنانيون بقشّة تكليف الحريري لتشكيل الحكومة، على أمل انخفاض سعر صرف الدولار، فكانَ لهُم ما أرادوه أوهاماً. فالدولار انخفض بقُدرة قادرٍ معلوم، رغبة منه بشقِّ طريق للحريري. فهذه المنظومة السياسية روَّجَت لحكومة آتية تختلف عن سابقاتها. لكن سرعان ما اختلَّ التوازن، وارتفع الدولار إلى حدود 7500 ليرة بعد تراجعه بمعدّل 2000 ليرة، من نحو 8500 ليرة إلى نحو 6500 ليرة.
في خِضَمِّ التراجع، شَهِدَت السوق السوداء حركة بيع كثيفة للدولار، خوفاً من انخفاضٍ إضافي يُكبِّد تجّار الدولار خسائر فادحة نتيجة تخزينهم كمّيات من الدولار اشتروها بأسعار وصلت إلى حدود 9000 ليرة. إلاّ أن عودة أسهم العملة الخضراء للارتفاع، عزَّزَ التوقّعات بإمكانية تعويض الخسائر ومسح خيبة الأمل. على أنَّ ارتفاع أسعار الدولار هو الثابت الوحيد، مهما تأخّر الوقت وتقلَّصَ هامش الارتفاع. فلا مؤشّرات إيجابية على انخفاضه بمعدّل ثابت، فالسياسات النقدية ما زالت على عهدها، وهو ما تؤكّده جمعية المصارف التي ترى بأنَّ هذه السياسة “وصلت إلى حدودها القصوى بحيث لم تعد قابلة للإستمرار في ظل تباطؤ دخول الرساميل إلى البلد وغياب السياسات، والعوامل المساعدة الأخرى”.
وإذ تشير الجمعية إلى أن مستوى “ضعف سيولة الجهاز المصرفي بالعملات الصعبة، التي لم تكن بالأساس في أفضل أحوالها، أقله منذ ما يزيد عن العامين”، والتي كانت إحدى أسباب أزمة الدولار والتدهور الاقتصادي، ما زال على حاله الضعيف. وكذلك حال “التداخل أو الارتباط الكبير بين ميزانيات كل من الدولة ومصرف لبنان والمصارف”. وأيضاً التقارير السلبية الكثيرة عن الوضع الإقتصادي والمالي في لبنان والتي انتشرت بشكل لافت منذ العام 2018، واستمرت طيلة العام 2019 حول قرب الانهيار المالي، وحركة الاستيراد الضخمة في السنوات الأخيرة التي استنفذت الاحتياطات بشكل كبير، وتراجع الأداء المالي والإقتصادي…” أدّت جميعها إلى “خيبة أمل واضحة لدى قسم من الشعب اللبناني مع نهاية صيف 2019، وهذة الخيبة عُبِّرَ عنها بقوة منذ 17 تشرين الأول 2019”.
وعليه، لا أمل في انخفاض الدولار، بل أنَّ ارتفاعه هو الخلاصة الأوضح. ويجد هذا الارتفاع دلالاته في جمعية المصارف التي توضح أنَّ وقف تدهور سعر صرف الليرة لا يمكن أن يتمّ “سوى لفترة قصيرة”. أمّا إطالة أمده، فتحتاج إلى “إستعادة عامل الثقة من الداخل وأيضاً من الخارج، نظراً للحاجة إلى تدفق أموال جديدة إلى البلد”.
سواء أُقفِلَت البلاد بضغط انتشار الفيروس أم لا، فلا شيء سيتغيَّر اقتصادياً. فمسار السقوط مفتوح، وبالتوازي، عدَّاد الدولار مفتوح صعوداً، سواء أتى الحريري رئيساً للحكومة أم أُجلِسَ آخر على الكرسيّ.