علي نور – المدن
باستثناء المعنيين في الحكومة ومصرف لبنان، لا يبدو أن أحداً ما يعرف الأولويّات التي يتم على أساسها اتخاذ القرارات المتعلّقة بالدعم أو السياسة النقديّة، أو طبيعة الفئات المستفيدة من هذه القرارات. فهذه الأخيرة باتت أشبه بأحجيات ينبغي تفكيك عناصرها في كل مرّة لفهمها، وحتّى بعد فهمها، يصبح على المراقب حل أحجيات أخرى لمعرفة الغايات التي تحققها، أو سبب اتخاذ هذه القرارات أصلاً. السؤال المركزي هنا: لمصلحة من تُدار الأمور اليوم؟ ولأجل من ندفع كل هذا الثمن؟
رفع الأسعار بعد انقطاع الدواء
في أواخر الأسبوع الماضي، انتشرت اللوائح الجديدة التي سيتم على أساسها “ترشيد دعم الدواء”. ما يقارب 1500 دواء سيرتفع ثمنه محلياً بنحو ثمانية أضعاف، بمجرّد رفع سعر الصرف المعمول به لتسعيرها من 1507.5 ليرة للدولار الواحد إلى 12,000 ليرة للدولار. في المقابل، ثمّة 406 أدوية سيرتفع ثمنها بما يقارب 3.2 مرّات، بعد رفع سعر الصرف المعتمد لتسعيرها إلى 4800 ليرة مقابل الدولار. علماً أن الخطة نفسها لم تقدّم أي أجوبة واضحة وحاسمة بخصوص بآليات الدعم الجديدة التي سيتم اعتمادها بعد “ترشيد الدعم” المزعوم.
الوصول إلى هذه المرحلة جاء بعد مرحلة عسيرة من انقطاع الدواء. فوزارة الصحّة تصدر لوائح الأدوية التي يتم على أساسها استيراد الدواء المدعوم من دولارات مصرف لبنان، وبيعه وفقاً لجداول أسعار محددة لا يمكن تخطيها. ومعاملات الاستيراد عالقة لدى مصرف لبنان منذ أشهر، بحجة تقنين الدولارات القابلة للاستخدام في عمليات الدعم، وعدم موافقة المصرف المركزي على استخدام احتياطاته المتبقية إلا وفق آليّات اقتراض لم يتم وضع إطارها القانوني بعد. ولهذا السبب، حصلت أزمة انقطاع الدواء، نتيجة عن عدم توفّر الدولار المدعوم للمستوردين، وعدم قدرتهم على استيراد الدواء بدولار السوق السوداء وبيعه من دون دعم، لارتباطهم بلوائح التسعير الخاصة بوزارة الصحّة.
لا حل لانقطاع الدواء واستنزاف الاحتياطات
السؤال الأساسي يتعلّق هنا بالغاية التي يحققها القرار. فسعر الدولار في السوق السوداء يتراوح اليوم عند مستويات تتجاوز 22 ألف ليرة للدولار الواحد، ما يعني أن شراء دولار السوق السوداء لاستيراد الأدوية وبيعها على أساس سعر صرف 12,000 أو 4800 ليرة للدولار غير ممكن بالنسبة لشركات استيراد الدواء. الطريقة الوحيدة لتمويل استيراد الأدوية التي تم زيادة أسعارها، هي بالاستفادة من دولارات المصرف المركزي، لكن وفق أسعار الصرف الجديدة (أي 12,000 و4800 ليرة للدولار). ولهذا السبب، فالقرار الجديد لا يعني من الناحية العمليّة وقف الاعتماد على دولارات مصرف لبنان لاستيراد الأدوية التي تم رفع أسعارها، بل سيعني زيادة ثمن شراء الدولارات بالنسبة للمستورد، وهي كلفة سيتحملها المرضى لاحقاً. باختصار: ما يجري الآن ليس ترشيد فعلي للدعم وما يستنزفه من دولارات، بل مجرّد زيادة أسعار.
هكذا سيتحمّل المرضى كلفة زيادة الأسعار المقبلة، من دون أن يتخلّصوا فعلياً من مشكلة شح الدواء الناتجة عن تقنين مصرف لبنان لحجم الدولارات التي يخصصها لعمليات الاستيراد المدعومة. مع العلم أن شركات استيراد الأدوية نفسها لم تبدِ الكثير من التفاؤل بخصوص هذا الخطوة، من ناحية قدرتها على معالجة نقص الأدوية في مخازنها. وبذلك، يبدو أن سوق الأدوية سيتجه إلى سيناريو مشابه لما حصل في سوق المحروقات، حين قرر مصرف لبنان بالتفاهم مع الحكومة رفع سعر الصرف المعتمد لاستيراد المحروقات، من دون أن تنتهي ظاهرة طوابير السيارات أمام محطات الوقود، أو شح المازوت الذي يستعمله أصحاب المولدات الخاصّة لإنتاج الكهرباء.
في الوقت نفسه، لا يبدو أن الخطوة ستؤدي إلى أي تقدّم على مستوى أزمة استنزاف الاحتياطات الموجودة في مصرف لبنان، والتي تمثّل آخر ما تبقى من أموال المودعين، كون استيراد الدواء سيبقى ممولاً من هذه الدولارات. مع الإشارة إلى أن استنزاف هذه الاحتياطات، واقترابها من مستوى الاحتياطات الإلزاميّة التي فُرض على المصارف إيداعها لدى المصرف المركزي، مثّلا الحجة الأساسيّة لحاكم مصرف لبنان لتقنين حجم الدولارات التي يتم توفيرها لتمويل معاملات استيراد السلع الأساسيّة على أنواعها، وللمطالبة بترشيد عمليّة الدعم، كون الحاكم يعتبر أن هدف الاحتياطات الإلزاميّة هو أن تكون ضمانة للمودعين، لا استخدامها في عمليات الدعم.
أهم ما في الموضوع، هو أن الأدوية تُعد من الناحية الاقتصاديّة من أصناف السلع التي لا يتسم الطلب عليها بالمرونة، أي أن ارتفاع سعرها لن يؤدّي إلى خفض الطلب عليها بنسب كبيرة، كون هذا الطلب يتصل بحاجات ملحّة وماسّة لا يمكن الاستغناء عنها. وبالتالي، فمن غير المتوقّع أن يؤدّي رفع أسعار الأدوية إلى انخفاض كبير في حجم استيراد الأدوية، أو في حجم الدولارات التي يستنزفه استيرادها، ما يدل مجدداً على عدم جدوى خطة ترشيد الدعم الجديدة، من ناحية التعامل مع أزمة تمويل استيراد الدواء. لا بل يمكن القول أيضاً أن الرهان على رفع الأسعار، لتقليص الطلب على الدواء، يُعد أساساً تجاوزاً لجميع المعايير الأخلاقيّة التي تحكم إدارة قطاع كقطاع الدواء.
ماذا يريد مصرف لبنان فعلاً؟
ما المطلوب من هذه الخطوة إذاً، طالما أنها –كخطوة رفع سعر المحروقات- لن تؤدي إلى أي تحسّن في وتير استنزاف الاحتياطات، أو في مشكلة نقص الأدوية في الأسواق؟
تشير مصادر مصرفيّة إلى أن حسابات مصرف لبنان تتشعّب في المرحلة الحاليّة، لتشمل أموراً أخرى كحجم الكتلة النقديّة المتداولة في السوق، وتأثيرها على سعر الصرف. فالتعميم 158 دخل في بداية الشهر الحالي حيّز التنفيذ، وهو التعميم الذي ينص على تأمين سحوبات نقديّة شهريّة لعملاء المصارف، نصفها بالدولار النقدي ونصفها الآخر بالليرة اللبنانيّة. ولذلك، فمصرف لبنان مهتم في هذه المرحلة بامتصاص أكبر قدر ممكن من السيولة بالليرة من الأسواق، لتقليص آثار كميات السيولة التي سيتم ضخها لاحقاً بالليرة اللبنانيّة، بالتوازي مع بدء السحوبات النقديّة بالليرة من المصارف وفقاً لمندرجات التعميم 158. فأي توسّع كبير في حجم السيولة المتداولة في السوق بالليرة، سيعني تلقائياً المزيد من التدهور في سعر صرف الليرة نفسها، بعد تحوّل كل هذه السيولة إلى طلب على الدولار للاستيراد أو الإدخار.
لهذه الأسباب، يلجأ اليوم مصرف لبنان إلى استغلال ملف دعم الدواء بالتحديد، لرفع كلفة شراء الدولارات المطلوبة للاستيراد، من أجل امتصاص المزيد من النقد بالعملة المحليّة من السوق. أما المسألة التي سهّلت استخدام هذا الملف بهذه الطريقة، فهي التعاميم السابقة التي أجبرت المستوردين على سداد قيمة الدولارات المطلوبة للإستيراد بالليرة بالنقد الورقي، ما يعني أن أي زيادة في ثمن هذه الدولارات سيعني زيادة السيولة بالعملة المحليّة التي يمتصها مصرف لبنان من السوق. ببساطة، يريد مصرف لبنان أن يسهّل عمليّة تطبيق التعميم 158 وسحوباته، باستخدام صحّة المقيمين في لبنان وقدرتهم على شراء الدواء.
في بداية هذا الشهر، تمكّن مصرف لبنان ولأوّل مرّة منذ بداية الأزمة من تخفيض حجم كتلة النقد الورقي المتداولة في الأسواق، بعد أن شرع منذ أسابيع بامتصاص النقد عبر بيع الدولارات لمستوردي المواد الغذائيّة بسعر المنصّة، عوضاً عن بيعه على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد كما كان يجري سابقاً. لاحقاً، رفع مصرف لبنان سعر الدولارات التي يقوم ببيعها لاستيراد المحروقات من 1507.5 إلى 3900 ليرة مقابل الدولار، للغاية نفسها. واليوم، يبدو أن مصرف لبنان قرر التوسّع في هذه العمليات، من خلال رفع سعر الدواء. المشكلة الأساسيّة هنا هي أنّ ثمّة من يقرر اليوم كيف ندفع ثمن الأزمة والمعالجات، من دون أن يُعلن أمام الرأي العام تفاصيل هذه المعالجات وغاياتها والفئات المستفيدة منها، رغم كلفتها الكبيرة على أكثر الشرائح الاجتماعيّة هشاشة.