المرشّح الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، أكان جو بايدن أم دونالد ترامب، سيواجه تحدّيات وصعوبات داخلية وخارجية، نُدِر أن واجه مثلها رئيس أميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالذي سيتربّع على مقعد رئاسة الإمبراطورية الأميركية المنحدرة سيجد نفسه أمام شرخ داخلي لا سابق له بين «أميركتين» يخشى الكثيرون أن يفضي إلى نزاعات أهلية دامية ومديدة، وأمام مشهد دولي تتسارع فيه ديناميات صعود المنافسين، مع ما تحمله من تهديدات بالانزلاق الى صدامات مباشرة معهم يصعب التنبّؤ بنتائجها، بالتوازي مع مسار تفكّك التحالفات الموروثة من حقبات سابقة، وتصاعد الصراعات بين أفرقاء إقليميين ودوليين تتراجع قدرة الولايات المتحدة على التحكّم فيها. الفوز في الانتخابات الرئاسية، في مثل هذا السياق العام، قد لا يكون أكثر من «هدية مسمومة»، تمثّل مقدمة لسلسلة من الانتكاسات والإخفاقات سيتحمّل مسؤوليتها رئيسٌ سيجد نفسه مضطراً إلى الأخذ بخيارات أحلاها شديد المرارة.
نُذُر النزاعات الداخلية
معدّلات المشاركة المرتفعة والمفاجئة في الانتخابات الرئاسية مفاجأة غير سارّة بالنسبة إلى دونالد ترامب. سبق لهذا الأخير أن حذر، خلال مهرجان انتخابي يوم السبت الماضي، من وقوع «أحداث شديدة السوء» في حال إعلان هوية الفائز يوم 3 تشرين الثاني، متوقعاً أن تَعمّ الفوضى بلاده. لَمّح ترامب، في أكثر من مناسبة في الأسابيع الماضية، إلى احتمال وقوع عمليات تزوير بسبب التصويت عن بعد، وهو احتمالٌ نفاه مدير «أف.بي.آي» المُعيّن من قِبَله، كريس وراي. هو يعلم أن نقطة ضعفه الأبرز، التي استغلّها منافسه الديمقراطي بقوة، هي إدارته الكارثية لجائحة كورونا وتداعياتها المُروّعة إنسانياً واقتصادياً واجتماعياً في الولايات المتحدة، والتي أدت إلى تعبئة قطاع وازن من الرأي العام ضدّه. «مجموعة الأزمات الدولية»، التي تُعنى عادة بتحليل خلفيات النزاعات في البلدان «النامية» واقتراح آليات لحلّها سلمياً، أصدرت، في خطوة وُصفت بـ»الاستثنائية» من قِبَل رئيسها روبرت مالي، تقريراً يشير إلى احتمال وقوع «اضطرابات وأعمال عنف واسعة» في الولايات المتحدة على خلفية الانتخابات والتشكيك في نتائجها من قِبَل كتل وازنة من الأميركيين. التقرير، الذي نشرت «الأخبار» يوم الإثنين أهمّ ما ورد فيه، يُركّز على أن رفض ترامب لنتائج الانتخابات واحتمال إقدامه على الطعن في نتائجها أمام القضاء، إضافة إلى عوامل أخرى: «غرق الولايات المتحدة بالأسلحة وسجلها السوداوي السابق في الحروب الأهلية، والقتل العشوائي، إضافة إلى الصراع الطبقي الحادّ والعبودية وغيرها، وتنامي الحركات المنادية بتفوّق العرق الأبيض في عهد ترامب، وتزايد الظلم العنصري ضدّ السود ووحشية الشرطة، جميعها أسباب تُرجّح إمكانية حدوث أعمال عنف».
ستدخل الولايات المتحدة في فترة طويلة من غياب الاستقرار السياسي
وحتى إذا نجح الفريق المنتصر في الانتخابات في تجاوز مرحلة من الصراع الداخلي المحموم، فإنه سيجابَه خلال سنوات حكمه بمعارضة داخلية عنيدة من قِبَل قطاع وازن من المجتمع والنخبة السياسية الأميركيَّين. يصحّ هذا الكلام على ترامب وبايدن على حدّ سواء. المنتصر بينهما سيُتّهم بعدم تمثيل الإرادة الشعبية «الحقيقية»، وبـ»التضحية» بالمصالح الوطنية على مذبح مصالحه الخاصة ومصالح القوى السياسية والاجتماعية الداعمة له. ستترتّب على هذا الاستقطاب الداخلي العميق مساعٍ من الفريق المعارض لإفشال السياسات التي يعتمدها ذلك المنتصر بغية إضعافه وإلحاق الهزيمة به في المستقبل. بكلام آخر، ستدخل الولايات المتحدة في فترة طويلة من غياب الاستقرار السياسي، «الضروري لحسن سير النظام الديمقراطي» بحسب تعبير مُنظّريه، وتزايد للتناقضات الداخلية ستكون له انعكاسات سلبية على موقعها الدولي.
خطر الانزلاق إلى حرب مع الصين
العداء المستشري والمتزايد للصين في النخبة السياسية الأميركية، بجناحَيها الديمقراطي والجمهوري، وارتفاع مستوى التوتر معها في جوارها المباشر، في بحر الصين وحول تايوان، والإصرار على تشديد الضغوط والعقوبات التجارية والاقتصادية عليها بحجة انتهاكها لحقوق الإنسان في هونغ كونغ والسين كيانغ، جميعها عوامل تجعل من إمكانية الانزلاق نحو صدام مفتوح معها فرضية واقعية. قبل تناول المعطيات التي قد تدفع في هذا الاتجاه، لا بدّ من إدراك أبرز سمة في الوضع الدولي الراهن، وهي الانتقال من هيمنة أحادية إلى انتشار وتوزّع القوة على الصعيد الدولي، مع صعود دور أطراف جدد، وفي مقدّمتهم الصين، وتحوّلها إلى منافس من المستوى نفسه، ورفض القطب المهيمن سابقاً، وهذا هو الأهمّ، التسليم بالانتقال المذكور. مثل هذا السياق هو الذي يؤسِّس تقليدياً للنزاعات والحروب.
يرى كريستوفير لاين، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تكساس، في مقال لافت في العدد الأخير من «فورين أفيرز» بعنوان «العواصف القادمة»، أن فرضية استحالة الصدام المباشر بين القوى العظمى، والتي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، أساساً بسبب خطر الإفناء المتبادل الناتج عن امتلاك كلّ منها للسلاح النووي، باتت غير مطابقة للوقائع الراهنة، وأوّلها التطور الهائل الذي تمّ في مجال الأسلحة النووية التكتيكية، والذي يتيح المجال لاستخدامها بشكل محدود، ومن دون الذهاب إلى درجة الإفناء المتبادل. الحُجّة الثانية التي تورَد أيضاً من أنصار استحالة الصدام المباشر هي تداخل المصالح الاقتصادية بين الأطراف الدوليين، وفي حالتنا هذه بين الولايات المتحدة والصين. يؤكد لاين ما سبق أن أشار اليه العديد من الباحثين، من أن مسار فسخ للشراكة بين البلدين قد بدأ في السنوات الماضية، وأن تفكيك شبكة المصالح الضخمة المشتركة يتسارع في الآونة الأخيرة، وبقرار من قيادتَيهما. علاوة على ذلك، فإن وجود مصالح مشتركة وروابط اقتصادية وثقافية عميقة لم يمنع الحرب بين بريطانيا وألمانيا في 1914، على رغم غياب أيّ أسباب مباشرة لها، كالنزاع الحدودي أو التنافس للسيطرة على بلد ما، بينهما. يردّ الأكاديمي الأميركي الدافع الرئيس للحرب إلى تعاظم القدرات العسكرية، خاصة البحرية، لألمانيا، وكذلك الاقتصادية والصناعية، وما مَثّله من تحدٍّ لقوة مهيمنة كبريطانيا، بدأت تشعر في تلك الحقبة بتراجع قدراتها. وهو يعتبر أن «هذه المسارات الانتقالية من النادر أن تتمّ بشكل سلمي. القوة المسيطرة عادة ما تكون متغطرسة، وتعطي دروساً لبقية دول العالم حول كيفية إدارة شؤونها، وتتجاهل مخاوفها وتطلّعاتها. مثل هذه القوة، بريطانيا في الماضي، أميركا اليوم، تقاوم بعناد انحدارها، والقوة الصاعدة متلهّفة للحصول على ما تعتبره حصتها العادلة من المغانم، أكانت في ميادين التجارة أم الموارد أم مناطق النفوذ». الرئيس الأميركي المقبل سيكون أمام تحدّي إدارة الصراع مع الصين، مع ضبط سقفه للحؤول دون الانزلاق نحو الحرب معها.
مسار تفكّك التحالفات
يُلام ترامب باعتباره مسؤولاً عن إضعاف تحالف الولايات المتحدة مع بقية الديمقراطيات الغربية بسبب تعريفه الضيّق للمصالح الأميركية ورؤيته «المركنتيلية». في الحقيقة، فإن الخلافات الاقتصادية والتجارية بين واشنطن وشركائها الأوروبيين، والتباينات المتزايدة في المصالح، ظهرت بوضوح للعيان منذ رئاسة أوباما، وتفاقمت بطبيعة الحال مع ترامب. في حال بقاء الأخير في السلطة، فإنها مرشّحة للمزيد من التفاقم، مع ما يستتبع ذلك من تداعيات على التحالف. في حال انتصار بايدن، وعلى رغم إعلانه نيّته «ترميم» العلاقات مع هؤلاء الشركاء، فإن طموحه إلى اتباع «سياسة خارجية لصالح الطبقة الوسطى» يعني التشدّد في مفاوضاته التجارية والاقتصادية معهم، والسعي إلى منع نموّ علاقاتهم مع منافسيه الدوليين كروسيا والصين. وتأتي النزاعات بين الدول الأعضاء في «الناتو»، كتلك الدائرة في ليبيا أو شرق المتوسط، لتُضاعف من صعوبة الحفاظ على تماسك الحلف في ظلّ التناقضات المتنامية في مصالح بعض أعضائه.
حقيقة الشرخ الداخلي في الولايات المتحدة، ومخاطر التدحرج نحو نزاع مدمّر مع الصين والاتجاه إلى تزايد الصراعات والنزاعات بين العديد من اللاعبين الدوليين، وحتى غير الدوليين، في أنحاء مختلفة من العالم، ستجعل من الفائز في الانتخابات الأميركية كَمَن فاز بِكُرة من لهب.