نقولا ناصيف – الاخبار
رغم الغموض الذي يحوط بمسار اجتماعات تأليف الحكومة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، في الأيام الأخيرة، ما إن وطأ كل منهما المنطقة المحرّمة في الآخر، يرجّح مرجع رسمي نسبة التأليف وإن بفروق قليلة، لا تزال في حسبانه غير كافية لبعث التفاؤلشرعت مغادرة السفير السعودي وليد البخاري بيروت الأربعاء الفائت، في طرح أسئلة عن توقيتها، مع أن بعض المعلومات كان تحدّث عن مغادرته السبت من نهاية الأسبوع المنقضي، دونما إضفاء أي طابع عجلة أو إلحاح عليها. أُعطيت لها أسباب شتى غداة تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف الحكومة، بين قائل إنها للتشاور في المرحلة التالية، وقائل إنها لتمضية إجازة، وقائل إنها لتأكيد إدارة الظهر لمرحلة التأليف في انتظار صدور مراسيم الحكومة الجديدة كي تحدد المملكة موقفها منها.
التفسير الثالث هو نفسه رافق تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة إلى أن أشهر اعتذاره بعد أكثر من ثمانية أشهر. مع ذلك، يكتسب الموقف السعودي من التكليف ثم التأليف بُعداً مضاعفاً في موازاة الموقف الدولي حيال مساعدة لبنان على انتشال اقتصاده ونقده الوطني من القعر، سواء بمدّه باستثمارات ومساعدات مالية من المملكة ثم من دول الخليج – المموّل الرئيسي المفترض لهذا الانتشال – أو من برامج المجتمع الدولي.
على أن إصراwر الرياض على غموض موقفها، خلافاً لما يسمعه المسؤولون اللبنانيون من عواصم كبرى معنية بالوضع الداخلي، بترحيبها الحالي بميقاتي رئيساً مكلفاً كترحيبها بالحريري وقتذاك، وبعرض مقترحاتها للمساعدة والتمسّك ببرنامج الإصلاحات واستعجال تأليف حكومة جديدة، لا يحجب معطيات سمعتها شخصيات لبنانية على تواصل دائم مع السفارة السعودية في بيروت، من شأنها إبراز موقف يكمن في ما هو معروف باللاموقف:
أولها، أنها لن ترشّح أحداً لترؤس الحكومة وتسمّيه، انطلاقاً من اعتقاد الرياض بأن تزكيتها اسماً ما، أياً يكن، سيجعله رئيساً مكلفاً ويحظى للفور بغالبية نيابية، ما يحمّلها مسؤولية هذا الخيار، ويفترض للتوّ أنه سيقترن بتدفق مساعدات مالية لتأكيد دعم مرشحها. الأمر الذي تستبعده تماماً في هذا الوقت، ولا تريده حتى.
ثانيها، ما يُسمع أيضاً من المحدّثين السعوديين أن سياسة دفتر الشيكات السابقة انتهت إلى الأبد. ما يقوله هؤلاء، أن ليس للرياض أن تبدي رأيها في السياسة الداخلية التي ينتهجها لبنان، لكنها تريد أن تعرف إلى أين ذهبت مليارات الدولارات التي قدّمتها إلى الدولة اللبنانية، كما إلى أفرقاء كثيرين في هذا البلد، في العقود الأخيرة. ليس خافياً عليها أن الأفرقاء أولئك هم الذين تحكموا بمقدرات السلطات كلها، وهم المسؤولون عن إهدار الأموال تلك. من ذلك كلام المملكة عن تأييد برنامج إصلاحات شاملة يتقدّمها التحقيق الجنائي الذي يكشف لها مصير أموالها المهدورة.
ثالثها، أن البخاري ليس سفيراً عادياً لها في بيروت، بل هو وزير مفوّض بصلاحيات كاملة، على نحو يتيح له إلزام حكومته بقرارات تبعاً لتقويمه عن قرب الواقع اللبناني. لذا يُنظر بكثير من الاهتمام إلى تحرّكه في الداخل اللبناني عندما يزور أحداً كإشارة دالة، وعندما يُحجم عن زيارة أحد آخر كإشارة معاكسة ومناقضة. بمقدار تمسّكه بالتحفّظ والابتعاد عن إرسال العلامات الإيجابية ما يُقرأ بالضرورة علامات سلبية، فإن وجوده في ثلاثية ديبلوماسية مع نظيرتيه الأميركية والفرنسية يعكس أهمية الدور الذي يضطلع عليه، من غير أن يكون في صدارة الحدث كدوروثي شيا وآن غريو.
رابعها، لأن السعوديين لا يريدون تحمّل أي مسؤولية واضحة في لبنان، يتفادون بذلك أن يمسوا شركاء فيه، لئلا تترتب عليهم تداعيات هذا الموقف في النزاعات الإقليمية، وخصوصاً مع الجمهورية الإسلامية في إيران. تعي الرياض أن مفتاح تعويم الاقتصاد اللبناني في يدها هي قبل سواها، في موازاة أهمية مماثلة لمفتاح سلاح حزب الله وقوته في الداخل اللبناني في يد طهران.
خامسها، كما أن اعتذار الحريري عن عدم تأليف حكومة لم يزعّلها، إن لم يكن ذلك ما كانت تفضّله في ظلّ انهيار علاقتها به، تفادت الترحيب بميقاتي خلفاً له، أو إبداء أي اهتمام علني يتجاوز موقفها المعروف. كلما اقتربت علاقة السلف والخلف، أحدهما مع الآخر، وتطابقاً على نحو ما يفصحان عنه، تصبح أقل اطمئناناً، خصوصاً حيال الرئيس المكلف. لا قطيعة محكمة معه كالحريري، إلا أن الأبواب غير مشرّعة الدفتين تماماً.
سادسها، ما تطلبه المملكة وسمعه أكثر من مرّة متصلون بها، أنها تريد من أي حكومة لبنانية – أياً يكن رئيسها – اتخاذ مسافة وسطى بينها وبين إيران، على نحو ما تفعله حكومة مصطفى الكاظمي في العراق. لا تنحاز إلى أي من الدولتين، وقادرة على تنظيم علاقة متوازنة ما بينهما، ما دام من المتعذّر – طبقاً للتوازنات القائمة في البلاد والموقع القوي والنافذ الذي يشغله حزب الله في ولاية الرئيس ميشال عون – العودة إلى السياسة التقليدية اللبنانية لعقود طويلة من الزمن.
سابعها، يكشف المحدّثون السعوديون لزوّارهم اللبنانيين أن لديهم معلومات مقلقة، لكنها مؤكدة وموثقة حتى، عن أن مقاتلين حوثيين يتدرّبون في لبنان، وآخرين مصابين جرحى يصير إلى معالجتهم فيه عوض الذهاب بهم إلى إيران الأقرب إلى اليمن. يذهب هؤلاء في القول إلى أن تهريب أفراد لبنانيين «معادين» إلى داخل السعودية يجري على قدم وساق. لا يتردّدون في القول إن الاستخبارات السعودية زوّدت الأجهزة الأمنية اللبنانية معلومات عن مهرّبي مخدرات – بالاسم يحدّدون الكبتاغون – يصير في لبنان إلى دهمهم وتوقيفهم، ثم لا يلبث أن يُطلقوا على طريقة «الباب الدوار»: يخرجون من حيث يدخلون، كما لو أن ثمة مَن يحميهم سياسياً وقضائياً وأمنياً.
أبعد من ذلك، يخوضون في التفاصيل: الامتحان الفعلي للسلطات اللبنانية هو حسن دقو – يحدّدونه أيضاً بالاسم – الذي يُعدّ أكبر المهرّبين الموقوف لدى القضاء اللبناني، ويترقّبون سبل تعامل السلطات اللبنانية مع ملفه، هو المحسوب أكبر مهرّب للكبتاغون في الشرق الأوسط. يعرفون أيضاً أن الرجل «سنّي من الطفيل»، تقف وراءه جهة سياسية نافذة في لبنان.