جوني منيّر- الجمهورية
الرسالة السياسية الأوضح التي يمكن «استخراجها» من الاقتراب من التوقيع على ترسيم الحدود البحرية، هي بأنّ الافق ليس مفتوحاً على صدامات وتصعيد عسكري، لا بل على العكس فإنّ الافق اصبح مفتوحاً على سياسة واقعية وإنجاز تسويات من قبل كل الاطراف، لا سيما الطرفين اللذين يقفان على طرفي نقيض، والمقصود هنا اسرائيل و»حزب الله». صحيح انّ الولايات المتحدة الاميركية مارست ضغوطها على اسرائيل لإنجاز الترسيم البحري قبل الانتخابات الاسرائيلية والتي باتت تنبئ بعودة نتنياهو الى السلطة، الا انّ الصحيح ايضا هو أن هذا الاتفاق ما كان ليحصل من دون عدم اعتراض ايران من جهة والمؤسسة العسكرية الاسرائيلية من جهة اخرى.
واستطراداً، فإن هذا التطور المهم الذي حصل يؤشّر الى ان التسوية ايضا هي التي ستحتضن الاستحقاق الرئاسي اللبناني المنتظر، لكن مقاربة هذا الاستحقاق بشكل حاسم ما تزال بحاجة لبعض الوقت ذلك ان اوانها لم يحن بعد. والاتفاق على الترسيم البحري يعني ايضا بأن لـ»حزب الله» تأثيره في الاستحقاق الرئاسي، اي انه لن يجري الدفع باتجاه رئيس يثير حفيظة الحزب او حساسيته، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن تسهيل الدرب امام وصول رئيس يثير حفيظة دول الخليج وخصوصا السعودية والتي ستتولى مَد يد المساعدة الاقتصادية لانتشال لبنان من واقعه المزري.
والجلسة النيابية التي عقدت لانتخاب رئيس للجمهورية أعطت انطباعاً سلبياً للعواصم الغربية المهتمة والمتابعة للوضع اللبناني، التقييم الغالب لدى الاوساط الديبلوماسية المعنية بأنّ الجلسة كانت «فولكلورية» اكثر منها جلسة جدية وفعلية. فالذهاب الى الاوراق البيضاء لم يكن خياراً موفقاً، واقتراع النواب «التغييريين» أظهَر عدم واقعية او نضج كاف لدى هذه المجموعة. كان موقفهم اقرب الى الدعاية الانتخابية منه الى الخطوة السياسية الفعلية، وفق ما اعتبرته اوساط ديبلوماسية مطّلعة. اما ميشال معوض فجاءت نتيجته ادنى مما توقّعه هو، فلقد سمع ديبلوماسي اوروبي منه قبل الجلسة بأنه سينال حوالى 45 صوتاً، لتأتي النتيجة 36 صوتاً. وقد لا يصلح هنا تعداد وإضافة بعض النواب الذين غابوا، لأنّ غيابهم قد يكون مقصوداً وله معنى ما، مثل تغيّب النائب ستريدا جعجع. فالبعض قرأ فيه وكأنّ سمير جعجع اراد ان يقول شيئاً ما، وبالتالي فإن ترشيح معوض اقرب لأن يكون ترشيحاً مرمزاً منه فعلياً وحقيقياً. اما على مستوى النواب السنة فيجب النظر بتمعّن اكبر بعد الدخول السعودي المُستجد من خلال السفير البخاري وسعيه لإعادة الامساك بالقرار النيابي السني، وبالتالي السعي لقياس التأثير الجدي المتبقّي للرئيس سعد الحريري على النواب السنة.
في كل الاحوال عزّزت صورة الجلسة الاولى لانتخاب رئيس جديد للجمهورية الانطباع القائل انّ لبنان ذاهب الى فترة شغور رئاسي، خصوصاً انّ القوى البرلمانية الاساسية كانت، وبموازاة انعقاد جلسة انتخاب الرئيس، تخوض مناكفات طاحنة حول تركيبة الحكومة التي ستتولى مسؤولية المرحلة المقبلة وحيث ينوي رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل استبدال عبد الله ابو حبيب بالنائب السابق امل ابو زيد في وزارة الخارجية.
وخلال الساعات القادمة سيصل وفد فرنسي رسمي الى بيروت برئاسة مديرة قسم الشرق الاوسط وشمال افريقيا الوزيرة المفوضة آن غيغين. صحيح انّ غيغين كانت ضمن عداد الوفد الرسمي الفرنسي الذي شارك في اجتماع نيويورك الثلاثي بين فرنسا والولايات المتحدة الاميركية والسعودية، الّا ان إرسال وفد فرنسي برئاستها عوضاً عن احد معاوني ماكرون الاساسيين او وزير الخارجية الفرنسية يعتبر وكأنه اشارة الى عدم تبلور قرار رسمي او دولي حيال الاستحقاق الرئاسي والمرحلة المقبلة في لبنان.
فمن جهة هنالك التطورات الاقليمية التي لم تنضج بعد، والتي يجب ان تسبق التفاهم المطلوب لإنتاج الاستحقاق الرئاسي اللبناني ورسم ملامح المرحلة المقبلة، ومن جهة اخرى ما يزال القرار الفرنسي لم يحسم بعد حيال الاستحقاقات اللبنانية المنتظرة.
وهو ما يعني انّ زيارة الوفد الفرنسي هي للاستطلاع ليس اكثر، وللقول ايضا انه صحيح بأنّ التوقيت الاقليمي والدولي لم يَحِن بعد، لكنّ لبنان ليس منسياً. فملفه موجود على الطاولة ولكن تسبقه ملفات عديدة لها الاولوية الآن.
ولذلك لا بد من انتظار القمة الاميركية – الفرنسية، والتي تقررت مبدئياً في الاول من كانون الاول المقبل في واشنطن، لأنها ستكون قمة حافلة بالملفات الساخنة والملتهبة كمثل الحرب في اوكرانيا وأزمة الغاز والاتفاق النووي مع ايران، لكن الملف اللبناني سيكون حاضراً. قبل ذلك هنالك المؤتمر الذي تعمل باريس على إنجاح انعقاده في الاردن على ان يسبق قمة واشنطن، والذي ستحضره ايران والسعودية والعراق، وهنا ايضا سيكون لبنان حاضراً.
وطالما انّ الاستنتاج السياسي لملف الترسيم البحري بأن الافق اصبح يسمح بالبحث بالتسويات حول لبنان، فإنه لا بد من الاعتقاد بأنّ الحركة الدولية والاقليمية ستكون ناشطة رغم انها حالياً في ادنى مستوياتها.
ربما لذلك تُحاذِر السفيرة الاميركية في بيروت دوروثي شيا من التوغّل في ملف الاستحقاق الرئاسي. كانت تحصر تركيزها في ملف الترسيم البحري، اما في ملف الاستحقاق الرئاسي كانت تَتعمّد التركيز على ضرورة حصوله في موعده ولكن من دون مقاربة الاسماء المطروحة والجاري التداول بها.
اما في باريس فهناك اسمان لا ثالث لهما يجري التداول بهما كمرشحين جديين للرئاسة: سليمان فرنجية والعماد جوزف عون.
وداخل الادارة الفرنسية، وتحديداً مستشار ماكرون ايمانويل بون ورئيس المخابرات برنارد ايمييه، يشجّعان موقفاً فرنسياً لصالح فرنجية. ووفق قراءتهما، فإنّ وصول فرنجية سيُنعش العلاقة الفرنسية بـ»حزب الله» بشكل اكبر، وسيفتح باباً مهماً لباريس مع دمشق التي يحظى رئيسها بشار الاسد بعلاقة مميزة بفرنجية. وبالتالي طالما ان قرار بقاء الاسد على رأس السلطة في سوريا اصبح محسوماً ونهائياً، فإن وصول فرنجية الى سدة الرئاسة في لبنان بدعم فرنسي سيؤدي الى اعادة تصحيح العلاقة مع دمشق وفَتح ابواب الاستثمارات الاقتصادية على وسعها امام فرنسا.
لكن في المقابل هنالك رأي معاكس يتحدث عن إغفال الاعتراض السعودي الذي أعلنه بوضوح الوفد السعودي خلال لقائه بالوفد الفرنسي في باريس مؤخراً.
ووفق اصحاب هذا الرأي، فإنّ السعودية أصلاً بَدت غير مكترثة وغير مهتمة بالملف اللبناني الذي هو بأشدّ الحاجة لمساعدتها كي يستطيع النهوض من حال الانهيار الذي يعيشه، والذهاب في هذا الاتجاه سيمنح السعودية العذر للبقاء خارج الاهتمام اللبناني وهو ما سيُدخل لبنان في منزلق التفسّخ والتفتت بسبب عدم وجود قدرة لمساعدته اقتصادياً، وسيُحتّم على فرنسا أثقالاً ومسؤوليات هي بغنى عنها وسط العاصفة الاوكرانية لتي تهز اوروبا. لكن ثنائي بون – ايمييه اقترح امكانية وضع لائحة من عدة بنود تطمئن السعودية ويعلن فرنجية التزامه بها.
في المقابل، اعتبر الفريق الآخر انّ الطريق الانسب قد يكون من خلال دعم شخصية قادرة وموجودة وتحظى في الوقت نفسه على عدم اعتراض «حزب الله» والسعودية في آن معاً. ولو انّ هؤلاء اعترفوا ايضا بوجوب التشاور بشكل مفصّل اكثر مع الاميركيين ولا تستطيع سوى واشنطن منحها والالتزام بها تجاه «حزب الله». كل ذلك يوحي بأن الشغور الرئاسي حاصل حتماً، ولكن مع سعي بألا تطول مدته كثيراً، فلبنان لا يستطيع التحمّل.