هيام القصيفي – الاخبار
هل أزمة المحروقات الحادّة التي يعانيها لبنان، هي بسبب تخزين بضعة آلاف من ليترات البنزين والمازوت تحت الأرض مع كل الأخطار التي تحدق بعمليات مداهمتها كما حصل في عكار؟ وهل صارت مشكلة عدم تأمين الكهرباء مسؤولية أصحاب المولدات وهو قطاع خاص، استهدفته وزارتا الاقتصاد والطاقة والقوى الأمنية مرات عدة بحملات ضده، وكأنه هو سبب انقطاع الكهرباء؟ وهل مشكلة فقدان الدواء هي في تخزين بعض المستودعات أدوية اشتروها كتجار وشركات من مالهم الخاص، وهل مشكلة الدواء في الصيادلة الذين تعطلت أعمالهم بفعل تسعيرة وزارة الصحة المنافية للمنطق، لمخالفتها سعر الدولار الحقيقي؟ من دون التخفيف من واقع جشع التجار والمستوردين، فإن مشكلة الدواء والمحروقات والكهرباء هي مسؤولية وزارتي الصحة والطاقة أولاً وآخراً، ومسؤولية الحكومة قبل استقالتها وبعدها، ومسؤولية القوى السياسية التي تتلذّذ بمشهد طوابير الناس على المحطات وتهافتهم على البنزين المجاني حتى لو أحرقهم. مشكلة التهريب مختلفة تماماً عن مشكلة التخزين، سواء كان أدوية أو محروقات أو طعاماً. فحادثة عكار يتشارك في تحمل مسؤوليتها الجيش اللبناني، كما يتحمل مسؤولية الاستعراض الإعلامي على كل الأراضي اللبنانية في حملة المداهمات التي جرت، لأسباب سياسية وانتخابية رئاسية لا أكثر ولا أقل. لأن تخزين المحروقات يشبه تماماً تخزين مصرف لبنان والمصارف أموال اللبنانيين، فلماذا تحرك الجيش في ملف المحروقات، فيما حمى المصارف وأصحابها منذ أكثر من سنة ونصف سنة، ولم يتدخل لمصلحة المودعين؟ علماً بأن ثمة اتهامات تتحدث عن تغطية أمنية يقوم بها ضباط في أجهزة أمنية في ملف المازوت تحديداً، إضافة الى نواب يحتكرون هذه السوق ويوزعونها على مفاتيح انتخابية في مناطق مختلفة الانتماءات الطائفية والسياسية، لإبقاء عدد من المولدات من دون تقنين. ولماذا تتحرك القوى الأمنية لضرب شبان يتظاهرون، وتسحل وليام شقيق جو نون وعدداً من أفراد عائلات شهداء المرفأ، ويخرج رئيس الحكومة المكلف وبيان قوى الأمن ليتحدث عن استهداف الأملاك الخاصة، فيما تحمي قوى الأمن المصارف التي اعتدت على ممتلكات الناس الخاصة؟
لا يمكن تبعاً لذلك تحويل الأنظار عن المسؤولين الحقيقيين عن الانهيار الحالي في القطاعات الحيوية على بضعة أشخاص مهما كانت المآخذ في حقهم. لأن ما يجري من استهتار في ملف تشكيل الحكومة يعادل تماماً الاستهتار الذي تمارسه الوزارات المختصة. فكل من في مؤسسة كهرباء لبنان يعرف تماماً ويروي كيف أن المعامل الحالية، على رغم عدم صيانتها، قادرة على العمل بما لايقل عن عشر ساعات يومياً، إلى حين انفراج الأزمة، هذا عدا عن كل ما يطرح من أسئلة حول النفط العراقي. لكن ما كان سارياً سابقاً ويسري اليوم هو مزيد من عملية الكباش السياسي والإمعان في استخدام الانهيار وسيلة قمع سياسي، قبل أن يحين فعلياً قرار تأليف الحكومة، والاستفادة من أموال صندوق النقد التي تعد الطبقة السياسية نفسها بها قبل موسم الانتخابات.
حين بدأت تتوالى أخبار الانسحاب الأميركي والدولي من أفغانستان، تلهّى اللبنانيون بإطلاق النكات حول وضع المتحالفين مع الولايات المتحدة في لبنان، من دون الأخذ في الاعتبار انعكاس الحدث الدولي الأخطر منذ سنوات، على وضع المنطقة. في اللحظة نفسها، كانت السفيرة الأميركية دوروثي شيا في بعبدا، وكان الكلام لدى أكثر من طرف سياسي أن ترددات أفغانستان ستعيد الملف اللبناني دولياً خطوات الى الوراء. وهذا يعني أن فرص التأليف قد تضيع، إذا لم يُحسِن طرفا التأليف إدارة الملف لتشكيل الحكومة في اللحظة المناسبة. إلا أن القوى السياسية كافة أخذت الوضع الداخلي برمّته نحو الحد الأقصى، وغامرت فعلياً بالمواجهة مستخدمة كل الأساليب المسموحة، التي لم تقارب حتى الآن استعمال العنف الجسدي. فأداء رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وخلفه التيار الوطني الحر، من جهة، والرئيس المكلف نجيب ميقاتي وخلفه رؤساء الحكومات السابقون، من الجهة الأخرى، يدلّ على أن الفريقين يتعاملان في التشكيل الحكومي وكأن البلاد تعيش ترف انتظار تشكيل الحكومة، من دون الالتفات الى المعاناة اليومية التي يعيشها اللبنانيون. فحين يتحول الكلام الى محاصصة مكشوفة بين ما يريده ميقاتي والحلفاء الذين سمّوه أكانوا مسيحيين أم مسلمين بوهب حصص أو التمسك بأسماء منزلة، وبين ما يريده رئيس الجمهورية الذي يقلب الطاولة ويعيد مشاورات التأليف الى المربع الأول مهما كانت عواقب موقفه، فهذا يعني أن كلا الفريقين يجعلان التأليف أداة في الصراع المكشوف بين اتجاهين لا ثالث لهما حتى الآن. حينها تضيع وسطية ميقاتي، ومعها صورة حكومة الاختصاصيين، ويضيع معها موقع رئيس الجمهورية في معادلة التأليف كحق دستوري، ليتحول شريكاً في المحاصصة المسيحية الصرف، على قاعدة أن ميثاقية التكليف لا تشبه بشيء تغطية ميثاقية التأليف، وإلا فلا توقيع لرئيس الجمهورية.
حتى الآن، كان رهان المتفائلين بقرب التشكيل أن ميقاتي يريد أن يكسب الانتخابات النيابية المقبلة بأكبر عدد من المقاعد النيابية، والحكومة العتيدة ستتيح له التصرف من موقع رئيس الحكومة المرشح، على عكس تجاربه السابقة، وعلى غرار ما كان يقوم به الرئيس الراحل رفيق الحريري ولاحقاً الرئيس سعد الحريري. إضافة الى أن ميقاتي لا يمكن أن يغامر برصيده العربي والغربي في القيام بخطوة ناقصة لا تؤدي الى التشكيل. لكن هذا الرهان لم يأخذ في الاعتبار أن عون لم يتغير، وأن أيّ مسّ بالحصص المسيحية لمصلحة أي طرف مسيحي، يزيده استفزازاً، كما أنه والتيار لا يخفيان صراحة نيات استهداف الرئيس نبيه بري في عملية التشكيل وخارجها، رغم علمهما بأنه لن يسكت عن استفزازه، فيزيدان نسبة الاستفزاز، ليصبح التشكيل يدور في حلقة مفرغة. ما يجري حتى الآن، لا يزال كما كان عليه الوضع الحكومي حين كلف مصطفى أديب وبعده الحريري وبعدهما ميقاتي. أما ما خلا ذلك، فانهيار جميع اللبنانيين يشبه بفظاعته مشهد الأفغان الهاربين من مقاتلي طالبان. وهذه ليست نكتة أبداً.