الجمعة, نوفمبر 22
Banner

تأليف الحكومة كل يوم بيومه: من وليام بيرنز إلى غادة عون

عملية تأليف الحكومة وصلت إلى حائط مسدود. لكن البلاد تعيش يوماً بيوم. وقائع يوم أمس، غير المعلنة، تشير إلى أن تأليف الحكومة لن يتم، وأن الرئيس نجيب ميقاتي يتّجه نحو الاعتذار مطلع الشهر المقبل. لكن، مجدداً، البلاد تعيش يوماً بيوم. ربما سينقلب المشهد اليوم، أو غداً، فتبصر الحكومة النور، وخاصة أن ميقاتي لم يُكلَّف ليعتذر، بل ليؤلّف حكومتين: واحدة تُجري الانتخابات النيابية، وأخرى بعدها. في شتى الأحوال، الجزم بوجهة ما سيسلكها الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية يكاد يكون مستحيلاً.

منذ تموز الماضي، تعيش البلاد على وقع “المبادرة القطرية” التي ابتدأت بزيارة وزير خارجية قطر، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لبيروت، ولقائه عدداً من المسؤولين. هذه المبادرة ورثت المبادرة الفرنسية التي لا تكاد تقف على قدميها حتى تعاود السقوط. وما حمله آل ثاني كان عملياً الغطاء الذي أمّن “اعتذاراً هادئاً” للرئيس سعد الحريري، وتبعه الموفد الفرنسي باتريك دوريل الذي حمل معه “تكليفاً سلساً” لميقاتي. وبين الدوحة وباريس، وعود بالمَنّ والسلوى في حال تأليف الحكومة. لكن، مجدداً، العقدة الخارجية لا تزال أميركية ــــ سعودية. فحتّى يوم أمس، لم تُشعِل الرياض الضوء الأخضر ليعبر الرئيس المكلّف. فيما الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تتمسّك بالانهيار بنداً أول لسياستها اللبنانية. وزيارة السفيرة دوروثي شيا لبعبدا قبل 10 أيام، حيث استقبلها عون بعد لقائها ميقاتي بساعات، لم تكن للحث على تأليف حكومة، أي حكومة. كانت تطالب بتأليف حكومة خالية من أي وزن لرئيس الجمهورية. ما فُهِم من كلامها محاولةُ الضغط على رئيس الجمهورية لكي لا يعترض على أي اسم يُقدّم له لتولّي الحقائب الوزارية. هنا أيضاً، السياسة تُدار يوماً بيوم. وبعد زيارة رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ويليام بيرنز، لبيروت، قبل أقل من أسبوعين، ربما تتعدّل سياسة واشنطن، تكتيكياً، من الانهيار بلا كوابح إلى الانهيار المضبوط جزئياً بوجود حكومة. كانت جولة بيرنز على قادة الأجهزة الأمنية استطلاعية في الجزء الأكبر منها. وسمع كلاماً مفاجئاً عن مخاطر الانهيار على مصالح بلاده في لبنان. في الجزء الآخر، كان الأمن، بطبيعة الحال، حاضراً عند مدير وكالة الاستخبارات الأكبر في العالم (والأكثر ممارسة للقتل والتآمر).

عامل إضافي دخل على الخط، وهو إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بدء استيراد النفط الإيراني. نقلة نوعية قد يحصرها كثيرون في الجانب الاقتصادي، لكنها تتعدّاه إلى السياسي، في نظر واشنطن على الأقل. فالأخيرة ترى في خطوة حزب الله تحدّياً لسياستها. ومما ثبّت هذه النظرة لدى الأميركيين، هو الكلام العالي النبرة الذي أطلقه السيد، في خطابَيه الأخيرين، تجاه السفارة الأميركية في عوكر، ودورها التخريبي في لبنان. هذه النبرة تُفهم في واشنطن خارج لغة الاقتصاد والمحروقات، على أهميتهما.

الحديث عن عقدة خارجية لا يعني أن ما يؤخر التأليف هو آتٍ حصراً من خلف الحدود. لكن، ليس صحيحاً أن المشكلة تكمن في الحقائب وحسب. لا الأزمة هي أزمة حقائب، ولا هي مشكلة أسماء. هذه تفاصيل. أصلاً، برنامج عمل الحكومة تفصيل “بايخ”. هكذا تتعامل القوى السياسية مع التأليف. المشكلة أن الصراع، بعد الانهيار و17 تشرين، وقبل الانتخابات النيابية، يكاد يرقى إلى مستوى الصراع الوجودي عند عدد من القوى. جبران باسيل يرى أن ما يُشنّ عليه، من العقوبات إلى تأليف الحكومة، هو حرب إلغاء سياسي، مع تلويح بما يفوق ذلك. سعد الحريري (ومعه قوى الطائف مجتمعة) يرى مستقبله من المنظار نفسه.

وهذه القوى تعتقد أنها أمام فرصة إسقاط التيار الوطني الحر بالضربة القاضية فلا تقوم له قائمة. في المقابل، التيار لا يقف في موقف دفاعي محض. هو أعلن أنه “سيحرقهم” معه، فيما لو أنهم قرروا إحراقه. على هذه الخلفية، التي يتشابك فيها الداخلي بالخارجي أيضاً (إسقاط التيار الوطني الحر بات مطلباً أميركياً وسعودياً)، تخاض مفاوضات التأليف.

وإلى جانب هذا الصراع، وفي صلبه، ثمة بند وحيد مطروح على طاولة نقاش التأليف، وهو التدقيق الجنائي الذي يطالب به رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. حتى إقالة رياض سلامة ليست مطلباً جدياً لأحد. سبق أن طالب عون القضاء بكفّ يد رياض سلامة عن ممارسة عمله حاكماً لمصرف لبنان، بصرف النظر عمّن سيخلفه. لكن هذه الفكرة جرى كبحها من داخل البيت الرئاسي، “لأن منع سلامة من مزاولة عمله يجعل صلاحياته في يد نائبه الأول، وسيم منصوري”. ثم أضيفت عبارة واضحة من قِبَل بعض أبرز أركان العهد: “إن تسليم مصرف لبنان إلى نبيه بري لا يقل سوءاً عن استمرار سلامة في منصبه”. وبعيداً عن القضاء، فإن عون يُدرك أن أي حكومة لن يجتمع ثلثاها على إسقاط سلامة، قبل نهاية “حاكميته” عام 2023، وهو الذي يحظى بأوسع شبكة حماية داخلية، وتقف خلفه القوة العظمى الوحيدة في العالم.

في هذا السياق تحديداً، أتى قرار المدعية العامة في جبل لبنان، القاضية غادة عون، إصدارَ بلاغ بحث وتحرٍّ بحق رياض سلامة، أمس. الحاكم الذي رفض تلبية استدعاءاتها المتكررة للاستماع إلى إفادته في قضية تحويل أموال إلى الخارج، بات ملاحَقاً. نظرياً، يمكن أي دركيّ يصادفه في الشارع أن يعتقله ويسوقه مخفوراً إلى مكتب القاضية عون. أما عملياً، فلا يُتوقع من المنظومة، وأجهزتها، إلا أن تقف إلى جانب الحاكم الأقوى للجمهورية. سلامة كان يرفض المثول أمام القاضية، لأنه يرى أنها سـ”تبهدله” نيابة عن جبران ياسيل. هو يكذب في السلوك القضائي ككذبه في ممارسة صلاحياته، وفي إعلانه عن الأرقام التي ينبغي ألّا تقول سوى الصدق (في الأسابيع الماضية، سعى إلى إقناع عموم اللبنانيين والمسؤولين الرسميين بأن مصرف لبنان موّل استيراد محروقات بقيمة 828 مليون دولار في شهر تموز وحده، فيما سبق له أن أصدر بنفسه بياناً نهاية الشهر عينه، يشرّح فيه هذا الرقم الذي يتضمّن تمويل موافقات استيراد سابقة وفيول لكهرباء لبنان وموافقات لشهر تموز). يكذب إلى حد أن يصدّق نفسه وهو يبث عبر وسائل الإعلام التابعة له أنه ملاحَق قضائياً في لبنان (من قبل القاضية غادة عون، ومن قبل القاضي جان طنّوس بإشراف النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات) لأسباب متصلة حصراً بالنكاية السياسية، وأنه ملاحَق في سويسرا وفرنسا وغيرهما من الدول، “لأغراض سياسية لبنانية ضيقة” أيضاً!

يصعب توقع تنفيذ قرار القاضية عون. لكن مما لا شك فيه أن الخناق يضيق على سلامة أكثر فأكثر. وسيزداد ضيقاً قبل نهاية أيلول، في جلسة التحقيق التي سيخضع لها أمام القاضي طنّوس، عقب اجتماع في لاهاي يضمّ ممثلي الادعاء العام في 7 دول غربية لتنسيق خطوات التحقيق حول ثروة سلامة المنتشرة. لكن البلاد تعيش يوماً بيوم. ومن غير المستبعد أن يقصد نجيب ميقاتي قصر بعبدا غداً أو بعد غد، ليقدّم تشكيلة إلى رئيس الجمهورية، بقصد أن يرفضها الأخير. سيكسب ميقاتي بعض الوقت، لتمرّ بواخر النفط الإيرانية، وردّة الفعل الأميركية عليها. وربما أيضاً، سيُقنع ويليام بيرنز أصحاب القرار في بلاده بأن المزيد من “الانهيار الحر” سيضرب المصالح الأميركية في لبنان، ويصدر من واشنطن قرار بتسهيل تأليف حكومة تضبط الانهيار. إنما، في شتى الأحوال، سيبقى رياض سلامة في الأشهر المقبلة فارّاً من وجه العدالة. الانهيار ليس سوى انهياره أولاً.

الأخبار

Leave A Reply